كانت بيروت أكثر اكتظاظاً بالسكان وأعظم ازدحاماً بالسيارات والأوتوبيسات فضلاً عن الترامواي، رحم الله أيامه ودوره في التخفيف من الإزدحام وتكدّس الناس والبضائع والباعة في الشوارع والساحات التي تضيق بأهل العاصمة أو الوافدين إليها من أربع جهات لبنان، كما من محيطه العربي وبعض البلاد البعيدة.
أما طرابلس، فكانت مدينة وادعة، أنيقة، متسعة، فيها مساحات للنظر والبحر جار مؤنس تسمع صدى حركة أمواجه وقد حملها الهواء من الميناء الفسيح الذي يستحضر كل العواصم البحرية الكبرى ومعها تلك الموانئ التي تشابه أعشاش الحب بالدفء الذي تنشره من حولها.
ولأن محيطها كان فقيراً بقدراته المادية، وإن كان غنياً بأرضه وأبنائها وموقعها الذي يربطها ببلاد ما خلف بلاد الشام ويعبر بها إلى أوروبا، فقد إعتُبرت “أم الفقير”، وكان يمكن لمس الود الذي يُكنّه للفيحاء معظم الموظفين، مدنيين وعسكريين، الغرباء عنها أو الذين وفدوا إليها ليخدموا فيها.
كانت طرابلس الشام “عاصمة” لها شعبيتها في لبنان، كما في سوريا، حتى وإن كان كثيرون قد نسوا أو تناسوا عمداً أنها طرابلس – الشام، في حين ما زال آخرون “يعتبرون” بأنها لم تصبح “لبنانية” إلا بعد أحداث وفواجع موجعة سيصعب على العروبيين نسيانها في ما بعد.
***
يختلط في التراث العمراني لطرابلس الروماني مع العربي-الإسلامي مع المملوكي، مع ملاحظة أن الطليان قد أضافوا إليها مطلع القرن العشرين لمسات جمالية في الشوارع والعمارة وإنشاء المسارح ودور السينما فضلاً عن المتاجر الكبرى والمقاهي.
يمكن القول إن طرابلس “ثلاثية”:
المدينة – القلب هي التي تحتفظ بالآثار المملوكية والتركية، والتي أضيفت اليها لمسات إيطالية في ما بعد، فيما طمست آثار الحقبات السابقة على الفتح العربي، قبل أن يضيف إليها التجديد (في فترة ما بين الحربين العالميتين) لمسات من الحداثة.
المدينة الحديثة والأنيقة التي إلتهمت بساتين البرتقال والليمون والموز، سوف تطل على اللبنانيين مع ستينيات قرن مضى، متباهية بأنها أجمل من بيروت، وأوسع من صيدا، وأحدث من أخواتها الكبار حلب ودمشق وحمص وحماه.
في مقابل هذه المدينة وتلك، ظلت طرابلس “أم الفقير” خصوصاً بالنسبة للموظفين – عسكريين ومدنيين – من غير أهلها، الذين يأتونها ليخدموا فيها فيعشقونها ويهنأون بيسر الحياة فيها ورخص أسعار الحاجيات والعلاقات الإجتماعية السهلة.
إن طرابلس تعيش مأساتها منفصلة عن سائر أنحاء لبنان بعدما أسقطت بيارق العروبة والوحدة الوطنية والتقدم، وصار الأمر في أيدي الأعظم طائفية والأغنى بأموالهم والذين فقدوا إيمانهم بالوطن والعروبة والتقدم وشروق الشمس مجدداً
ولأنها مدينة ساحلية، وعاصمة الشمال الذي لم تكن موارده تتيح له أن يدعي الثراء، فقد أطلق عليها الجميع “أم الفقير”.. وكان الموظفون عموماً، لا سيما رجال الدرك والجيش، يغبطون أنفسهم على تعيينهم فيها، حيث يمكنهم أن يعيشوا مرتاحين وإن كانت رواتبهم “عادية”.
ثم أن طرابلس المتخلصة أو المتحررة من عقدة العاصمة، كانت تحنو على الفقراء ومتوسطي الدخل، في حين أن أغنياءها وأصحاب الثروة فيها أخذوا يهربون برساميلهم منها إلى محيطها الساحلي، وصولاً إلى بيروت، لا سيما بعد التغييرات المتلاحقة في سوريا التي عكرت صفو العلاقات بين السوريين أنفسهم، كما بينهم وبين اللبنانيين.
