يقول الكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية”، إنه برغم مرور أكثر من تسعة أشهر على أوسع حملة إغتيالات وقتل متعمدة نفذها عملاء وقتلة محترفون في أجهزة الإستخبارات “الإسرائيلية” ضد أهداف فلسطينية رداً على عملية ميونيخ، إعتبر مسؤولون “إسرائيليون” أن الإنتقام لعملية “منظمة أيلول الأسود” في ميونيخ (قتل الرياضيين خلال الألعاب الأولمبية في العام 1972) لم يتم بعد، إذ أن أحداً من المسؤولين الأحد عشر (بحسب تقدير “إسرائيل”) عن التخطيط والتنفيذ لعملية ميونيخ لم يقتل، ومن بين هؤلاء ثلاثة من الناجين الفلسطينيين من عملية ميونيخ إعتقلوا في ألمانيا وأطلق سراحهم في عملية تبادل بعد أن خطفت مجموعة من “أيلول الأسود” طائرة “لوفتهانزا” ألمانية وأجبروا السلطات الألمانية على إطلاق سراح الثلاثة.
يقول الكاتب رونين بيرغمان إنه على رأس لائحة المطلوبين الاحد عشر هؤلاء كان علي حسن سلامة (1941ـ 1979) مسؤول العمليات في “منظمة أيلول”، وكان والد سلامة احد اثنين قادا القوات الفلسطينيية في العام 1947 اثر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين والذي أدى إلى قيام دولة “إسرائيل”، وقد فشلت قوات “الهاغاناه” الصهيونية في قتل سلامة الاب بالرغم من كل محاولاتها إلى أن قتل في إحدى المعارك على أرض فلسطين.
وينقل بيرغمان عن علي سلامة الملقب بـ”أبو حسن سلامة”، قوله في واحدة من المقابلتين الوحيدتين اللتين اجراهما في حياته: “كوني ابن حسن سلامة شكّل عبئاً ثقيلاً عليّ، فقد كنت أريد أن أكون أنا نفسي ولكن كنت أعي أن حقيقة كوني إبن حسن سلامة أصبحت مُطالباً بأن أعيش وفقاً لهذه الحقيقة، ولكن أحداً لم يقل لي كيف يجب أن أكون حتى أبقى على مستوى هذه الحقيقة، فكل نشأتي كانت مسيّسة وعشت القضية الفلسطينية عندما كانت هذه القضية تواجه حلقة مفرغة، فقد كان الشعب مشتتاً وبلا قيادة وأنا كنت جزءاً من هذا التشتت ووالدتي كانت تريدني حسن سلامة آخر”.
في أواسط ستينيات القرن الماضي، أدى الضغط الذي مارسته عائلة سلامة عليه بالاضافة إلى ضغط ياسر عرفات إلى أن يتوجه الشاب علي سلامة إلى أحد مراكز التجنيد لدى حركة فتح، وينقل عنه بيرغمان قوله في إحدى المقابلتين “لقد أصبحت منتمياً لحركة فتح ووجدت ما كنت أبحث عنه”. كان سلامة حينها شاباً يافعاً وصاحب شخصية كاريزمية وبهي الطلعة وغني، وهذا ما جعله يعيش حياة مترفة على غرار تلك التي كان يعيشها عناصر جهاز إستخبارات حركة فتح. وينقل بيرغمان عن احد ضباط “الموساد” قوله “لقد جمع سلامة بين حبه للنساء والحفلات الصاخبة وبين نشاطاته الإرهابية إلى درجة مثيرة للدهشة حتى داخل فتح نفسها”.
عثر بين الوثائق التي اخذها الجنود “الإسرائيليون” من شقة ابو يوسف النجار في بيروت على وثيقة تشير إلى ان سلامة كان مسؤولا عن تنسيق كل العمليات “الارهابية” في اوروبا وانه احضر إلى احد معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح في لبنان الالماني “اندرياس بادر” احد مؤسسي حركة “بادر ماينهوف” اليسارية
وينقل بيرغمان عن قادة في “الموساد” اعتقادهم ان سلامة كان مسؤولاً عن عدد كبير من العمليات ضد “إسرائيل”، ومن ضمنها خطف طائرة تابعة لشركة “سابينا”، كما عثر بين الوثائق التي اخذها الجنود “الإسرائيليون” من شقة ابو يوسف النجار في بيروت على وثيقة تشير إلى ان سلامة كان مسؤولا عن تنسيق كل العمليات “الارهابية” في اوروبا وانه احضر إلى احد معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح في لبنان الالماني “اندرياس بادر” احد مؤسسي حركة “بادر ماينهوف” اليسارية المتطرفة، وقد اظهر مسؤول مكافحة الارهاب في “الموساد” شمشون اسحاقي هذه الوثيقة للمسؤولين الالمان “ليصبح واضحا لديهم ان خطر الارهاب الفلسطيني شأناً يعنيهم ايضا”.
