لكل لبناني قاتله.. ولبنان هو القتيل الأول

إننا بحاجة ماسة إلى أعداء. ما لدينا من عداء لا يكفينا. وطن ضحلٌ جداً بأجنحة متعادية. كان ذلك كذلك مراراً. عداواتنا الصارخة غير كافية. لا تشفي غليلاً. لا بد من سفك. الكلام المعادي يُبرهَنُ عليه بالقتل.

لبنان شاهد طائش على حالات القتل. لبنان يكتظ بالقتلى، وهم معروفون. دماؤهم تدل عليهم. القتلة ليسوا مجهولين. العنف هو اللغة البديلة للسياسة عندما تنحدر إلى سوية الإرتكاب.

قتلوا لقمان سليم. غريبٌ. لم ترتقِ لغة التخاطب إلى سوية الألم الكبير، الألم الذي يترجم ويفتح العيون على الدموع وعلى الأسئلة القاتلة. اختلف اللبنانيون في تعريف القاتل. من؟ لماذا؟ كيف؟ هذه أسئلة مؤقتة وقاهرة. لبنان لديه جواب حاسم. إسألوا اللبنانيين، سيجيبون بالفم الملآن: فريق يصوّب على “حزب الله” وفريق يبرئه ويصوّب على “إسرائيل”. هذا هو لبنان. لكل فريق قاتل. دائماً لبنان ينتصف. معروف لماذا. هو كذلك من زمانه الطائفي السحيق. هل نعيد إلى ذاكرتنا أسماء الذين إغتيلوا في لبنان. اللائحة طويلة. وحدهم القتلة مجهولون. المرتكبون مخفيون. أصحاب الأمرة إما في السلطة وإما من يمثلهم فيها.

قتل لقمان سليم جريمة بحق لبناني. نستنكر هذه الجريمة. ليس من حق أحد كم أفواه الناس. من حقهم أن يناقشوا، أن يكتبوا، أن يحاوروا، مهما عظمت الفجوة. ولكن لبنان ليس كذلك. تاريخه مسكون بالإنتقام وحماية القاتل.

السيرة الذاتية للبنان تكشف أنه يعيش على حافة الكارثة. هذه المرة، ككل المرات السابقة. هذا دليل على أن لبنان مؤسس على خيانات متبادلة. تأملوا لبنان وتذكروا مقتل الرئيس رفيق الحريري. إنقسم البلد. الإتهامات متبادلة. من إغتيل بعده، خرجوا من المقتلة إلى النسيان. لبنان مشلع بالكامل اليوم، أكثر من أي وقت مضى. حتى الآن لم نقرأ سطراً واحداً عن مجزرة المرفأ والإنفجار اللغز. القضاء، ثم القضاء عليه، منذ إعدام أنطون سعادة: تسلموه ليلاً، حاكموه نهاراً، أعدموه صباحاً. قضاء يرتكب أفظع وأفدح جريمة، بحق قائد ومفكر وزعيم، لا يزال على قيد الحياة، فكراً وأفقاً. وغداً، قد يقتل آخرون، وسيضيع المقتول في الإخبارات، ويتم تجهيل الفاعل. لقد قتل الكثير حتى الآن، ولكننا لم نكتشف بعد أن لبنان هو القتيل الأول.

هذا النص أريده أن يكون فاضحاً جداً. أيها اللبنانيون، باستثناء قلة عاقلة وأخلاقية، أنتم مع القتيل إن كان من “قبيلتكم” فقط. أيها المتخاصمون إنكم تتشابهون. فقط إفتحوا ذاكرتكم قليلا. إستعيدوا أسماء المقتولين غدراً. لن تجدوا قاتلاً واحداً. الإستثناءات قليلة جداً. ثم لا ننسى أن حكامنا اليوم، جاؤوا من الخنادق والجبهات. الحرب اللبنانية لم تكن بالورود. تذكروا الخطف والقتل على الهوية والسحل و… و.. نصيحة: إقرأوا كتاب “أنا الضحية والجلاد أنا” لجوزيف سعادة، وكتابي: “القاتل إن حكى”، إستعيدوا ما رواه أسعد الشفتري. تذكروا الملفات التي حملها وليد جنبلاط إلى التلفزيون، ولم يفتحها، لنعرف من قتل كمال جنبلاط، وهو شبه معروف أو معروف جداً. تذكروا أسماء الذين قتلوا من الطرفين المتصارعين، ولم ينل أحد عقابه. ذاكرتنا مثقوبة وذات نزعة إنتقائية. لكل طائفة لوائحها بأسماء “شهدائها”. لقد سقط كل شيء. إننا عراة أمام أنفسنا، ونتباهى بحشمتنا الأخلاقية. كذّابون نحن. إننا من سلالات تجد تأييداً لجرائمها من خلال الدين والطائفة والأيدولوجيا والله. هناك شعوب تأكل آلهتها عندما تجوع. وهناك شعوب تأكل نفسها بحروبها واغتيالاتها… نحن من أكلة لحومنا بأنيابنا.