***
مع العهد الشهابي، أواخر الخمسينيات ثم في الستينيات، بدأت طرابلس تنال حقها وتلعب دورها في السلطة، مستفيدة من توجه الرئيس فؤاد شهاب ـ الذي جاء بديلاً من كميل شمعون (1958) ـ إلى انصاف “الداخل”، أي الشمال والجنوب والبقاع، من دون أن ينقص اهتمامه بجبل لبنان وبيروت.
وهكذا أمكن لسياسي شاب مثل رشيد كرامي أن يلعب دوراً مهماً في هذا العهد، ليس فقط نتيجة تقدير لدور والده الزعيم الوطني الراحل عبد الحميد كرامي بشهادة إعتقال موثقة في راشيا مع رجالات دولة الإستقلال، بل للتأكيد أن للعهد الشهابي سياسته أو نهجه المختلف عن عهود سابقيه (كميل شمعون وبشاره الخوري وإميل إده) الذين كانت “زعاماتهم” محصورة في الدائرة الذهبية: أي بيروت وجبل لبنان.. بينما المناطق الأخرى عبارة عن “ملحقات”.
ولقد شغلت عملية إعادة بناء الدولة رشيد كرامي عن إعطاء طرابلس حقها من الإهتمام والرعاية حتى لا يُتهَم بأنه “شمالي” و”طرابلسي”، فانصرف إلى تقديم نفسه رجل دولة وتغيير، وزعيماً لبنانياً لا طرابلسياً أو شمالياً فحسب.
***
لقد كانت طرابلس، دائماً، وبقرار واع من أهلها وقياداتها، عاصمة الشمال كله، ومعبر الخير من وإلى سوريا.
كان الطرابلسي يمضي الصيف في بشري أو إهدن أو المنية أو الضنية، ويمنح عكار بعض إهتمامه باعتبارها أرض الخير، ويهتم بالبترون وما دونها على الساحل في محاولة للتأكيد أن طرابلس هي العاصمة الثانية في لبنان بقدر ما هي “طرابلس الشام” والمعبر إلى حمص وحلب، ومن ثم تركيا فأوروبا، ما يؤكد أنها العاصمة الثانية للبنان و”أم الفقير” وأرض الخير.
***
لأن المال لا وطن له، فإن أثرياء طرابلس ووجهاءها قد أنفقوا بعض البعض من مالهم فيها، والمبالغ الأكبر في مشاريع صناعية أو تجارية أو شركات ذات طبيعة إستثمارية مسجلة في بيروت أو في شتى أنحاء العالم.
في عهد سليمان فرنجية، صارت زغرتا ومعها إهدن عواصم في الشمال. وشقّت زغرتا لنفسها طريقاً لا تمر في طرابلس، ولعبت الحمى الطائفية دوراً في هذا التبدل. وطبيعي أن تتأثر بشري بهذا المناخ خصوصاً بعد صعود “القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع وقبيلته، إلى صدارة المشهد السياسي في الشمال.
طرابلس اليوم مدينة أخرى، بل إنها تكاد تكون نتفاً من مدن كثيرة، فيها القومية العربية، وفيها الإخوانية، فيها الماركسية وأشلاء اليساريين، فيها أهل المال والعقار وفيها الآلاف المؤلفة من المفقرين والبؤساء
في “العهد الشهابي” الذي شغل فيه الراحل رشيد كرامي منصب رئيس الحكومة سنوات طويلة، تمدّدت طرابلس شرقاً وشمالاً وكذلك على الشاطئ متجاوزة الميناء إلى البحصاص والقلمون تاركة الهضاب لجامعة الأرثوذكس في البلمند التي ستضيف كثيراً إلى فروع الجامعة اللبنانية في المدينة، وتعزّز مكانة المدارس الفرنسية (الفرير) والإيطالية فيها.
