مع إعلان البعثة الأممية في ليبيا عن توصل اللجنة الاستشارية في ملتقى الحوار السياسي إلى توافق بشأن آلية تشكيل السلطة التنفيذية وتأكيد تمسكها باجراء الانتخابات العامة في كانون الأول/ديسمبر، يتحضرالقذاذفة للعودة من نافذة الانتخابات الى صدارة المشهد في البلاد.
وفي الوقت الذي يجري فيه تشييد منزلين لآل القذافي “المشردة” في مدينة بني وليد ومنطقة قصر أبو هادي في سرت، يطالب المريدون بضرورة مشاركة النجل الثاني لمعمر، سيف الإسلام، في الاستحقاق الانتخابي المقبل، كونه “يتمتع بقاعدة شعبية عريضة” و”صاحب مشروع متكامل”، بحسب قول أحد وجوه النظام السابق، القيادي في “الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا” سعد السنوسي البرعصي لصحيفة “الشرق الاوسط”.
في ايلول/سبتمبر الماضي، تداولت مواقع ليبية على الإنترنت، مقاطع فيديو وثقت مشاهد لتعليق صور سيف الإسلام على جدران مؤسسات في بعض المدن في غرب البلاد. وقبل ذلك في 20 آب/أغسطس الماضي، خرج المئات من مؤيدي القذافي الابن حاملين الرايات الخضر في شوارع مدينة سرت التي ولد فيها والده معمر، ثم قتل فيها بعد 69 عاماً في أثناء الانتفاضة او الحرب التي دعمها حلف “الناتو” لاطاحته، وبيّنت هذه التظاهرة ان المدينة التي وقفت على خطوط القتال، صارت مركز الحركة لاعادة احياء نظام القذافي، واشّرت الى ان بعض الليبيين يحنّون للفترة المستقرة نسبياً في العهد السابق بعد عشر سنوات من الحرب الأهلية التي مزقت البلاد وهشّمتها.
وتقع سرت في وسط البلاد عند شاطئ البحر المتوسط، ويسيطر عليها “الجيش الوطني” الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ولكنها محاصرة من القوات التابعة لحكومة “الوفاق” برئاسة فائز السراج. ومن المفارقات ان قوات حفتر ردت على التظاهرات بعنف علما أنها تعاونت ولا تزال مع رموز النظام السابق. واذا كان حفتر ورئيس حكومة الوفاق يختلفان على كل شيء، فإنهما متفقان على شيء واحد فقط وهو العداء المطلق لنجل القذافي. وبينما يصفه حفتر بالمسكين الذي يُراهن عليه عددٌ من السُذج، يرى فائز السراج أنه مطلوبٌ يجب تسلميه للمحكمة الجنائية الدولية. لكن الاثنين عادا وتراجعا عن تصريحاتهما، معتبرين أن من حق سيف الإسلام الترشح للانتخابات، إذا توافرت فيه الشروط القانونية لأنه مواطن ليبي، وهو تحوّل اضطر اليه حفتر تحديداً، لأنّ المساس بنجل القذافي يعني فعلياً سقوط قلعته في شرق ليبيا بحكم امتداد القذاذفة القبلي داخلها.
إذا كان حفتر ورئيس حكومة الوفاق يختلفان على كل شيء، فإنهما متفقان على شيء واحد فقط وهو العداء المطلق لنجل القذافي
وكانت قبائل ليبية عدة خصوصا في شرق البلاد، قد سعت الى لمّ شمل أسرة القذافي “المشردة” في عواصم عدة، وإعادة أرملته صفية فركاش وأولادها وأحفادها للاستقرار في ليبيا. لكن الظروف الأمنية آنذاك حالت دون ذلك؛ ثم عادت القبائل نفسها وجددت الطلب في كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعد قرار لجنة مجلس الأمن بشأن ليبيا ويقضي بالإعفاء من تدابير حظر السفر لأسباب إنسانية، والخاصة بثلاثة من أفراد عائلة القذافي، هم أرملته وابنته عائشة، ونجله الأكبر محمد، في خطوة وصفت بـ”الجادة” لتسهيل لم شمل العائلة المُشتتة.
