نهاية العقد الثاني للألفية الثانية: إلى أين نتجه؟

مرّ العقد الثاني في الألفية الثانية. عقد حافل بالكثير من الوقائع التي يمكن أن يساعدنا تحليلها في فهم أفضل للصراع القائم ومساره لا سيّما في الإقليم بحيث يمكن الارتكاز عليها مفاهيمياً والتأسيس لأي تحليل أو مقاربة في قابل الأيام.

في البداية، ثمة تذكير أنّ السياسة ليست اللحظة التي أقف فيها الآن إنّما هي الأوْلى “الى أين اتّجه من هنا”؟، وهذا هو الأهّم، إذا أنّها مسارات وليست لحظات نقطوية منفصلة أو كبسولة.

وتتمايز السياسة اليوم في قراءتها عن الماضي حين غلب التكميم على التحليل ربطاً بالمدارس المفّسرة وخصوصاً الواقعية، فيتداخل اليوم بشكل غير مسبوق الكّمي والكيفي، والربط بينهما وهو ما يحتاج الى حكمة وتبّصر خاصين، فكثيراً ما يبدو فعلٌ معيّنٌ بمثابة إنجاز في لحظته لطرف معيّن، لكنّ بالعمق قد يحمل بذوراً وأرضية لفرص كبيرة للخصم. فالسياسة لم يعد قوامها الأساس استخدام أزرار القوّة التي تدخّل حالة التوّزع والتكّثر وإعادة المفهمة بل الأهّم اليوم، أيُّ الأزرار عليّ أن أضغط ومتى، وماذا بعد!

عود الى النتائج والخلاصات في ضوء العقد الأخير من الألفية الثانية. يمكن القول:

أولاً، إنّ الخاسر الأكبر خلال العقد الأخير هي الولايات المتحدة لا سيّما في سنواتها الأخيرة مع دونالد ترامب. صورتها وهيبتها تراجعت؛ نموذجها كأحد أعمدة القوّة تراجع؛ فتك كوفيد 19 بشعبها كما لم يحصل مع أية دولة أخرى؛ الشقاق بين مكوّناتها تعمّق تباعاً؛ والديمقراطية ظهرت مأزومة ومرشّحة لمزيد من الإشكالات كنظام حكم وفلسفة حياة. ولنا أن ندّعي أنّه لم يتحّقق أي من أهدافها التي أعلنتها وادّعت العمل عليها في المنطقة ـ اللهم إلاّ اعتبرنا صفقة القرن كهدف كبير تحقّق وهو ما يحتاج إلى حديث مفصّل وفيه أخذ ورد.

ثانياً، الهوّة تتسّع بين خطابي الديموقراطية والليبرالية. بدا أنّ أميركا تريد من الآخرين كثيراً من الليبرالية لا سيما في مجتمعاتنا وقليلاً من الديموقراطية. ما يعني أنّها بالعمق لا تمتلك اليوم خطاباً للمجتمعات ولا لمجتمعها أوّلاً! وهذا مغاير لما كانت عليه أيام حيويتها بعيد الحرب العالمية الأولى أو الثانية.

ثالثاً، الحروب العسكرية الكبرى والمفتوحة تكاد تصير من الماضي، فالقوّة المادية تدخل محدوديتها، ما يرّشح الفواعل للبحث عن مساحات تأثير جديدة في سياق الصراع القائم وإيجاد أدوات عمل ومنهجيات جديدة، فالمفاهيم التقليدية لم تعد قائمة أي “حرب سلم، كلاسيكي شعبي، نصر حاسم وهزيمة”.

رابعاً، حروب الجيل الخامس أو ما سمّيت بـ”الثورات الملّونة” ثبت أنّها “موجة وهم” برغم أذاها، لكن سرعان ما تسقطها الحقائق وطبيعة وقوّة الواقع و”اليقظة” التي دخلت فيها عموم الشعوب التي قاومت، بحيث سرعان ما تعود القوى الفعلية غير المنفوخة إلى إستعادة المبادرة (النموذج الأخير فنزويلا).

الشعبوية عززّت من حضورها الشعبي حتّى لو خسرت الانتخابات الأميركية لكنّها أثبتت قوّتها وجاذبية خطابها عند شرائح واسعة من المجتمعات الغربية وستبقى عنواناً مقلقاً ومدخلاً لـ”اللااستقرار” المرشّح للتفاقم في الغرب

خامساً، قوام الصراعات اليوم هو الإرادات والإدراكات والوعي، وما يستتبعه ذلك من ضرورات البحث عن الشرعيات أو المشروعيات وإضفائها أو انتزاعها. وعلى الشارع كمصدر لتعزيز الشرعية وتثبيتها، وبالتالي من يمتلك عناصر ذلك ستجنح الأمور لصالحه تباعاً.

