حرب نجوم سيبرانية.. بين “الكيانين”!

تتقاطع التحليلات عند تبلور "كتلة صينية ـ روسية تتصدى للغرب"، بما يفضي إلى وجود كتلتين دوليتين تخوضان ما يُمكن تسميتها بـ"المعركة الناعمة" حتى الآن، ولكنها مرشحة لأن تتحول إلى صراع دام عنيف. ولكن كل هذا يتوقف على قوة الكتلتين (أي الكيانين ومن يدور في فلكهما). من هنا دعونا نُطبّق نظرية "النسبية الخاصة" (special relativity) على تطور هذين الكيانين.

ينص مبدأ النسبية الخاصة على أنه إذا تطور كيانان هما الغرب (1) مقابل الكتلة الصينية الروسية (2) في إطار مرجعي مشترك (العولمة في حالتنا الراهنة)، يجب أن تكون القوانين المطبقة ونتائجها هي نفسها بالنسبة للكيانين. وهذا يشمل جميع القوانين (المادية التي تطبق على الهيكليات الأساسية، ولكن أيضًا الاقتصادية والاجتماعية). ونقصد بالـ«مادية» كل التطورات التكنولوجية التي تقود إلى نمو في كافة المجالات التقنية وبالتالي العسكرية وما شابه. فهل هذا هو الحال بين الكيانين؟ (أنظر أدناه 1 و2).

نحن اليوم نعيش في العصر الرقمي الذي يؤطر كافة مجالات التطور والتكنولوجيا الحربية والمدنية، لكن بمجرد مراقبة التطور الرقمي لهاتين الكتلتين ـ الكيانين 1 و2، يُبيّن أنهما لا ينتميان على الإطلاق إلى مرجع واحد، أي أن التكنولوجيا الرقمية (وبالتالي القوة السيبرانية التي تنعكس على كافة أوجه التقدم) ليست بالمستوى التقني نفسه.

إذا قارنا فقط التقدم التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين في مجالات مختلفة مثل الأمن السيبراني والرقمي والذكاء الاصطناعي و5 G وغيرها الكثير، يتبين أنه في ما يتعلق بالأمن السيبراني، تعتبر الولايات المتحدة والصين القوتين العالميتين الرئيسيتين في هذا المجال، غير أن الولايات المتحدة طوّرت تقنيات متقدمة لحماية الشبكات وأنظمة الكمبيوتر، بينما تشتهر الصين وروسيا بمهاراتهما في القرصنة والتجسس الإلكتروني.

صحيح أن الولايات المتحدة والصين وروسيا هم أقطاب هاتين الكتلتين ولكن ماذا عن الأعضاء الآخرين فيهما؟

إذا كانت الكتلة الغربية تبدو متجانسة من زاوية التقدم التكنولوجي، فإن الكتلة “المناهضة للغرب” تبدو أقل تجانسًا.

هناك عدة طرق لقياس درجة التقدم التكنولوجي لسكان بلد ما؛ ويُعبّر عنه بـ”مؤشر التنافسية العالمية”، ويقاس بمعدل انتشار الإنترنت والهواتف الذكية، وعدد براءات الاختراع المودعة. يمكن تلخيص ذلك من خلال «مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات».

يقيس هذا الفهرس مدى قدرة وتوفر واستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات، مثل الإنترنت والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر وما إلى ذلك في الحياة اليومية لكافة مكونات المجتمع، وهذا ينعكس على مراحل الحروب، كما يُمكن استخدامه لمقارنة درجة التقدم التكنولوجي لمختلف البلدان.