اما سيف الاسلام، فإن احداً لم يرَه في مكان عام منذ ان افرجت عنه “كتيبة أبو بكر الصديق”، التي تسيطر على مدينة الزنتان منذ 11 حزيران/يونيو 2017. وقالت وقتها إنها أفرجت عنه “بناءً على طلب الحكومة المؤقتة”، المدعومة من برلمان طبرق وتتخذ شرق ليبيا مقراً لها. لكن انصاره يؤكدون انه موجود في ليبيا وله حضوره ويتصل بالقبائل الليبية بشكل دائم، لا سيما قبائل الشرق، التي يمثّل أبناؤها خزاناً بشرياً لمعارك حفتر، وأبرزها قبيلة البراعصة التي تتكفل حالياً بتأمين تحركات سيف الإسلام، كون والدته تنحدر منها، وبطبيعة الحال قبيلته القذاذفة، كبرى القبائل الليبية وأكثرها تسليحاً والتي سببت ازمة كبيرة لحفتر في مناطق نفوذها لا سيما في سرت بعد التعرض للتظاهرات الداعمة لسيف.
قبل ايام قليلة، اعلنت وزارة الخارجية الروسية أن مبعوث الرئيس الروسي الخاص بالشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف استقبل في موسكو مفتاح الورفلي وعمر أبو إشريدة، ممثلين حركة “سيف الإسلام القذافي”. وقالت إن الجانبين تبادلا خلال المحادثة وجهات النظر في شأن الوضع الحالي في ليبيا وما حولها، مع التركيز على مشكلة التسوية الشاملة للأزمة الليبية طبقا لقرارات مؤتمر برلين الدولي وأحكام قرار مجلس الأمن الرقم 2510.
وفي السياق نفسه، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، إن القوى السياسية المختلفة في ليبيا، بما في ذلك أنصار معمر القذافي، يجب أن تشارك في الحوار الوطني الليبي، وهي نفسها وجهة النظر الإيطالية التي فاجأت الجميع بأنها لا تُمانع وصول نجل القذافي إلى رئاسة ليبيا عبر انتخابات ديموقراطية.
وليس مستغرباً ان تبقي موسكو، التي حافظت حتى اللحظات على علاقات متينة مع نظام القذافي، قنوات الاتصال مفتوحة مع سيف الاسلام، وان تحفظ له دوره في المشهد السياسي الليبي، لا سيما ان رهانها على حفتر مرهون بتحقيق انتصارات على الارض، بما يحفظ مصالحها وهذا ما لم يتحقق حتى الان برغم الدعم الكبير له.
ليس مستغرباً ان تبقي موسكو قنوات الاتصال مع سيف الاسلام لا سيما ان رهانها على حفتر مرهون بانتصارات على الارض لم تتحقق حتى الآن
وكشفت صحيفة “التايمز” البريطانية إن هناك شبكة من المؤامرات الرامية إلى تمكين سيف الإسلام من زعامة ليبيا، وأن خيوط تلك المؤامرات تقود إلى موسكو. وأوضحت أن من ضمن خيوط تلك المؤامرات قضية السجينين الروسيين ماكسيم شوغالي وسمير سعيفان المعتقلين في ليبيا، واللذين ادعت الحكومة الروسية أنهما باحثان اجتماعيان “اختطفتهما جماعة إرهابية تعمل لصالح حكومة الوفاق الوطني” الليبية. واكدت أن الوثائق التي اطلعت عليها، إلى جانب المعلومات التي تبادلها محللون ومحققون عبر ثلاث قارات، تحيل إلى استنتاج آخر هو أن السجينين المعتقلين في سجن معيتيقة كانا جزءاً من خطة صادق عليها الكرملين لإعداد سيف الإسلام القذافي ليكون زعيم ليبيا. وأشارت إلى أن روسيا كانت تعلق الآمال على حفتر لتحقيق نصر عسكري على حكومة السراج، ولكن تلك الآمال ذهبت أدراج الرياح بعد الهزائم المتوالية التي منيت بها قواته على يد حكومة الوفاق مدعومة من تركيا.
