لقاء ذلك لا يكون خلاص العرب من الرأسمالية الا بثورة تلقائية بشكل ما، والثورة عادة ما تكون غير متوقعة مكاناً وزماناً، والدخول في العالم والاندماج فيه، وتبني ثقافة مع خيارات سياسية تؤكد استقلالية العرب ورفضهم الاستبداد، وموقف من الدين يعتبر الإيمان مسألة تعود الى الفرد بينه وبين خالقه، والتخلي عن اعتبار الدين السياسي للمجتمع وكأن الدين كل ثقافة المجتمع، بل جزءاً منه. الأمر يستدعي نهوضاً نحو تشكيل أمة عربية تتحقق فيها وحدة الدول، لأن الشعوب موحدة، كما بدا في ثورة 2011. الأساسي في ذلك هو بناء الدولة، في كل دولة عربية قطرية موجودة، والخروج الى العالم، وتبني الثقافة العالمية. شرط كل ذلك هو المعرفة والعمل. بذلك نصير أمة منتجة عارفة معتدة بنفسها، خارجة من التخلّف الى الحداثة، رافضة للاستبداد، قابلة للتعددية، منكرة لدين سياسي يقبض على المجتمع وعلى معرفته وقدرته التي بها يفكّر.
يتواكب العمل والإنتاج مع المعرفة واكتساب قيم العمل، شرط أن يكون عملاً منتجاً، وشرط أن تكون المعرفة للعلوم الحديثة. لدينا الكثير، وما يفوق طاقة استيعابنا، من العلوم الدينية، وهي لا تفيد شيئاً سوى الإيمان ومتعلقاته في إرضاء الخالق. لكنها لا تفيدنا شيئاً في فهم وحل مشاكل الحاضر، بالأحرى وجودنا في العالم المعاصر. المعرفة سعي. هي أيضاً اجتهاد فكري. لا يظنن أحد أن إرضاء الخالق ممكن دون تسوية أمورنا على الأرض. فما يفعله الإنسان في هذه الدنيا يقرر مصيره يوم الحساب في الآخرة. لا نكون “خير أمة أخرجت للناس” إذا بقينا على تخلفنا وعجزنا وهزيمتنا، حيث تفرض علينا ثقافة الغرب دون أن تكون لنا القدرة على الاختيار أو الانتقاء منها. عندما نقول بتبني ثقافة الغرب (وهي ثقافة العالم راهنا) يكون المقصود أن نختار منها ما يناسبنا وبإرادتنا. ليس اختيارا، بل خضوعاً واستسلاماً عندما نتلقى ما يفرض علينا. وحالتنا الراهنة هي التلقي دون القدرة على الفعل، ودون القدرة على إنتاج المعرفة، بما في ذلك معرفة بديلة، معرفة تؤكد كل لحظة أننا أبناء تاريخ مجيد وتراث عظيم. لكننا لا نستطيع فهم التراث إلا من خارجه. إن الموضوع ليس غزواً ثقافياً يفرض علينا ما يريده الآخرون، وهذا حاصل معنا، بل مواجهة نأخذ فيها من ثقافة الغرب ما نريد. لكننا لا نستطيع الأخذ من ثقافة الغرب دون نقد ثقافتنا، وانزالها من رتبة المقدس، الذي لا يُمس، الى رتبة الدنيوي الذي يخضع لمختلف أنواع الشك والتردد والحيرة، وبقية ما يحرك خلايا الدماغ، لا من وجهة نظر إنكار للتراث أو رفضه، بل من وجهة إحياء له دون المقدس، وتحت سلطة الدنيوي، وتلبية لحاجات ما يدور على الأرض.
إن حالة الإنكار الثقافي هي ما نعاني منه في وعينا الراهن والحاضر والعلاقات الدولية، أو ما يمكن أن نجعله تحت عنوان وعينا بالعالم الذي في الواقع هو انعكاس لوعينا لأنفسنا؛ كيف نرى أنفسنا، وكيف نرى أنفسنا في العالم، وكيف نرى العالم، بما فيه الامبريالية في بلادنا
يقاس النهوض في الأزمنة الحديثة بالعمل والإنتاج والمعرفة. وهذا يقود الى محاولة تفسير الأزمنة الحديثة والحداثة، أي ما يجعل الأزمنة حديثة. اختلف الباحثون في تعريف الحداثة ومعناها ومؤداها. حتى لا يكادون يتفقون إلا على واحد من معانيها، وهو أنها مغايرة للعصور التي سبقتها. وهذا تعريف سلبي، أي فهم الحداثة بما ليس من نعوتها وأوصافها. ربما كانوا محقين في ذلك. إذا أن الحداثة، وهي سمة العصر، هي الراهن. تعم العالم وتختلف بين مكان وآخر، بين بلد وآخر. على الأقل هناك حداثة البلدان الامبريالية المسيطرة على العالم، وحداثة البلدان الخاضعة للسيطرة الامبريالية. حداثة الغالب تفرض نفسها، وإن بشكل مغاير، على المغلوب. مجتمعاتنا المنعوتة تقليدية ذات حداثة وإن لم تعترف بذلك، وحتى إن لم يعترف لها الغالبون، أو الباحثون من بلدان غالبة. الحريصون على التقاليد أو الحياة التقليدية يصعب عليهم التنازل للحداثة أو القول بأننا مجتمعات حديثة متخلفة، بمعنى أن تقاليدنا أعيدت صياغتها لنا، بمضمون جديد مغاير لما كانت عليه. وطأة الاستعمار دمّرت التقاليد وما أزالتها بل أعادت تركيبها بما يتناسب مع كونها مجتمعات مغلوبة وخاضعة. الحداثة نخرت عظامنا، شئنا أم أبينا.