سادساً، لوحظ اتساع الهوّة بين أنظمة الحكم وبين الشعوب حتّى في أعرق الديموقراطيات والدول القومية (أميركا وبريطانيا وفرنسا..)، ما أدخلنا مجدداً في سؤال مستقبل الدولة كمفهوم وفكرة إجتماعية سياسية. وضرورات العمل على تطويرها والإنشغال الفكري بذلك.

سابعاً، الشعبوية عززّت من حضورها الشعبي حتّى لو خسرت الانتخابات الأميركية لكنّها أثبتت قوّتها وجاذبية خطابها عند شرائح واسعة من المجتمعات الغربية وستبقى عنواناً مقلقاً ومدخلاً لـ”اللااستقرار” المرشّح للتفاقم في الغرب في العقد المقبل.

ثامناً، هناك فراغ قد نشأ على الأرجح، إمّا لتراجع واضح في موقع أميركا ودورها العالمي وإمّا لإنكفائها ـ لأسباب عدّة ـ عن دورها التقليدي الذي لعبته تاريخياً كحامي للديموقراطيات أو كشرطي العالم. بكل الأحوال هناك فراغ كبير ناشئ بسبب التراجع الأميركي في المكانة أو التعديل في الدور والتصّور وإمّا لأنّ الفضاء السياسي العالمي قد توّسع من خلال أسئلة لا تملك أميركا الإجابات عليها. في كلتا الحالتين، بات الفراغ قائماً وتتنافس القوى لملئه، ولمّا كانت القوى الغربية لا سيّما الأوروبية غير مهيّأة لذلك.. فهو يُملأ اليوم من الصين وروسيا وقوى إقليمية كإيران ونوعاً ما تركيا، وأيضاً يمكن تفسير التقارب السعودي ـ الإسرائيلي والتحالف المتوّقع إنطلاقاً من زاوية الرؤية هذه.

تاسعاً، ثبت أنّ أميركا ليس لديها رؤى متماسكة تجاه أي من القضايا التي تواجهها، لا سيّما حيال منطقتنا، فنراها كثيراً لا تعرف “ما لا تريد”، لكنّها نادراً ما تعرف “ما تريد” و”كيف تصل اليه!”. وأثبتت الوقائع أنّها أي أميركا تمتلك تصوراً عاماً لكن لا تمتلك خطة تفصيلية متماسكة ومنسّقة كما اعتدنا عليها في العقود الماضية إبان الحرب الباردة وبُعيدها.

عاشراً، تداعيات الربيع العربي ما زالت قائمة برغم كل الأزمات التي أنتجت، لكن حالات الثورة لا تزال قائمة وموجودة ولم تنته. ولا تكاد أيّ من الدول التي أصابها الربيع العربي تتعافى – حتّى لو بدا المشهد انتهى ظاهرياً – من مصر الى سوريا الى البحرين فاليمن فالسودان فتونس فغيرها، مع الفارق النسبي بين كل حالة.. وهذا بذاته يرّشح لمزيد من التحّديات ولكن أيضاً الفرص، وذلك يعتمد الى حد بعيد على الكيفية التي سترى بها القوى والفواعل الأشياء.

إقرأ على موقع 180  أميركا تشبهنا.. من ينقذها؟

حادي عشر، المجتمعات العربية عموماً تعيش لحظة تحّول عميقة تطال كل شيء وصولاً للمفاهيم والأحزاب التقليدية التي فشلت في الغرب أولاً وعندنا، فالقديم بغالبيته قد مات أو هو ينازع ويحتضر، والجديد يبحث أن يولد، لكن من يحّدده وكيف؟ هذا ما سوف تفرزه نواتج المخاض القائم حالياً.

ثاني عشر، انتهى ما كان يسّمى النظام الإقليمي وضمناً النظام العربي، ولم تعد أي من مؤسساته معّبرة عنه، والضربة النهائية كانت في التطبيع أو التحالف الذي نشأ بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وانتهاء آخر مسألة إجماع عربي كانت قائمة أي الإجماع حول القضية الفلسطينية، فكيف سيبنى النظام الإقليمي المقبل وبأية صورة وعلى أيّة قواعد ومفاهيم؟. ولا ينوجد أي مؤشّر معتّد به لتقاطعات يمكن أن تشّكل أرضية تلاقٍ عربي، فحجم الصدع والإختلافات حتّى بين الأنظمة المتحالفة ـ أو تدّعي ذلك ـ أكبر من أن يشّكل أرضية نهوض أو أرضية تساعد على مواجهة الأزمات وتفاقمها، فضلاً عن انشغال كل دولنا العربية بأزماتها، ما سيوّسع النقاش في حقيقة وامكانية الدور العربي في اجتراح المولود الجديد.