الظهور العلني لسيف الاسلام لا يزال يجابه بأمر بالقبض عليه أصدرته المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمه بالضلوع بدور في قمع الثورة عام 2011، ويقول مساعدون له إنه ينشط للعودة، ويركز على أولوية الإفراج عن إخوته والمسؤولين في عهد والده، ومن هؤلاء شقيقه الساعدي القذافي الذي لا يزال في السجن بعدما برأته محكمة قبل عامين من تهمة قتل مدرب كرة قدم.
لكن مذكرة القبض الدولية لا تعيق القذافي الابن من الترشح، ذلك ان ليبيا ليست موقعة على ميثاق المحكمة الدولية، كذلك فإن أعلى سلطة في ليبيا، ممثلة بالبرلمان، أصدرت عفواً عاماً ينطبق على سيف الإسلام، وتالياً فهو يتمتع بحقوق المواطنة كاملة وأهمها حق الترشح.
ويرى انصار القذافي ان غالبية المهجرين من ليبيا بعد الحرب هم من مناصري القذافي الذين رحلوا على ايدي مناصري انتفاضة شباط/ فبراير 2011، وهؤلاء يشكلون اكثر من إجمالي الليبيين الذين سجلوا في السجل الانتخابي حالياً، وتالياً فإن هؤلاء يرون في سيف الإسلام، السبيل الوحيد لعودتهم إلى وطنهم وبيوتهم، وسيكونون نقطة الحسم في السباق الانتخابي.
مؤشرات عدة تقول إن عائلة القذافي ورجالها يعودون بقوة للمشهد، ولكن الجميع ينتظر لم الشمل، وقد يكون برعاية مصرية-إماراتية
لكن فريقاً آخر يرى ان نجل القذافي سيفشل في حال أقدم على الترشح، لأنه من المستحيل تسليم البلاد الى شخص، قُتل والده واخوته وسُجن سبع سنوات، لأنه سيكون حاقدا وسينظر الى خصومه كاعداء. كما ان كل بيت في ليبيا خسر عزيزا في انتفاضة 2011 وتالياً فان غالبية الليبيين ستنظر الى ابن القذافي كقاتل.
ربما يفاجىء سيف الاسلام الليبيين بعدم الترشح بشخصه، وقد يتطلع الى حكم البلاد عبر الدفع بترشيح شخصية وسطية محنكة تخرج من وصايته وتتولى ادارة المرحلة الانتقالية على مدى اربع سنوات تمهيدا لعودة آل القذافي الى سدة السلطة مباشرة.
مؤشرات عدة تقول إن عائلة القذافي ورجالها يعودون بقوة للمشهد، ولكن الجميع ينتظر لم الشمل، وقد يكون برعاية مصرية-إماراتية، تجمع شتات العائلة ومناصريها، وتفتح الباب أمام اتفاقات جديدة مع القبائل الليبية، التي يدين بعضها بالولاء لعائلة القذافي.
مصر التي ترى في ليبيا مدى حيويا لامنها القومي لا يمكن العبث به، حاولت من قبل تحريك وزير الشطرنج الخاص بها، أحمد قذاف الدم، ولكن برغم محاولاته المتعددة، إلا أنه لا يستطيع ملء فراغ سيف الإسلام. كذلك فشل رهانها على حفتر مثلها مثل روسيا، فلا غرابة ان تتطلع الى بديل يوفر لها مصالحها ولا سيما الأمنية.
وهكذا لا شيء مستبعداً في الملف الليبي، بعدما الهبت نيران جشع الدول الكبرى والصغرى والصراعات القبلية والميليشيات والمرتزقة واجهزة الاستخبارات صحارى البلاد ومدنها ومرافئها والتهمت مواردها وخيراتها، وحولت سياسي ليبيا على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم والتحالفات الى دمى تحرك بخيوط خارجية تبعا للاهواء والمصالح.