يقول رونين بيرغمان انه على الرغم من النفي المتكرر لأحد مسؤولي عملية ميونيخ محمد عودة (ابو داوود)، وجود اية علاقة لعلي سلامة بالعملية، فقد أجمع قادة “الموساد” ان سلامة كانت له اليد الطولى في التخطيط والتنفيذ وانه لم يكن بعيدا عن مسرح العملية في القرية الاولمبية في ميونيخ. وينقل الكاتب عن “مايك هراري” قوله “على اي حال اصبح سلامة الهدف رقم واحد للموساد وقد طاردناه لسنوات طويلة ولم يكن لدينا سوى صورة واحدة له استخدمناها لتحديد مكان وجوده ولكن من دون جدوى، وكل المعلومات التي جمعتها عنه وحدة “الحربة” إستدعت مطاردته في هامبورغ وبرلين وروما وباريس واستوكهولم ومدن اوروبية اخرى وفي كل مرة كان يفلت من المراقبة في اللحظات الاخيرة، إلى ان حدث الخرق في منتصف يوليو/ تموز عام 1973 عندما غادر الجزائري كمال بنيامين شقته في مدينة جنيف ليستقل طائرة متوجهة إلى العاصمة الدانماركية كوبنهاغن، وكان بنيامين يعمل لصالح حركة فتح ولديه صلات بـ”منظمة ايلول الاسود”، وكان عملاء “الموساد” يعتقدون انه يخطط مع سلامة لهجوم ما، فقرروا تتبعه واعتبروا انهم اذا استمروا لصيقين به لا بد وان يقودهم إلى علي سلامة فيقتلونه.
عندما وصل بنيامين إلى مطار كوبنهاغن لاحظ عملاء وحدة “قيسارية” انه لم يغادر المطار بل انتقل إلى قاعة الترانزيت ومنها استقل طائرة متوجهة إلى اوسلو (العاصمة النروجية) ومن هناك استقل قطارا متوجها إلى مدينة ليلهامر، وكان طوال الوقت تحت اعين عملاء الوحدة، واستنتج مسؤولو “الموساد” انه سيقابل الهدف (علي سلامة) هناك. على الفور، قرر المسؤولون عن الموضوع ادخال فريقين من وحدة “الحربة” للاغتيال يعملان في اوروبا إلى العملية، وشكل “هراري” قوة تدخل سريع، وكان على رأس فريق الاغتيال المؤلف من 12 عميلاً القاتل المحترف المشهور لدى “الموساد” ناهيميا مائيري اضافة إلى خليط من القتلة المحترفين وعملاء ميدانيين من وحدة “قيسارية” يجيدون اللغة النروجية ومن بين اعضاء الفريق العميلة “سيلفيا رافاييل” التي جابت خلال عملها معظم الدول العربية بصفة مصورة صحافية كندية معادية لـ”إسرائيل” تحت اسم “باتريشيا روكسبورغ” وتمكنت خلال جولاتها من جمع معلومات قيمة جدا عن جيوش المنطقة، كما كان بين اعضاء الفريق “افراهام غيمير”، وهو مدرب “رافاييل”، ورجل الاعمال الدانماركي دان اربيل الذي شارك موسميا بعمليات لـ”الموساد” في الدول العربية مساعدا في الامور اللوجستية مثل استئجار السيارات والشقق، كما كان بين اعضاء الفريق ماريان جلادنيكوف وهي مهاجرة من السويد وموظفة سابقة في جهاز “الشين بيت” كانت انضمت مؤخرا إلى صفوف “الموساد” وهي تتقن اللغات الاسكندنافية بطلاقة.
