معتقل “الهول” حاضنة “داعش” الأخيرة: دينامية صراع وإغتيالات!

يحتلّ مخيّم الهول مكانة خاصة لدى قيادة وعناصر "الدولة الإسلامية" (داعش)، وهو من الملفّات النادرة التي يتعامل معها الأخير بحساسية بالغة ونفس طويل. 

تلعب الروابط العائلية والعشائرية دوراً كبيراً في تعزيز مكانة مخيم الهول لدى قيادة “داعش”، وإحاطته بنوع من الخصوصية. آلاف النساء والأطفال في المخيم هم في الواقع زوجات وأبناء قياديين ومقاتلين في التنظيم. في عقيدة هؤلاء، يرقى الدفاع عن “العرض” و”النسب” إلى مرتبة القداسة، وحين يمتزج ذلك بمبدأ “فك العاني” (تحرير الأسرى)، الذي يعتبر من المحركات الأساسية في أيديولوجيا “داعش”، تصبح القداسة مضاعفة وأعمق تأثيراً. 

لكن طريقة التعاطي مع ملف المخيم خلال السنة الأخيرة، تشير إلى أن قيادة التنظيم قررت إعتماد استراتيجية حل معضلته على نار هادئة، بدلاً من الإنفعال وما يمكن أن يستدرج من قرارات متسرعة.

يقع مخيّم الهول في منطقة منعزلة عند الحدود السورية – العراقية، وتحديداً جنوب بلدة الهول شرقي محافظة الحسكة. 

في مطلع عام 2014، شكلت السيطرة على تلك البلدة، بداية توسع “داعش” في ريف الحسكة الغنيّ بالنفط. ونظراً لأهميتها الاستراتيجية كانت استعادتها من قبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالتعاون مع التحالف الدولي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام التالي باكورة إنجازات الطرفين في مواجهة التقدم الكاسح لتنظيم الدولة في ذلك الحين. 

تزامن ذلك مع استعادة القوات العراقية السيطرة على بلدة سنجار في الضفة المقابلة. كان من الواضح أن القيادة العسكرية الأميركية التي كانت تخطط لمحاربة “داعش”، تعتبر أن قطع الشريان الذي يتغذّى عليه عدوها بين ضفتي الحدود من أولى المهام التي ينبغي تحقيقها. ولعلّ هذه الأهمية الاستراتيجية لموقع المخيم، ما تزال تداعب مخيلة قيادة “داعش” حتى الآن، وتخلق لديها دوافع إضافية لإيلائه اهتماماً خاصاً والتعامل معه بسياسة النفس الطويل.

الظروف الميدانية، والخشية على حياة المعتقلين والأسرى أو المحتجزين في المخيم، إضافة إلى عدم توفر إمكانات عسكرية ولوجستية تعتبر ضرورية لتنفيذ أية خطة لاقتحام المخيم وتحريره، جعلت من الصعب إن لم يكن المستحيل تلبية الدعوة/الأوامر التي وجهها أبو بكر البغدادي الزعيم السابق لداعش (قتل عام 2019) لاستهداف السجون وتحرير الأسرى بما فيها مخيم الهول. 

غير أن انعدام إمكانية القيام بعمل عسكري كبير لم يمنع من وضع خطة تفصيلية تقضي برسم خطوط حمر لإبقاء المخيم بمثابة الحاضنة الشعبية الأخيرة لـ”الخلافة”، ومن أجل تهيئته ليكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أية سيناريوهات مقبلة قد تفرضها تطورات الميدان وواقع المعادلات السياسية والعسكرية القائمة بين الأطراف الفاعلين في المنطقة المحيطة به، كما قال مصدر مقرب من تنظيم “داعش”.

