ففي أوكرانيا جيوب روسية متمردة دفعت قطاعاً معتبراً في النخبة السياسية النافذة للعمل على إثارة المشاعر القومية الأوكرانية ضد الجارة روسيا والالتزام بتحرير أو استعادة سيادة أوكرانيا كاملة على الأقاليم الناطقة بالروسية. أما المهمة الأوسع مدى وزمناً فهي بالتحديد إضعاف الفرص التي يُمكن أن تتاح لكل من روسيا والصين لتكتمل لهما معاً أو لكل منهما منفردة الإمكانات اللازمة لاحتلال مكانة القطب المنافس للولايات المتحدة. أوكرانيا كانت اختياراً أمثل لبدء مرحلة جديدة في أداء هذه المهمة ضد روسيا كما كانت هونج كونج وتايوان اختيارين أمثلين في الجانب الآسيوي من المهمة ذاتها، ولكن ضد منافس آخر هو الصين.
***
كانت حرب أوكرانيا وما تزال أقرب تطور دولي لصفة الحرب العالمية. اجتمعت فيها قوات أجنبية من عدد متزايد من الجنسيات على هيئة متطوعين ومرتزقة. اجتمعت أيضا أسلحة بأنواع شتى قدّمتها الدول أعضاء الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ويشارك في الجهد العسكري الروسي قوات من الشيشان ودعم من بيلاروسيا. المثير في هذه الحرب والذي يسبغ عليها أو يؤكد صفة العالمية، هو “الدور – اللغز” الذي لعبته عشرات الدول غير المنتمية جغرافياً أو سياسياً لأي من المعسكرين المتحاربين منذ أن اختارت أن تبقى بعيدة قدر إمكانها المحدود عن سباقات الحرب الناشبة بالفعل داخل دائرة “الرجل الأبيض”، فالحرب من منظور هذه الدول، نشبت وتدور في حيز حضاري بعينه يختلف جذرياً عن حيزها الحضاري. نعلم حق العلم أن ضغوطاً معلنة تصاحبها جهود مستميتة من جانب دول تقود وتنظم وتدعم الحرب الأطلسية الأوكرانية ضد روسيا فشلت جميعها في مرحلة أو أخرى من مراحل الإعداد ثم التنفيذ في استدراج دول آسيوية وعلى رأسها الصين والهند. هذان نموذجان رائعان على الموقف الرافض للانسياق في حرب تخص أساساً المرحلة الأحدث في الصراع القديم الجديد الناشب بين القطبين الأمريكي والروسي.
***
من اللافت للإنتباه أيضاً في هذه الحرب أنها على مرِّ أيامها أفرزت مصالح وهذه المصالح خلقت أنواعاً شتى من الضغوط ونظّمت جماعات لخدمتها، أقصد لخدمة هذه المصالح. إيران مثلاً وجدت في الحرب الأوكرانية مصلحة لها تُنفس فيها عن غضب ناتج عن حصار إقتصادي وحملة عقوبات دامت لأكثر من أربعين سنة. ساهمت إيران بطائرات مُسيّرة ولعلها وجدت مؤخراً في الحرب الأوكرانية سوقاً تشتري فيه طائرات حربية. إسرائيل من الناحية الأخرى لم تألُ جهداً لتستفيد فائدة قصوى من ميزة وجودها ملجأ عند الحاجة لعديد اليهود المقيمين في روسيا وأوكرانيا، هؤلاء بالنسبة لها جماعتا ضغط ونفوذ ومعلومات يندر أن يتوفرا لدولة أخرى فضلاً عن مواقع هامة للجماعتين في قطاعات تصدير الحبوب والأسمدة والزيوت. لذلك أصبح للحرب الأوكرانية وظيفة تجعل إسرائيل طرفاً مهماً في جماعة الدول المهتمة بمستقبل الحرب، خاصة وأن مزيداً من التصعيد فيها يجعل من الجاليتين اليهوديتين مصدراً لهجرات على مستوى راق من التعليم والثراء وبعضهم وصل بالفعل بيخوته الخاصة إلى إسرائيل للاحتماء مع ثرواتهم من العقوبات الأوروبية والأمريكية.
***
صالونات الحكم ودهاليزه في أمريكا وألمانيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة صارت تعترف بحقيقة الدولة العميقة التي تتخذ قرارات الحرب والسلم وبخاصة مسألة تزويد أوكرانيا بالسلاح والإغداق على حكومتها بالمعونات المالية بدون حسيب أو رقيب
لا أحد، فيما أظن، يستهين بما تسببت فيه الحرب الأوكرانية على أصعدة مختلفة:
أولاً؛ نشأت مصالح وتعززت أخرى نتيجة رفع الحظر الفعلي والمادي والدستوري والمعنوي الذي كان مفروضاً أو معمولاً به ذاتياً على مسألة التسلح وربما العودة إلى نظام المجتمع المتعسكر وبخاصة في كل من ألمانيا واليابان.
