على هذا المنوال، تمشي تركيا وإيران والسعودية، كلٌ من موقعه لخلق شبكة أمان إقتصادية ـ سياسية ـ أمنية. وهذا ما دفع روسيا للعب دور أكبر مع كل البلدان التي ذُكرت آنفًا، وهذا ما أتاح أيضًا للصين التسلل من دون كلفة تذكر إلى هذا الشرق الأوسط الكبير من بابه إلى محرابه.
قصة الاختراق الصيني بدأت مع انضمام ايران، تركيا، السعودية، مصر، العراق، قطر والإمارات الى “مبادرة الحزام والطريق”. ايران من بين تلك الدول، هي الأكثر التصاقًا وشراكة مع الصين في ظل حصار اميركي عليها بعكس كل البلدان الأخرى. وقد تطورت هذه الشراكة الصينية الإيرانية بشكل اعمق خلال ولاية دونالد ترامب، ما يعطي طهران قدرة على التشدد خلال اية مفاوضات جارية او مقبلة مع اميركا حول العودة الى الإتفاق النووي. ومن المعلوم ان التشكيلات التي تدور في فلك ايران في المنطقة، تشيد بالصين سواء في العراق او في لبنان حيث قدم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله اكثر من مرافعة حول تطوير علاقات لبنان مع الصين من دون أن يصدر اي تعليق من الصينيين حول هذا الأمر، سوى ما أبلغه سفير الصين في بيروت في العام 2020 للحكومة اللبنانية بأن بلاده تقيم وزناً للبعد الإقتصادي الإستثماري وليس للبعد السياسي، وعندما تقرر الحكومة اللبنانية أنها “متعثرة” عن دفع ديونها، فهذا ليس بعنصر تحفيز وتشجيع للصين من أجل الإستثمار في لبنان!
والمعروف أن الصين اكبر مستورد لنفط المنطقة: تستورد ثلث انتاج السعودية (٢ مليون برميل يوميًا)، نصف انتاج العراق وبالتأكيد تحصل على اكثر من ٦٠٠ الف برميل يومياً (فقط الأرقام المعلنة) من ايران عبر وسائل تضمن الإلتفاف على العقوبات الأميركية.
وبحسب متعقب الاستثمار العالمي الصيني (CGIT) الصادر عن معهد “أميريكان إنتربرايز”، تعد السعودية الدولة العربية التي تستقطب أكبر قدر من الاستثمارات الصينية، تليها الإمارات، ثم العراق.
ينقل تقرير من صحيفة “نيويورك تايمز” أن الاستراتيجية التي تبلورها الإدارة الأميركية، ترى أن الترابط الاقتصادي العميق قد يلعب دورًا في تخفيف حدة الصراعات والخلافات حول قضايا مثل الحشد العسكري للصين وطموحاتها الإقليمية
أراد الصينيون، دخول المنطقة سياسيًا واقتصاديًا، من دون تعرضهم لنيران الحروب التي تزنرها من اليمن إلى ليبيا مرورًا بسوريا والعراق ولبنان. وتلك ليست بالمهمة السهلة، ولن تكون كذلك من الآن فصاعدًا. فالولايات المتحدة بدأت معركتها الأقسى مع الصين مرتكزة الى قوتها والتشبيك مع حلفائها ومقايضتهم حصار الصين بأمنهم وأمانهم. فماذا عن السعودية؟
تعمل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على هندسة سياسة جديدة تجاه الصين تركز على بناء موقف موحد لحلفاء واشنطن من اجل مواجهة بكين وضمان عدم حصولها على تفوق تكنولوجي مستدام. وكان الجيل الخامس من الشبكات الالكترونية G5 Networks قد فتح الأعين الأميركية على الخروقات الصينية في العالم وفي دول الخليج التي وقعت عقودًا مع شركة هواوي الصينية – التي عاقبها دونالد ترامب ـ كما شركة ZTE ثم اطلق مبادرة the clean network initiative (العيون الخمس) التي انضمت اليها ٥٣ دولة حليفة للولايات المتحدة ومورست ضغوط على اسرائيل ايضًا.. هي نفسها التي تمارس حاليًا على السعودية والإمارات.
تسعى الولايات المتحدة لإعادة تقويم تواجدها العسكري وعلاقاتها الإسترتيجية بالمنطقة كلها، في ظل تركيزها على توسعة حضورها في المحيطين الهندي والهادئ مقابل انسحابها واعادة نشر جنودها في مناطق اقل اهمية استراتيجية بالنسبة اليها. وينقل تقرير من صحيفة “نيويورك تايمز” أن الاستراتيجية التي تبلورها الإدارة الأميركية، ترى أن الترابط الاقتصادي العميق قد يلعب دورًا في تخفيف حدة الصراعات والخلافات حول قضايا مثل الحشد العسكري للصين وطموحاتها الإقليمية وقضايا حقوق الإنسان.
وتركز الاستراتيجية الأميركية الجديدة على منافسة بكين بشكل أكبر حول التكنولوجيات الحيوية للقوة الاقتصادية والعسكرية على المدى الطويل.
