لطالما شكّلت مسألة الديموقراطية في لبنان مادة للبحث والتداول، سواء كونها غير مكتملة أو لما يعتريها من شوائب. فما درجت عادة أهل الإعلام والسياسة على تسميتها بـ”الديموقراطية التوافقية” لبنانياً، لا تتطابق مع المفهوم الأصلي للديموقراطية، وهو مفهوم متعارف عليه في العلوم السياسية الغربية حيث التوافق يكون بين قوى سياسية تمثل مواطنين ومجموعات جميعهم يتساوون في الحقوق السياسية وليس بين جماعات دينية لا تعتبر نفسها متساوية في الحقوق.
يُعتبر هذا التمييز الشائبة الأهم في الديموقراطية اللبنانية بالإضافة الى ما نتج عن ذلك من إستدراج للهيمنة الإقليمية على واقعنا السياسي، شكّل ـ بدوره ـ عاملاً سلبياً يضاف إلى الشوائب المعطلة للديمقراطية اللبنانية. وليس في ما أسلف من جديد، لكن المراقب للوضع في لبنان يرى أن الممارسة المنقوصة للديموقراطية أنتجت وضعاً هجيناً وسلطة منقوصة. فبينما يتغنى اللبنانيون بحريتهم، يحسدون دول الجوار العربي على قوة السلطة (الإستقرار) هناك. صحيح أن العمل السياسي والإعلامي مقيد بدرجة أعلى في معظم الدول العربية، لكنها تتمتع في غالبيتها بهيبة مؤسسات الدولة واحترام قوانينها.. والأهم بالإستقرار.
وفي حين أن غالبية اللبنانيين وافقت ضمناً وطوعاً على مقايضة النقصين الديموقراطي والسلطوي بفائض نسبي مرتفع من الحريات ومن القوة الشرائية مقارنة بدول الجوار العربي، وجدوا أنفسهم فجأة منذ سنة ونصف أمام هبوط حاد في مستوى الدخل الذي الغى مفاعيل “الستاتيكو” الذي يحكم لبنان منذ إتفاق الطائف حتى يومنا هذا. ومع فقدان الفائض المادي (إنهيار العملة الوطنية، تدهور القوة الشرائية وتآكل الرواتب والأجور)، أصبح اللبنانيون يفتقدون إلى السلطة وإحترام القوانين.
يُساهم جزءٌ من الحراك الإحتجاجي، بإعتماد وسائل مثل قطع الطرقات وإشعال الإطارات وتعطيل ما تبقى من عجلة الاقتصاد، سواء عن قصد أو عن غير قصد، في تسهيل فرص إنتاج نظام سلطوي قوي من شأنه أن يفضي إلى منع الفوضى وإلى مكافحة الفقر بأشكاله الدنيا. يحصل ذلك بشراكة كاملة مع هذا الإمعان في تأخير تشكيل الحكومة الجديدة
أي تدهور في الواقع الإقتصادي والإجتماعي ينتج عنه فائض كبير من الفقر، الفوضى، الجريمة. هنا يجد اللبنانيون أنفسهم أمام واحد من ثلاثة مفترقات:
1) إعادة تعويم نظامهم النصف ديموقراطي – النصف سلطوي السابق، من خلال إستدراج الدعم المادي الخارجي الذي لطالما لعب دور الرافد للوضع القائم السابق، وهذا مطلب ورغبة معظم الطبقة السياسية والمالية في لبنان.
2) إنتاج ديموقراطية كاملة تجيء بسلطة كاملة وهذا مطلب ثوار 17 تشرين.
3) إنتاج نموذج سلطوي تغيب عنه الديموقراطية ويكون شبيهاً بالنموذج التقليدي للدولة العربية “الحديثة”.
قد يستهجن البعض الفرضية الثالثة، ولكن إمكانية تحققها لبنانياً تزداد مع إنجرار الناس إلى أولوية ضروريات حياتهم الأساسية من أمن، صحة وغذاء. هذه الضروريات تكمن في قاع الهرم المعروف بتسلسل ماسلو الهرمي للإحتياجات، نسبة إلى عالم النفس الأميركي إبراهام ماسلو.
