باتت روسيا، منذ ذلك الحين وحتى الآن، هدفا لموجات من العقوبات المتنوعة. وقد استهلت إدارة جو بايدن خطواتها الأولى بفرض عقوبات جديدة ضد موسكو فى 2 آذار/ مارس الجاري ارتباطا بمحاولة «تسميم» المعارض أليكسي نافالنى بغاز الأعصاب، حيث فرضت حزمة عقوبات استهدفت 7 من كبار المسئولين بجهاز الأمن الفيدرالى الروسى، واتخذ الاتحاد الأوروبى الخطوة ذاتها. ولا تستبعد موسكو المزيد من العقوبات الأمريكية ارتباطا باختراقات مدعى بها للفضاء الإلكترونى الأمريكى، خاصة وأن الآليات القانونية لفرض مثل هذه العقوبات قائمة بالفعل بعد أن باتت العقوبات الاقتصادية إحدى الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية.
وكان بايدن فى خطابه الأول فى 4 شباط/ فبراير الماضى حول السياسة الخارجية قد وجه تحذيرا لروسيا، مشددا على أنه سيتصدى لمحاولاتها تعطيل الديمقراطية الأمريكية واختراقها وأن التحالفات القوية «هى المفتاح لردعها»، مشيرا إلى أنه «لن نتردد فى رفع التكلفة على روسيا». ولم يحدد الرئيس الجديد كيف سيحقق ذلك، وما هى خياراته، حيث يجمع كتَّاب أمريكيون كثر أنها ستكون محدودة. وقد جاءت تصريحات بايدن بعد يوم من موافقة واشنطن وموسكو على تجديد العمل بمعاهدة ستارت الجديدة للسنوات الخمس القادمة، وهو ما اعتبر تطورا إيجابيا، إلا أنه لن يغير شيئا من توجه الإدارة الجديدة المعادى لروسيا.
وفى ملاحظاته أمام مؤتمر ميونخ الافتراضى لسياسات الأمن فى 19 شباط/ فبراير الماضى، ذكر بايدن: «إن بوتين يسعى لإضعاف المشروع الأوروبى وحلفنا ــ حلف شمال الأطلسى، لأنه من الأسهل على الكرملين أن يتنمر ويهدد دولا منفردة بدلا من التفاوض مع مجتمع قوى ومتحد بشكل وثيق عبر الأطلسى».
وخلص بايدن إلى القول بأن التصدى «لتهور الروس واختراق شبكات الحاسوب، فى الولايات المتحدة وعبر أوروبا والعالم، أصبح أمرا بالغ الأهمية لحماية أمننا الجماعى». ولا يبدو أن بايدن ــ كسابقيه ــ يمتلك استراتيجية واضحة بشأن التعامل مع روسيا فما تزال العلاقات معها واحدة من القضايا القليلة التى يمكن للكونجرس بمجلسيه الاتفاق حولها، حيث ينظر الحزبان الديمقراطى والجمهورى إلى روسيا على نطاق واسع باعتبارها تهديدا للمصالح الأمريكية. كذلك لا يوجد «لوبى» روسى داخل الولايات المتحدة يمكنه الدفاع عن مواقف موسكو بجانب حقيقة تواضع حجم المبادلات التجارية والمصالح الاقتصادية بين الجانبين.
ومن المرجح أن تعمل إدارة بايدن على استغلال توجهها الخاص بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان لتعزيز دعمها الدبلوماسى والمادى لجماعات المعارضة ليس فقط فى روسيا بل وبيلاروسيا أيضا. ومن المهم الإشارة فى هذا السياق إلى أنه فى عام 2014، اضطلع وزير الخارجية أنتوني بلينكن بدور مؤثر فى فرض عقوبات ضد روسيا، بسبب الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم، كما دعا إلى تسليح أوكرانيا، لكن دعوته لم تلق نجاحا.