على أن الحرب الاهلية التي قتلت السياسة في لبنان قد أنهكت طرابلس ورمتها بأنواع من الحمى الطائفية والمذهبية والعنصرية.. خصوصاً عندما أجبر إجتياح العدو الإسرائيلي بيروت بعد الجنوب ومعظم جبل لبنان بما في ذلك القصر الجمهوري في بعبدا (صيف 1982)، المقاومة الفلسطينية على ترك حصنها الحصين في لبنان إلى تونس.. لكن ياسر عرفات قد تمكن من العودة بحراً إلى طرابلس ليقاتل بائساً ويائساً ثم ليغادر مرة أخرى، تاركاً خلفه بقايا منظمات وبقايا أحزاب وبقايا مقاومات متخاصمة وبقايا سلاح يغري بنشوء عصابات مسلحة تحول “المقاومة” إلى “حرب أهلية” بين عصابات شعاراتها خليط من هتافات المرحلة السابقة مع إضافة جائحة إسلاموية وأممية وجهوية وطائفية إلخ.
***
إننا نعيش خارج السياسة، ليس في لبنان وحده، بل في مجمل أنحاء الوطن العربي.. ومن الطبيعي أن يحاول الطوائفيون ومَنْ خَلفَهُم “ملء الفراغ” بالبدائل غير الصحية مثل الطائفية والمذهبية والإغتراب عن الوطن وأهله.
إن طرابلس تعيش مأساتها منفصلة عن سائر أنحاء لبنان بعدما أسقطت بيارق العروبة والوحدة الوطنية والتقدم، وصار الأمر في أيدي الأعظم طائفية والأغنى بأموالهم والذين فقدوا إيمانهم بالوطن والعروبة والتقدم وشروق الشمس مجدداً.
إنها نذر “تبشّر” بعصر جديد من الظلام.
فمع ضرب الوطنية، وتسفيه الدعوة القومية، وتحريم الإشتراكية، لا بد أن تستشري الإقليمية والكيانية والطائفية، ويفرض على المواطن أن يقسّم نفسه (ذاته) بين إيمانه بالبديهيات وحقائق حياته.. فيقفل على نفسه الباب ويعيش وحيداً مع هواجسه.
ولقد إستنزفت الحروب المتعددة التي دارت أو أديرت في هذا الوطن الصغير، مدينة الفيحاء، بل لبنان كله، ومكّنت مجموعات من العصابات المسلحة والممولة من أن تشوّش على صورة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية.. وكانت الشعارات الإسلاموية جاهزة، ومعها أصحاب الأغراض والأطماع من الطوائفيين ورجال المال والإعلام الذين يتعاملون مع السياسة على أنها مصدر ثروات ونفوذ، وهم حاضرون بكامل “عدتهم” لحرف العمل السياسي وتخريب العمل الحزبي بتحريك عوامل الفتنة لضرب القوى الحية جميعاً.
***
طرابلس اليوم مدينة أخرى، بل إنها تكاد تكون نتفاً من مدن كثيرة، فيها القومية العربية، وفيها الإخوانية، فيها الماركسية وأشلاء اليساريين، فيها أهل المال والعقار وفيها الآلاف المؤلفة من المفقرين والبؤساء.
طرابلس اليوم، مدينة بمدن كثيرة، تفتقد للهوية والمرجعية وتشكو من الفراغ الكبير، سياسةً وإقتصاداً وإجتماعاً.
لقد ضُربت وحدة البلاد، وكان طبيعياً أن تكون طرابلس بين الضحايا الأساسيين.
لقد تبعثر الشمال بعاصمته ومدنه وقراه، نتيجة الحروب الجهوية والأهلية والطائفية، التي دبرت ثم فجرت في مختلف جهاته، فابتعدت زغرتا ومعها إهدن عن طرابلس، ونأى الجعاجعة ببشري عن عاصمة الشمال طرابلس.
“خطفت” الزعامات المارونية في زغرتا – إهدن وبشري “رعاياها” عن العمل الوطني – القومي التقدمي وعاصمته طرابلس.. ثم إقتحم الإسلام السياسي الميدان، فإذا الشمال ينزف وطنيته ومشاعره القومية ووحدته الوطنية.
لكن الوطنية أبقى وأصلب عوداً من أن تكسرها الفورات الإنفعالية والكيديات والأغراض الخاصة.
ولسوف تبقى طرابلس قلعة وطنية، عربية الهوية “إشتراكية” المزاج لكي ينال عموم أهلها ما يُوفر لهم الحياة الكريمة.