وفي حين أن رغبة المواطنين في أي بلد هي في إنتاج نظام ديموقراطي، تفرض الضائقة المعيشية جدول أعمال مختلفاً على اللبنانيين، بدأت تلوح تباشيره في توليد مناخات ملائمة لإنتاج صيغة لبنانية لنظام سلطوي قوي غير ديموقراطي يكون كفيلاً بتأمين متطلبات وإحتياجات الناس من أمن، صحة وغذاء، ولو على حساب حريتهم!
في السياق إياه، يُساهم جزءٌ من الحراك الإحتجاجي، بإعتماد وسائل مثل قطع الطرقات وإشعال الإطارات وتعطيل ما تبقى من عجلة الاقتصاد، سواء عن قصد أو عن غير قصد، في تسهيل فرص إنتاج نظام سلطوي قوي من شأنه أن يفضي إلى منع الفوضى وإلى مكافحة الفقر بأشكاله الدنيا. يحصل ذلك بشراكة كاملة مع هذا الإمعان في تأخير تشكيل الحكومة الجديدة وبالتالي عدم فتح أبواب التفاوض مع المؤسسات الدولية المانحة وصولاً إلى الإنخراط في عملية الإصلاح. ففي كل يوم يزداد فيه تآكل القوة الشرائية للشعب اللبناني، يقترب لبنان أكثر فأكثر من الإنحدار إلى أسفل الهرم المقلوب، فتكون الخيارات ضيقة ومحدودة.
يطرح ذلك سؤالاً مهماً على اللبنانيين: هل هناك فرصة حقيقية أمام نجاح إنقلابهم الديموقراطي الذي بدأوه في 17 تشرين الأول/ اكتوبر 2019؟
لا بد من أن تكون الأجوبة صريحة حتى لو كانت فجة أحياناً، فالوقت ليس لمصلحة الثورة (أو الإنتفاضة). لماذا؟
حين يتصارع أهل السلطة (أو العهد السابق إذا صح التعبير) وأهل الثورة، تكون أرجحية الربح لمصلحة أصحاب الحل الثالث الذين إذا جاء دورهم سوف يُنظر إليهم بوصفهم “مخلصين” و”منقذين”! ففي غياب الأمن وحضور الفوضى، تصبح السلطة (الإستقرار) أهم من الديموقراطية في سلم هرم الإحتياجات. ففي حين كان المزاج العام في ما مضى وخصوصاً بين المثقفين يطالب بأولوية تصحيح الخلل الديموقراطي (التعبير، الحريات، تداول السلطة إلخ..) يصبح الأمان (السلطة) هو المطلب الأول لغالبية الشعب، تماماً كما حصل في سني الحرب الأهلية اللبنانية.
ومن المفارقات، أنه في حين يمكن الحديث في لبنان عن أن غياب الديموقراطية المكتملة هو سبب الكثير من مشاكلنا، سيبدو الأمر قريباً وكأن “مشاكلنا” ناتجة عن غياب الديكتاتورية أو السلطوية (الشكوى من عدم إحترام النظام والقوانين العامة وعدم الشروع في مكافحة الفوضى والفساد والزج بالفاسدين في السجون إلخ).
بهذا المعنى، قد تحتل الفوضى رأس هرم إحتياجات الإنسان اللبناني لتمثل مشكلة أكبر من الفساد. ففي حين تكافح الديموقراطية الفساد، نجد أن السلطة تكافح الفوضى. وفي غياب الإثنتين، تنتشر الفوضى ويعم الفساد، وهذا هو حال لبنان اليوم بلا ديموقراطية وبلا سلطة.
بعد قرابة الأربعة عقود من مقولة الرئيس سليم الحص، نجد أنفسنا نردّد معه أنه في لبنان القليل من الديموقراطية والقليل من السلطوية والكثير الكثير من الفوضى والفساد.