***
والحقيقة أن بايدن، سواء فى خطابه الأول أو فى ملاحظاته أمام مؤتمر ميونخ، أقر ضمنا بأوجه ضعف عديدة تمثل قيودا على قدرة بلاده على مواجهة التحديات التى تحدث عنها ومواجهة صعود الصين والنفوذ المتزايد لروسيا، ومن ذلك إقراره صراحة بأنه «يجب على الولايات المتحدة أن تجدد مزاياها الدائمة حتى تتمكن من مواجهة تحديات اليوم من موقع قوة. وهذا يعنى إعادة بناء أسسنا الاقتصادية على نحو أفضل، واستعادة مكانتنا فى المؤسسات الدولية، ورفع قيمنا فى الداخل والتحدث للدفاع عنها فى جميع أنحاء العالم، وتحديث قدراتنا العسكرية مع القيادة بالدبلوماسية فى الوقت ذاته، وإعادة تنشيط شبكة التحالفات والشراكات الأمريكية التى جعلت العالم أكثر أمانا لجميع الناس».
قد لا تكون روسيا قوة عظمى فى نظر الكثيرين فى الغرب، إلا أنها لاعب مستقبلي مهم لا غنى عنه فى مناطق مختلفة حول العالم
ويقدر خبراء أمريكيون أن المهمة الصعبة التى يجب على بايدن التصدى لها هى صياغة استراتيجية شاملة للتعامل مع روسيا بما يحقق التوازن الصحيح بين احتوائها وإشراكها فى المجالات ذات الاهتمام المشترك، وأنه لكى تحقق الإدارة الجديدة ذلك، عليها التخلى عن «التصورات والتقديرات الخاطئة” التى اتسمت بها التحليلات الأمريكية لسياسات روسيا ومنها أن روسيا قوة متراجعة، وإجراء تقييم دقيق لنوع التهديد الذى تشكله روسيا بوتين حقا، وكيف يمكن للولايات المتحدة التصدى له بفاعلية. والمشكلة هنا أن بايدن نفسه يعتقد أن روسيا، رغم ما تمتلكه من قوة تدميرية سواء كانت ترسانة أسلحة نووية أو سياسات «عدوانية» يشنها بوتين بحسب بايدن، إلا أنها ليست فى وضع يسمح لها بمنافسة استراتيجية مع الولايات المتحدة، وأن أعمال روسيا قاصرة على ردود الفعل أو انتقامية. ويتحفظ خبراء أمريكيون، ومنهم سفراء سابقون لدى روسيا على هذا التقييم مؤكدين أن لدى روسيا أوراقا كثيرة وعناصر قوة شاملة تؤهلها لأن تكون منافسا عنيدا لأمريكا.
وبرغم العقوبات الغربية التى فرضت عليها بسبب الأزمة الأوكرانية عام 2014، لا تزال روسيا قادرة على الصمود، كما أن تدخلها فى سوريا أتاح لها الفرصة لمد نفوذها فى مواقع أخرى فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل وأفريقيا جنوب الصحراء. وقد لا تكون روسيا قوة عظمى فى نظر الكثيرين فى الغرب، إلا أنها لاعب مستقبلي مهم لا غنى عنه فى مناطق مختلفة حول العالم.
وتستفيد موسكو من تحالفاتها المرنة مع تركيا وإيران، وترتيبات أسعار النفط مع العربية السعودية (صيغة أوبك+) وعلاقاتها العسكرية وصادراتها من السلاح إلى العديد من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلا عن علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل. وبالرغم من كل ما يقال عن روسيا من انتقادات غربية، إلا أنه يصعب تجاهل حقيقة أنها تتبنى سياسة خارجية نشطة. فمنذ فترة من الوقت تسعى موسكو، جنبا إلى جنب مع واشنطن، إلى ايجاد تسوية سياسية فى أفغانستان، كما شهد العامان الماضيان طفرة فى العلاقات الروسية الأفريقية أبرزها استضافة أول قمة روسية إفريقية فى سوتشى فى تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أعلنت فيها روسيا عن نفسها كشريك أمنى للقارة.