لكن إذا ركزنا على التقدم التكنولوجي، يمكننا أن نرى أن التكافؤ في هذا المجال، بين الصين والهند وروسيا من جهة ودول الكتلة الغربية الأخرى ليس هو نفسه، فالصين دولة من مليار و٣٨٠ مليون نسمة. الهند مليار و٤٢٠ مليون نسمة. روسيا ١٤٣ مليون نسمة. السؤال البديهي: هل يمكن القول بأن استخدام التقنيات المذكورة أعلاه هي في درجات متساوية؟

يتفق المراقبون على أن سكان شرق الصين الساحلي وبعض المدن الداخلية تشهد نموًا رقميًا يعادل الغرب بينما حوالي ٨٦٠ مليون نسمة ما زالوا أبعد ما يمكن عن هذا التطور. وهناك فارق أكبر بين سكان المدن الهندية المتطورة رقميًا وسكان الأرياف بما يزيد عن مليار نسمة. في روسيا، نظرا لعدد السكان الأقل نسبيًا، فإن حوالي ٣٠ مليون نسمة في شرق سيبيريا هم أبعد ما يمكن عن كل تطور رقمي.

وغني القول إن الدول الإفريقية التي تقف إلى جانب مجموعة “البريكس” بعيدة كل البعد عن معايير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هذه.

في المقابل، فإن الانتشار الرقمي بين سكان كتلة الغرب بات كبيراً وأكثر تجانساً، وبالتالي ينعكس هذا على كافة المجالات وخصوصاً القدرات العسكرية المتقدمة.

وإذا أضفنا إلى هذه عوامل مهمة أخرى مثل البنى التحتية والأسس الاجتماعية والطبية والثقافية والسياسات المصرفية للبلد، يمكننا القول إنه لا مجال للمقارنة بين مستوى التقدم التكنولوجي في الكتلة الغربية وبين أي دولة معادية للغرب سواء كانت الهند أو روسيا أو الصين أو حتى البرازيل، وقد بدا ذلك جلياً من خلال القدرة المحدودة للجيش الروسي في حرب أوكرانيا، خصوصاً إذا تمت مقارنتها مع قدرات الولايات المتحدة التي تظهر في كافة عملياتها.

هذا هو السبب الذي يجعل الغرب واثقًا ولا يخشى إحتمال حرب إستنزاف طويلة الأمد في أوكرانيا بل يبدو مستعداً لحرب تدوم طويلاً برغم التعثر الاقتصادي (والملاحظ أن الكتلتين تحاولان النجاة من تداعيات الأزمات الاقتصادية التي ولّدتها الحرب، وهو ما يسمى بـ”اقتصاديات الحروب”).

وهنا، تأخذ صيغة “هزيمة روسيا” معناها الكامل. لأن روسيا التي بدت ضعيفة عسكريا تبدو اليوم ضعيفة أيضاً من الناحية التكنولوجية (أين الضربات الجراحية المحكمة بواسطة الليزر على سبيل المثال وأين المراقبة عبر الأقمار الصناعية؟).

من ناحية أخرى، وعلى الرغم من كل الدراسات حول التقدم التكنولوجي في الصين، لم تتمكن هذه الدولة العظمي من اللحاق بالسباق الذي أطلقه الغرب والذي يمكن تشبيهه بـ”حرب النجوم” التي أطلقها رونالد ريغان في مطلع الثمانينيات الماضية وأدت إلى الإطاحة بالاتحاد السوفياتي.

-(1) تضم الكتلة الغربية (العيون الخمسة وهي الولايات المتحدة، أستراليا، كندا، نيوزيلندا، المملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي واليابان، ويمكننا إضافة كوريا الجنوبية وإسرائيل).

-(2) الكتلة المناهضة للغرب تضم دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا)، تحت قيادة بكين ومعها العديد من دول الجنوب. وتحاول هذه الكتلة الإستفادة من تراجع واشنطن الاستراتيجي لأسباب متعددة (داخلياً: فشل النخبة الحاكمة؛ خارجياً: الحرب في أوكرانيا والتحديات الماثلة في المحيطين الهندي والهادئ). وتستغل الصين، التي تزداد قوتها، هذا الفراغ وتجر كل الساخطين، الذين، كما نرى، عانوا في الماضي من العدوان – الاستعماري أو  الحربي – على يد هذه الكتلة الغربية – باستثناء روسيا.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حسان دياب عندما "يُفضفض": إنها الدولة العميقة!
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حسان دياب عندما "يُفضفض": إنها الدولة العميقة!