انعدام إمكانية القيام بعمل عسكري كبير لم يمنع “داعش” من وضع خطة تفصيلية تقضي برسم خطوط حمر لإبقاء المخيم بمثابة الحاضنة الشعبية الأخيرة لـ”الخلافة”

وأضاف المصدر في حديثه لموقع 180 بوست عبر تطبيق “تلغرام” أن مصير العوائل (العائلات) يتصدر قائمة اهتمامات قيادة التنظيم في ما يتعلق بمخيم الهول، فالظرف حالياً لا يسمح بالقيام بعمل عسكري كبير، كما أنه “ليس من الحكمة تصعيد الموقف من خلال استهداف أمنيي وعساكر الملاحدة الأكراد”. وأضاف أن “عمليات الاغتيال الأخيرة وتصاعدها لا يتعلق بأي شكل من الأشكال بخطة مدروسة لزعزعة أمن المخيم تمهيداً لاقتحامه من قبل تنظيم الدولة”، مشيراً إلى أن “مثل هذه الخطة تحتاج إلى إمكانات كبيرة وظروف مغايرة، ففرضاً كان بإمكاننا القيام بمثل ذلك، أين سنذهب بعائلاتنا وابنائنا، هل لدينا أي ملاذ آمن نأخذهم إليه”. 

واعتبر المصدر أن الهدف الأولي الذي تسعى إليه “الدولة” بخصوص مخيم الهول هو حماية العوائل من أية أذية، مشدداً على أن كل الاغتيالات التي حصلت في الآونة الأخيرة استهدفت أشخاصاً و”عملاء للملاحدة” الأكراد كانوا يتسببون بأذى لبعض عائلات “المجاهدين” أو “الأنصار”.

وتابع “الاغتيالات تطال كل عنصر يمسّ العوائل بسوء، ولو أرادت “الدولة” قتل دفعة كبيرة من العساكر مرة واحدة لفعلت وهي قادرة بإذن الله، لكن الاغتيالات الآن محصورة بكل من يؤذي العوائل في مخيم الهول.. ومناطق الأكراد خير دليل إذ كل يوم تحصل عشرات عمليات الاغتيالات ضد كوادرهم ومسؤوليهم”.

في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، شهد مخيم الهول مقتل رجل وامرأة. كان الرجل يلقب بـ”النشمي” وهو من أبناء بلدة القوريّة بدير الزور. التهمة هي “التجسس لصالح الأكراد” و(“إيصال الأخبار عن الموحدات العفيفات، وعلى إثر هذا العمل سجنت العديد من الأخوات”)، فكانت التهمة كافية ليتلقى النشمي والمرأة التي كانت بصحبته طعنات بأداة حادة أفضت لوفاتهما.

ما لم يرد في تفاصيل الحادثة السابقة أن “إيصال الأخبار” يتضمن الابلاغ عن محاولات الهروب أو التهريب من المخيم التي تتولاها شبكات تمتد داخل وخارج المخيم تديرها خلايا من “داعش” ومن المتعاونين مع التنظيم. وقبل مقتل النشمي بأيام معدودة، كانت “الأسايش” (قوات الأمن الكردية) قد كشفت محاولة نوعية لتهريب نساء أجنبيات من مخيم الهول عبر وضعهن في صهريج لنقل الوقود.

ومنذ ذلك الحين، بدأت حوادث الاغتيال تتصاعد داخل المخيم، ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة منذ مطلع العام الحالي، حيث سُجّل وقوع أكثر من عشرين عملية إغتيال في شهر كانون الثاني/يناير الماضي فيما أخذت حركة العدّاد تتسارع في شهر شباط/فبراير الحالي الذي تكثفت فيه العمليات بشكل ملحوظ.

وبرغم أن غالبية عمليات الاغتيال تطال لاجئين عراقيين أو سوريين متهمين بالتعامل مع قوات “قسد”، الا أن ثمة اغتيالات أخرى تستهدف أشخاصاً محسوبين على تنظيم “داعش” ما يعكس حقيقة المعركة الأمنية التي تجري في تلك البقعة المعزولة عن العالم. 