ويضاف إلى ذلك أن مصداقية روسيا لا تدعمها تجربتها فى سوريا فقط، بل أيضا الدعم السياسى والمادى الروسى لنيكولاس مادورو فى فنزويلا، التى لا تزال متماسكة برغم قيادة الولايات المتحدة تحالفا أعلنت دوله (50 دولة) عدم اعترافها بنظامها الحاكم. وفضلا عن ذلك تحظى كوبا بدعم روسي، برغم الضغوط الأمريكية، وتعمل على تعزيز علاقاتها بها. وإلى جانب النظم اليسارية فى أمريكا اللاتينية، تسعى روسيا إلى التواصل مع البرازيل، عضو مجموعة بريكس، والأرجنتين والمكسيك، حيث تعاقدت الدول الثلاث على شراء مصل «سبوتنيك V» الروسى لمواجهة وباء «كوفيد ــ 19» فيها.
من غير المنتظر أن تصل المنافسة الأمريكية مع روسيا، ارتباطا بأوكرانيا، إلى حد الدخول فى تحالف عسكرى غربى مع أوكرانيا ونشر قوات مسلحة فى أراضيها، وهو ما يعكس القيود على النوايا الاستراتيجية الأمريكية تجاه كييف
***
ومن المهم التأكيد على أن السياسة الخارجية الروسية النشطة لا ترتبط بالنظام العالمى بقدر ارتباطها بمكانة روسيا فى هذا النظام، حيث يؤكد القادة الروس دائما أن مشكلتهم مع الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة أنها لا ترغب فى التعامل مع بلادهم على قدم المساواة وأنها تجاهلت مطالب روسيا باحترام مصالحها الأمنية الوطنية فى عملية توسيع الناتو شرقا. وإزاء ذلك، ومنذ بدايات العقد الثانى من القرن الحالى، بدأ الكرملين فى رسم مسار عكسى لسياساته السابقة إزاء الغرب. وقد تعلمت روسيا من تجربة الاتحاد السوفيتى الذى كانت تحركه الأيديولوجية والطموح الجيوسياسى الضخم، حيث تبحث عن الفرص والمصالح، وفقا لكل حالة على حدة، بعيدا عن أى أيديولوجية ودون فرض لأى نموذج على الآخرين.
والخلاصة هى أن ما صدر عن بايدن وأركان إدارته من تصريحات وما اتخذته من خطوات فعلية تجاه روسيا لا يمثل مفاجأة لموسكو، وأن التفاعل بين البلدين بشأن قضايا الاستقرار الاستراتيجى وما يهم مصالح الولايات المتحدة وأمنها القومى، بما فى ذلك الأمن الإلكترونى والأوبئة وتغير المناخ، ستسير جنبا إلى جنب مع الإدانات والعقوبات المتواصلة بسبب ما أسماه بايدن تصميم روسيا على الإضرار بالديمقراطية الأمريكية وتعطيلها. وقد تركز العقوبات الجديدة ضد روسيا على عناصر أكثر أهمية مثل البنوك والمؤسسات المالية وقطاع الطاقة بدلا من استهداف الأفراد الأمر الذى ثبت عدم فاعليته. وستكون روسيا وسياساتها محل تنسيق أكبر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وهو ما يعنى إمكانية توقيع عقوبات مشتركة، كما حدث بالفعل فى حالة نافالنى الذى حضر محاكمته الأخيرة فى موسكو دبلوماسيون من نحو عشرين سفارة غربية ــ والمزيد من القيود على نقل التكنولوجيا إلى روسيا. ومع ذلك من غير المنتظر أن تصل المنافسة الأمريكية مع روسيا، ارتباطا بأوكرانيا، إلى حد الدخول فى تحالف عسكرى غربى مع أوكرانيا ونشر قوات مسلحة فى أراضيها، وهو ما يعكس القيود على النوايا الاستراتيجية الأمريكية تجاه كييف.
(*) بالتزامن مع “الشروق“