أيها اللبنانيون، باستثناء قلة عاقلة وأخلاقية، أنتم مع القتيل إن كان من “قبيلتكم” فقط. أيها المتخاصمون إنكم تتشابهون. فقط إفتحوا ذاكرتكم قليلا. إستعيدوا أسماء المقتولين غدراً. لن تجدوا قاتلاً واحداً. الإستثناءات قليلة جداً

من قتل لقمان سليم؟ الجواب غب الطلب. اللبنانيون منشطرون من قبل. فريق كبير ضد المقاومة، وفريق يوازيه مع المقاومة. ولكل فريق قاتل. الذين ضد المقاومة صوبوا عليها. الآخرون استنكروا وصوّبوا على “إسرائيل” وآخرين… ترى، أين القضاء؟ رجاء، لا تتعبوا أنفسكم. لن تجدوه. هذا هو لبنان عن جد. الكلام الشعري الذي يتغزل فيه، انسوه. كلام أخرق وهزيل وغير مناسب. لبنان في القعر: سياسياً وإقتصادياً وقضائياً وإنسانياً و… لا شفاء له. للبنان كورونا خاصة به وحده. فيروس تربى في خلايا شعوبه الطائفية. اللاطائفيون، أعداد متفرقة. كثيرة العدد، قليلة المردود والفعل.

لن نصل قريباً، أو في ما بعد، إلى شرفة الوطن. أبناء أزقة طائفية نحن. إعلامنا يدل علينا. يشبهنا. يحاكينا. يعادينا إن كنا خصوماً. يكذّب علينا ونصدّقه إن كنا مثله ومن ميوله. لا فسحة للفكر الحر الجريء من دون عقاب. لقمان سليم، لم يكن مناهضاً سرياً للمقاومة وفريقها وحلفائها. مثله كثيرون. هذا هو لبنان. أما كان بالإمكان التعامل مع هذه المواقف والآراء، بنقيضها، وهو واضح ومتوفر ومكتنز؟

لست مؤيداً لطروحات لقمان سليم السياسية، المعلنة والمبرمة. ولكني مناهض، بقوة وصرامة، لقتله. قد تبدو هذه الجملة غير مفيدة أبدا، لأن اللبنانيين إصطفوا طائفياً وسياسياً وانتهى الأمر. وقد لا يقتنع أحد بحرف من هذه الكتابة… لا بأس. وهذا طبيعي وغير مفاجىء. إنما يقلقني الجواب عن السؤال: من غداً؟ من بعد لقمان سليم؟ من بعد؟؟ من بعد؟؟؟

إقرأ على موقع 180  ما فعلته بنا وبغيرنا حرب غزة.. الكاشفة

من الآن فصاعداً سنكتب بانتباه شديد. فهناك ما نعرفه ولا يُروى ولا يوصف ولا يُكشف. وهناك إخبارات في عتمة القضاء، ولو ألقي عليها الضوء، لتعرفنا جيداً، على القتلة الذين حكمونا ويحكموننا وسيحكموننا. هناك أشياء كثيرة يجب أن لا تقال بصوت مرتفع. سيأتي اليوم الذي ينهار فيه جدار الصمت، بشرط أن يتحرر القضاء من عجزه، كي لا يموت المغدورون مرتين.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  التكنولوجيا.. والعبودية الجديدة