وقد نعت صفحات “داعش” على مواقع التواصل الاجتماعي في 9 كانون الثاني/يناير الفائت أحد عناصر التنظيم واصفة إياه بـ”الأخ الغيور على دينه”، وقالت انه “قتل في مخيم الهول بعد اشتباك مع ملاحدة الأكراد”.

وأصبحت الحوالات المالية تمثل إشكالية معقدة بالنسبة لتنظيم “داعش”. فهذه الحوالات ضرورية، من جهة، لتمكين المقيمين في المخيم من عناصره وأنصاره لمواجهة تحديات المعيشة الصعبة وخاصة في ظل الظروف القاسية التي يعاني منها المخيم على الأصعدة كافة، فلا بد من تنظيم وصول مساعدات مالية لهؤلاء لضمان حد أدنى من المعيشة لهم. ولكن من ناحية مقابلة، أصبحت الحوالات بمثابة المصيدة التي تنصبها قوات “الأسايش” من أجل اصطياد عناصر “داعش” والمقربين منه. وخلال الأسبوع المنصرم “اعتُقلت أخت أنصارية في مخيم الهول في الفيز الخامس (القسم الخامس) وذلك بعد ساعات من استلامها لحوالة مالية من مكتب شام للحوالات المعروف في المخيّم”، يقول المصدر نفسه. 

وحسب المصدر ذاته، فإن قوات “الأسايش” تنظر بريبة إلى أية حوالة مالية بمبلغ كبير (أكثر من 500 دولار في الشهر) وتقوم باعتقال مستلمها، لذلك جرى التعميم إلى مجموعات الدعم التابعة لتنظيم “داعش” وإلى أهالي المحتجزين في المخيم “ضرورة الالتزام بعدم إرسال مبالغ كبيرة، وعدم الإرسال من نفس المكان إلى نفس الأخ أو الأخت أكثر من مرة واحدة”.

وذات الأمر يقال بالنسبة إلى شبكات التهريب، فليس كل مهرّب تابع بالضرورة للدولة الإسلامية، بل بعض الشبكات يجري إنشاؤها من قبل “الأسايش” بهدف الإيقاع بالراغبين بالهروب من المخيم. وأصبحت هذه الشبكات من الطرق التي تعتمد عليها القوات الكردية من أجل اعتقال عناصر التنظيم وأنصاره ونقلهم إلى معتقلات أخرى.

وهكذا، على ما يبدو، فإن مخيم الهول بأوضاعه غير المستقرة وتضارب إدارته بين قوات “أسايش” تحرسه من الخارج مع بعض الدوريات في الداخل، وبين إمساك تنظيم “داعش” بإدارته الداخلية من خلال مجموعات الحسبة وقياداته المقيمة فيه، وبعضها بهويات مزورة، يكون قد خلق دينامية خاصة للصراع فيه وعليه، ومن غير المتوقع أن تهدأ هذه الدينامية طالما أن المخيم ما زال مستمراً بوضعه الحالي.

وفي بيان صادر عن حملة “فكوا العاني” التابعة لتنظيم “داعش” ثمة تلخيص لما يريده التنظيم في هذه المرحلة من مخيم الهول، إذ بعد استعراض تقصير “الملاحدة الأكراد” في تأمين مستلزمات العوائل في المخيمات، ونقص الرعاية الصحية، واهتراء الخيم وحاجتها للإصلاح، يوجه البيان رسالة تحذير إلى المسؤولين عن المخيم بقوله: “إن الموحدات الأسيرات والمستضعفين والمستضعفات خطّ أحمر فاعرفوا حدكم والزموا خطكم، وإياكم وغدركم، والليالي حبلى والأيام دول يا كوافر”.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أردوغان راقص محترف على حبال الشعبوية
عبدالله سليمان علي

كاتب وصحافي سوري، وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أردوغان راقص محترف على حبال الشعبوية