ثانياً؛ عاد الحديث مجدداً ومعمقاً عن قضية هيمنة أو تسلط مجموعة المصالح المرتبطة بدور المجمع الصناعي العسكري في إدارة أو على الأقل التأثير غير المباشر في السياسة والاقتصاد ومختلف أبعاد المجتمعات المتقدمة. صالونات الحكم ودهاليزه في أمريكا وألمانيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة صارت تعترف بحقيقة الدولة العميقة التي تتخذ قرارات الحرب والسلم وبخاصة مسألة تزويد أوكرانيا بالسلاح والإغداق على حكومتها بالمعونات المالية بدون حسيب أو رقيب. عادوا في الغرب ينبشون في قاعات الحكم بحثاً عن تفاصيل الدولة العميقة في أحدث صورها. سمعت من أصدقاء في المملكة المتحدة أن البحث في قاع الدولة جار وفي صمت.
ثالثاً؛ الأهم من وجهة نظري في ما هو جار على صعيد الصناعة والصناعة العسكرية تحديداً هو أن من بيدهم الأمر في أمريكا وربما في ألمانيا والصين عازمون على تجديد ترسانتهم العسكرية. أظن أن البشرية في انتظار أدوات قتل جماعي تتفوق في صنعها على أبرع وأكفأ ما أنتج العقل البشري. هذا التحديث يتطلب صناعة بالغة التقدم وعلوماً رقمية متطورة وسرعة في الأداء تتجاوز ما عهدناه. كل هذا يستدعي التخلص ولكن بسرعات متفاوتة ومناسبة من كافة الأسلحة المودعة في مخازن وقواعد الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا وبعض دول شرق أوروبا مثل بولندا. فلتذهب كل الأسلحة القديمة إلى أوكرانيا لتتفرغ المصانع الأمريكية مرة أخرى لإنتاج أسلحة جديدة وبكميات هائلة مثلما فعلت في مطلع الحرب العالمية الثانية.
رابعاً؛ الحديث في معظم بلاد العالم الثالث يتكثف من جديد حول ما فعله الاستعمار الأوروبي بهذه البلاد. يصعب أن أصف ما سمعته من تعليقات إفريقية على حال دول الغرب نتيجة عجز الطاقة ومشكلات توفير الضرورات والتضخم بأنه مجرد شماتة. إنه غضب حقيقي. يتحدثون عن مسئولية الغرب عن تخلف بلادهم. يقارنون بين الاتهامات الموجهة لروسيا والنية في محاكمة فلاديمير بوتين ورفاقه على جرائم حرب ارتكبتها قواتهم وبين ما ارتكبته قوات أمريكا في العراق وأفغانستان وفي مواقع أخرى وما ارتكبته فرنسا وبريطانيا العظمي وبلجيكا وهولندا وإسبانيا والبرتغال على امتداد قرون. حان وقت الحساب ودفع الثمن. يتكثف الحديث أيضاً عما صار يُعرف بالسباق الأوروبي الاستعماري الثاني على إفريقيا وعن حاجة الأفارقة للانتباه وحماية ما تبقى من ثروات طبيعية. بمعنى آخر وبكلمات لا يخفيها دبلوماسيون عرب وأفارقة ومن أمريكا اللاتينية تتردد عبارة أوكرانيا ليست شأناً يخصنا وقريباً ستنقسمون في ما بينكم في سعيكم لقسمة أفريقيا أو قسمة النفط والغاز أو في توزيع الأدوار في حرب تايوان لوقف النهضة الصينية ولعودة الانفرادية الأمريكية إلى قيادة النظام الدولي.
خامساً؛ بالرغم من الهيمنة شبه المطلقة للإعلام الأمريكي على شئون الحرب الأوكرانية يتأكد يوماً بعد الآخر أن بعض شعوب أوروبا بل وقطاعات في الشعب الأمريكي بدأت تفصح عن عدم رضاء عن التدفق المبالغ فيه من السلاح والذخائر والأموال على الحرب في أوكرانيا. زادت أيضاً وبشكل مفاجئ ممارسات العنف في مدن أمريكية وظهرت إحصاءات تكشف عن موجات من الأمراض النفسية تجتاح المدارس وربما امتدت إلى داخل الكونجرس الأمريكي. هذه وغيرها أمور تحدث عندما تكون الدولة في حرب فعلية. واشنطن تنفي أن أمريكا في حالة حرب بينما الإنفاق إنفاق حرب والتحول المفرط والعاجل في أنماط التصنيع العسكري لا يحدث إلا في سنوات حرب أو الاستعداد لحرب.
***
نتساءل مع أعداد متزايدة من المراقبين والمهتمين عن أسباب غياب النية لدى أمريكا ودول غربية أخرى في تدشين مفاوضات لوقف الحرب الناشبة في أوكرانيا أو على الأقل لبعث الأمل في نهاية قريبة. من ناحيتي، أعتقد أن دوافع استمرار حالة الحرب لدى الجهات التي خطّطت لهذه الحرب والجهات المستفيدة من نشوبها ما تزال أقوى وأكثر من دوافع وقفها.