في الأزمنة القديمة كانت شعوب أقل تقدماً، بدائية أو صحراوية بدوية، تتغلّب على حضارات أكثر تقدما، لكنها كانت مضطرة إلى استهلاك ما تنتجه الشعوب المغلوبة والأكثر تقدماً. والطبيعي هو أن الأكثر تقدماً أكثر إنتاجاً وأكثر تنوعاً فيما ينتج. فكان الغالبون مضطرين إلى تبني ثقافة المغلوبين. لم يعد الأمر كذلك. مع الإمبريالية والحداثة التي تحملها معها، يتبنى المغلوبون ثقافة الغالبين، لأن هؤلاء أكثر إنتاجاً وتنوعاً في إنتاجهم. مع استهلاك منتجاتهم نستهلك ثقافتهم؛ والتقاليد التي حافظنا عليها تكسرت مضامينها، ولم يبقَ منها إلا الهياكل.لا يفيدنا تجاه ذلك الإنكار لتحوّل ثقافي لا نريده، أو لم نرده، لكنه فرض نفسه علينا، بحكم ما نستهلك من الأشياء، لا بحكم ما ننتج. وقليل إنتاجنا، إلا ما يستخرجه الغالبون من أرضنا وبواسطة قوة عملنا المستأجرة لديهم؛ لدى شركاتهم أو عسكرهم أو بيروقراطيتهم. تكون النتيجة أن حداثتنا غير حداثتهم؛ حداثتنا التي ننكر لكنها في أعماق ما نعتقده تقليدياً. فهل نحن مصابون بانفصام الذات؟ وهل ذلك في أساس هزيمتنا أو من نتائجها؟
نستطيع أن نكون فاعلين في العالم إذا استجمعنا أنفسنا بالتعلّم والمعرفة والعمل والإنتاج. ساعتها نرفع رؤوسنا ويشتد زخمنا ويصير لنا تفضّل (من فضل) على العالم. هذا هو معنى الثورة التي سوف تقوم بها مجتمعاتنا، ولو طال الأمد
نستطيع أن نقاوم الإحتلال، لكننا لا نستطيع أن نقاوم الثقافة. نقاوم المرئي ونعجز عن مقاومة غير المرئي. لكنه ليس خفياً إلا بمقدار ما نحن عليه من الإنكار. إن حالة الإنكار الثقافي هي ما نعاني منه في وعينا الراهن والحاضر والعلاقات الدولية، أو ما يمكن أن نجعله تحت عنوان وعينا بالعالم الذي في الواقع هو انعكاس لوعينا لأنفسنا؛ كيف نرى أنفسنا، وكيف نرى أنفسنا في العالم، وكيف نرى العالم، بما فيه الامبريالية في بلادنا. تتشكّل حول الأفكار حالة (حالات) من الأيديولوجيا والمقاومة والزيغان. بسبب ذلك لا نستطيع أن نرى العالم ولا أنفسنا ولا حتى علاقتنا بالسماء بما يُشكّل فهماً للحقيقة أو الحقائق. هي حالة من القعود ولو بدا في الأمر حركة، شللٌ ولو كنا نسير، عقلٌ مستريح ولو كنا نُفكّر، عجزٌ ولو كانت أعضاء الجسم سليمة، جهلٌ ولو اعتقدنا أننا نعرف، غباءٌ ولو اعتقدنا أنفسنا أذكياء أو عارفون، حمقى حتى لو اعتقدنا بالوسطية.
الخروج من حالة الإنكار يستدعي أن نواجه العالم، أن نكون جزءاً منه ولو كان إمبريالياً، وأن نكون ضده في آن معاً. حالة الإنكار رفض لهذه الجدلية. حالة الإنكار، بل انفصام الذات، تقودنا إلى التقلّب بين المواقف دون تفكير. ننقلب على أنفسنا وعلى ما كنا نقاتل من أجله، ونناضل ضده في أقل من لمحة عين.
تستدعي حالة النهوض أن نتصالح مع أنفسنا ومع واقعنا، وأن نستجمع ما تبقى لنا من روح، ونؤطر ذلك في زخم يرتكز على العلم والمعرفة والحداثة التي نختار، ونعيد إنتاج ثقافتنا على أنها جزء من العالم وليست أمراً معزولاً. من يضرب العزلة على نفسه يصاب بالدونية. أساساً لا نعتقد بفرض الإنعزال عن العالم إلا في أوهامنا. نعيش في عالم يأتي إلينا الغير وإن لم نذهب إليه. وعند ذلك نكون مجرد متلقين، نستقبل ما يردنا بعجز المقعدين. نستطيع أن نكون فاعلين في العالم إذا استجمعنا أنفسنا بالتعلّم والمعرفة والعمل والإنتاج. ساعتها نرفع رؤوسنا ويشتد زخمنا ويصير لنا تفضّل (من فضل) على العالم. هذا هو معنى الثورة التي سوف تقوم بها مجتمعاتنا، ولو طال الأمد. وقديماً قيل: لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر.
نستطيع أن نكون أصحاب إرادة وأن نكون أصحاب فعل لا مجرد متلقين، فقط عندما نستجمع أنفسنا فلا نلحق بما لا نريد.