يضيف بيرغمان ان ما حصل بعد ذلك هو امر مثير للجدل ولكن من خلال وصف العملية يمكن للقارىء ان يستنتج باختصار ان الاشتباه بشخص كان سبباً كافياً لقتله. هناك روايات عدة لما حصل ولكن الاكثر دقة بينها ان فريق المراقبة التابع لوحدة “قيسارية” اضاع اثار بنيامين في مدينة ليلهامر، لذلك بدأوا باستخدام تقنية “التمشيط” وهي التقنية التي استخدمها مائيري في الخمسينيات لملاحقة عملاء جهاز الإستخبارات السوفياتي “كي جي بي” في “إسرائيل”.
بعد يوم كامل من البحث المضني، توصل العملاء إلى تحديد الهدف الذي كان عبارة عن رجل يجلس في مقهى مع مجموعة من العرب وسط المدينة، اعتقدوا انه كان يشبه إلى حد كبير الصورة التي بحوزتهم لسلامة، وينقل الكاتب عن مسؤول مكافحة الارهاب في جهاز “امان” الجنرال “اهارون ياريف” قوله “كان الشبه بين الرجل وسلامة كبيرا جدا لدرجة انهما يبدوان وكأنهما توأمان”. وفي رواية اخرى، فان الرجل الذي حدد انه سلامة لم يكن فقط جالسا مع مجموعة من العرب في مقهى بل كان يحضر اجتماعا لمجموعة من النشطاء المعروفين في حركة فتح. ووفقا لهذه الرواية رأى عملاء المتابعة ان المشتبه به يربتط بارهابيين معروفين وكان ذلك بالاضافة إلى الشبه مع الصورة في حوزتهم مؤشرا اضافيا على انه الرجل الذي يبحثون عنه (أي علي سلامة).
يقول رئيس “الموساد”: “لم يكن أي منا يملك الادوات الدقيقة لإتخاذ القرار الصحيح، فالتحديد الخاطىء للهدف ليس فشلاً. انه غلطة”! الحقيقة ـ كما يقول بيرغمان ـ ان بوشيكي لم يكن له اية علاقة بالارهاب وان كل عملية ليلهامر كانت ببساطة قتل بدم بارد لعامل بسيط في بركة سباحة
يتابع الكاتب انه في كلتا الحالتين، تم ارسال تقرير إلى مقر “الموساد” في تل ابيب بان الشخص المشتبه به هو علي سلامة نفسه، ولكن قائد وحدة “قيسارية”، أي “مايك هراري”، لم يتمكن من رؤية رئيس “الموساد” زفي زامير لان الاخير قرر التوجه شخصيا إلى ليلهامر كي يكون حاضرا عندما يتم قتل الهدف وبالتالي فان “هراري” اعطى اوامره لفريقه بمواصلة المراقبة، وقد اكتشف هؤلاء ان الرجل المشتبه بكونه سلامة يعيش حياة هادئة في ليلهامر، وعنده خليلة نروجية شقراء وهي حامل في مرحلة متقدمة ويذهب إلى السينما وإلى بركة سباحة مغلقة في المدينة، وهكذا فقد اشترت ماريان جلادنيكوف ثوب سباحة وذهبت إلى بركة السباحة لمراقبته، ولكن ما شاهدته جعلها تتساءل ايعقل ان يكون هذا الرجل هو “الارهابي” الفلسطيني الذي يحتل رأس قائمة المطلوبين لدى “الموساد”. لم تكن وحدها التي شككت. احد العملاء الذي كان يستخدم اسما حركيا (شاوول) يقول “لقد قلنا للمسؤولين بوضوح اننا نعتقد ان هذا الرجل ليس هو الرجل المنشود ولكن “هراري” وزامير قالا لا فرق في الامر فحتى لو لم يكن هذا الرجل هو سلامة نفسه فمن الواضح انه عربي اخر على صلة بالارهابيين، وحتى لو لم نقتل سلامة فان اسوأ ما سنفعله هو قتل ارهابي اقل اهمية، ولكنه يبقى ارهابياً”.