بقى احتمال أن يرّشح خيار العقوبات المنطقة في نهاية المطاف للحروب الكبرى كخيار أخير غير مرغوب وهو ما لا تريده أي من القوى العالمية ولا تريده أميركا ولا إيران بالذات كرأسين للمحورين المتصارعين في المنطقة والإقليم

ثالث عشر، أسلوب الضغط الإقتصادي الذي اعتمدته الإدارات الأميركية لم يبد أنّه يوصل الى نتيجة مرجوّة برغم آثاره الكبيرة والمؤذية، لكن بالعمق لم يتحّول هذا الضغط الى معطى سياسي بل بقيت نتائجه متأرجحة بين حدّين: رفض إذعان الدول وانتقالها للبحث عن خيارات أخرى أو السعي للإعتماد على ذاتها وتجويف العقوبات وتفريغها. ولعل خصائص المنطقة تحول دون نجاح العقوبات ومن نتائج الضغط غير المباشرة لكن الحساسة أنّه ساعد في انزياح المجتمعات نحو التشّدد والرغبة في التحّدي. ويبقى احتمال أخير لأثر العقوبات إذا ما فشلت الدول في التحايل عليه أو ايجاد خيارات أخرى أو الاعتماد على ذواتها، يبقى احتمال أن يرّشح المنطقة في نهاية المطاف للحروب الكبرى كخيار أخير غير مرغوب وهو ما لا تريده أي من القوى العالمية ولا تريده أميركا ولا إيران بالذات كرأسين للمحورين المتصارعين في المنطقة والإقليم.

وعملياً وبحسب التجربة، يمكن القول أنّ تشابك مجتمعات المنطقة وتداخلها يصعب أن تنجح معه أي سياسة ضغط إقتصادي أو سياسة حرمان إقتصادي لمجتمع ما، وهناك بين المتصارعين – أميركا وإيران ـ من أساليب الضغط المتبادلة بين الفواعل ما يحّد من تأثيرها.

رابع عشر، لبنان أصبح محورياً بعد أن كان يدار من الآخرين ويوكل اليهم بحسب الرؤى الأميركية التاريخية للعلاقة به، ما استرعى من الأميركي الولوج للعمل المباشر فيه، وهذا ما رشّح ويرّشح لبنان لأزمات غير معهودة ولإشتباك متعّدد الأوجه في سياق الصراع بين القوى المقاومة والأميركيين.

خامس عشر، سياسات أميركا “المربكة والفاقدة للكيفيات” في ساحات صراع عدّة ومن بينها لبنان، أتاحت لخصومها منصّات ومواقع تأثير وحضور جديدة، بحيث أدّت سياساتها الى اعدام حلفائها ومع غياب بديل فعلي عنهم لمواجهة خصومها، ما اضطرها أن تنخرط مباشرة في الصراع.. وهذا بذاته قوّى خصومها حين أصبحوا القوّة الوحيدة بين غالبية ضعفاء!. وأدخلهم إلى مساحات كانت تعتبر ممنوعات ومحرّمات لا تمّس وهي حكراً على أميركا وحلفائها تاريخياً (كما في لبنان).

سادس عشر، ثبت أنّ المعركة بالعمق هي معركة إرادات وتدبير.. فالذي “يريد” ويدّبر ويصبر ويثق بالناس ويكسب ثقتهم هو الأقدر على تجاوز الصعوبات وتحقيق أهدافه على المديين المتوّسط والبعيد.

سابع عشر، تقدّم خيار مقاومة إسرائيل في عموم المنطقة بالمعنى الاستراتيجي برغم الصعوبات التي تعترضه أو ما يسجّل عليه من نقاط تكتيكية، لكنّه اليوم بات الأقدر على اللعب على حافة الهاوية والأكثر استعداداً للحرب إذا وقعت، والأكثر امتلاكاً لأوراق مفاوضة إذا ما أراد الجلوس على طاولة تفاوض دولية.

ثامن عشر، أمّا حلفاء أميركا، بدءاً من الكيان الصهيوني الى دول الخليج، فكلّ منها مرّشح لمزيد من الأزمات الداخلية والتصّدع والإنقسامات، وغير معلوم ما هي نتائج الخطوات التي يسيرونها بعلاقتهم وتحالفهم مع “إسرائيل”، هل ستكون لصالح استقرارهم وازدهارهم ومكانة دولهم أم على حسابها!

تاسع عشر، إنّ القوى المقاومة، دولاً وشعوباً، باتت أكثر تماسكاً واطمئناناً لرؤاها من ذي قبل، بينما يلاحظ أنّ خصومها أكثر انقساماً وتبايناً من ذي قبل، وقوام سياستهم حيال بعضهم سياسة الخطوة خطوة و”العمل بالحبة” وعـ”القطعة”، أي من دون استراتيجية متماسكة تحكم فعلهم وحركتهم.

هذه مجرد أفكار متروك لأهل الرأي إبداء رأيهم فيها والنقاش البنّاء في مضامينها سعياً لتفاعل هو أكثر من ضروري.

Print Friendly, PDF & Email
بلال اللقيس

باحث سياسي، لبنان

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أميركا تشبهنا.. من ينقذها؟