ويقول بيرغمان نقلا عن “هراري” إن سبعة من عناصر فريق المتابعة “أعطى تحديداً ايجابياً بين الصورة التي بحوزتنا والرجل الذي رأيناه في الشارع وفقط عدد قليل من العملاء اعتقد ان هذا الرجل ليس الهدف المنشود وعليك ان تقرر في هذه الحالة ان تمضي برأي الاكثرية. اسهل الامور هي أن تعطي الامر بعدم سحب الزناد ولكن اذا اعطيت هكذا امر فانك لا تكون قد عملت اي شيء على الاطلاق”. وهكذا بعد ان تخلف زامير عن اللحاق بالقطار المتوجه إلى ليلهامر اتصل ليل 21 يوليو/ تموز بمايك “هراري” وامر بالاستمرار بالعملية وقتل الهدف. في تلك الليلة، غادر الرجل وخليلته شقتهما واستقلا حافلة إلى احد دور السينما، وكان فريق الاغتيال التابع لوحدة “الحربة” يلاحقهما بالسيارات وعلى الاقدام وفي الساعة العاشرة والنصف ليلاً، غادر الثنائي دار السينما واستقلا الحافلة عائدين إلى منزلهما، وما ان غادرا الحافلة توقفت على مقربة منهما سيارة فولفو رمادية اللون وخرج منها شاوول وعميل اخر (لم يسمه الكاتب ولكن ذكر ان الحرف الاول من اسمه هو اي) وشهرا مسدسيهما من طراز بيريتا مع كاتمي صوت واطلقا على الهدف ثمانية رصاصات قبل ان يركضا عائدين إلى سيارتهما تاركين المرأة التي لم يطلقا النار عليها راكعة فوق الضحية تولول وتحمل رأسه المخضب بالدم.
يتابع بيرغمان، عاد القاتلان المحترفان إلى الشقة في المكان المتفق عليه مسبقا حيث كان ينتظرهما “مايك هراري” واعضاء الفريق. وهنا ابلغ شاوول الحضور ان العملية نفذت بنجاح ولكنه وزميله شاهدا المرأة التي رأت عملية القتل تسجل رقم لوحة تسجيل سيارة الفولفو عندما كانا يغادران المكان. فطلب “هراري” من اربيل المسؤول عن الامور اللوجستية ان يركن السيارة على جانب احد الطرقات ويرمي مفاتيحها. وغادر بعدها اربيل وجلادنيكوف بالقطار إلى اوسلو ومنها بالطائرة إلى لندن ومنها إلى “إسرائيل” وكان على العملاء الاخرين ان ينتظروا بضعة ساعات في الشقة المستأجرة قبل ان يطيروا خارج البلاد، وكان على “هراري” وقاتلين محترفين ان يغادرا بالسيارة إلى اوسلو ويستقلا مركبا بحريا إلى كوبنهاغن فيما غادر شاوول والقاتل الذي كان معه على متن طائرتين منفصلتين إلى الدانمارك، واستقل “هراري” طائرة إلى امستردام وهو واثق من نجاح المهمة ويعيش نشوة النجاح لان قتل سلامة كان يعني انه اصبح على اخر درجة من سلم ترقيته ليصبح مديرا لـ”الموساد” خلفاً لزفي زاميرعندما تنتهي ولاية الاخير، وعندما وصل إلى امستردام لم يشعر “هراري” بحجم الكارثة الحاصلة الا عندما شاهد نشرة الاخبار على التلفزيون. لم يكن الرجل الذي قتله “الإسرائيليون” علي سلامة بل كان مواطنا مغربيا يدعى احمد بوشيكي، وهو نادل وعامل تنظيفات في بركة السباحة المغلقة، وكان متزوجاً من امرأة تدعى توريل، وهي حامل في شهرها السابع.
يقول رونين بيرغمان إن رئيس “الموساد” زامير قلّل من أهمية الكارثة، قائلاً “لم يكن أي منا يملك الادوات الدقيقة لإتخاذ القرار الصحيح، فالتحديد الخاطىء للهدف ليس فشلاً. انه غلطة”!
الحقيقة ـ كما يقول بيرغمان ـ ان بوشيكي لم يكن له اية علاقة بالارهاب وان كل عملية ليلهامر كانت ببساطة قتل بدم بارد لعامل بسيط في بركة سباحة.
المطاردة لم تنته هنا، بل بإنكشاف دور “الموساد” في العملية (التفاصيل في الحلقة الرقم 31).