قد تدفع اي عودة الى الإتفاق النووي من جانب اميركا أحاديًا وبالتالي رفع العقوبات عن طهران، بالسعودية الى تطوير علاقاتها بالصين التي ستجد فرصة ذهبية لتعزيز حضورها القوي اصلًا في المملكة من خلال الآتي:
1- وقّع البلدان في العام 2019 خمسة وثلاثين اتفاقًا اقتصاديًا بقيمة ٢٨ مليار دولار.
2- تقع السعودية ضمن حدود “الحزام والطريق”، ما دفع الشركات الصينية المختصة بالمقاولات واعمال البناء للإستثمار في المملكة كشركة Shandong Electric Power التي تبني اكبر وحدة توليد طاقة (فيول) في العالم في ميناء ينبع.
3- تستطيع الصين بسهولة الإستثمار في مشروع مدينة نيوم (حلم ولي العهد السعودي) والبالغة قيمته ٥٠٠ مليار دولار.
4- تتعاون السعودية والصين في الترويج لنظام الساتيلايت بايدو”Beido Navigation Satellite System”
5- بحسب تقرير المخابرات الأميركية المنشور في حزيران/ يونيو ٢٠١٩، حصلت الرياض على دعم صيني لبرنامجها الصاروخي الباليستي.
6- إنطلق التعاون النووي بين الصين والسعودية عام ٢٠١٢ ما يعني ان الضغط الأميركي ووقف توريد الأسلحة المتطورة للسعودية قد تدفع هذه الأخيرة لطلبها وشرائها من الصين.
7- اتساع نطاق الموانئ الاستراتيجية التي تستفيد منها الشركات الصينية، في الخليج كله، في اطار “مبادرة الحزام والطريق”، والتي قد تشكل اعاقة لتدفق منتجات اميركا، وقد تتحول الى قواعد عسكرية صينية في حال حدوث اي توتر جدي بين البلدين.
8- دخلت السعودية ـ كما الإمارات ـ في فلك ديبلوماسية اللقاح الصينية، فوقعت في نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ اتفاقات بلغت قيمتها ٢٦٥ مليون دولار مع الصين لمحاربة كورونا ثم استوردت المملكة اللقاحات الصينية كما فعلت الإمارات، ما شكل جرس إنذار جديد للولايات المتحدة.
من الواضح ان الولايات المتحدة تريد للسعودية أن تنضوي في إطار إستراتيجيتها الإقليمية. تريد زيادة مكتسباتها من المملكة التي يمسك بناصية القرار فيها ولي للعهد يبلغ الـ٣٥ عامًا ومرشح لأن يكون ملكًا لفترة طويلة
ماذا عن الجانب الأميركي؟
مع الإجتياح الرئيس العراقي للكويت، واندلاع حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١، تحولت دول مجلس التعاون قاطبة الى محميات عسكرية اميركية، فقاعدة عديد في قطر تستضيف القيادة الوسطى، والبحرين تستضيف الأسطول الخامس وفي كل من الإمارات وعمان والكويت والعراق كما في السعودية تنتشر القواعد العسكرية الأميركية.
وخلال حملته الإنتخابية، تعهد جو بايدن بإتخاذ اجراءات اكثر صرامة تجاه السعودية والتي وصفها بـ”الدولة المنبوذة دوليًا”. وبعد انتخابه، أعلن عن نهاية الدعم العسكري الأميركي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن ووعد بمراجعة صفقات الأسلحة للمملكة.
يريد بايدن من بن سلمان امرين اساسيين.. بالحد الأدنى:
الأول؛ الا يستخدم طاقاته المالية والسياسية لعرقلة العودة للإتفاق النووي مع ايران.
الثاني والأهم؛ حصر التعامل مع الصين كما مع روسيا الى الحد الأدنى.
لأجل تحقيق هذين الهدفين، يبدو بايدن مستعدًا للتلويح بكل القضايا التي بين يديه من اغتيال جمال خاشقجي الى اعتقال اصحاب الرأي المخالف، الى ما حصل في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٧ في فندق الريتز الى فرض عقوبات على بن سلمان ودائرته الضيقة.
من الواضح ان الولايات المتحدة تريد للسعودية أن تنضوي في إطار إستراتيجيتها الإقليمية. تريد زيادة مكتسباتها من المملكة التي يمسك بناصية القرار فيها ولي للعهد يبلغ الـ٣٥ عامًا ومرشح لأن يكون ملكًا لفترة طويلة. وليُ عهد أقر اصلاحات جذرية، اجتماعية واقتصادية وحتى شرعية تشكل ثورة حقيقية ولو أنها محفوفة بالمخاطر بلا شك. كما أنه ليس سهلًا على دول الخليج وعلى رأسها السعودية، خلع العباءة الأميركية، بسبب المخاوف من إيران، وتوتر العلاقات مع تركيا (حتى الآن).
وبغياب الأحلاف الحقيقية للملكة، يبدو من الصعب جدًا ان تمتلك قدرة كبيرة على المناورة او حتى النأي بالنفس عن الإنخراط في مواجهة نفوذ الصين في المنطقة.
وعلى المدى الأطول، وكي يتمكن الخليج من تعزيز هوامشه، تبدو دوله معنية بتعزيز قوتها العسكرية وألا يستمر إعتمادها الكلي على قوى اخرى لحماية أمنها القومي، كما تحتاج لإعادة صياغة تحالفات مستقرة في الإقليم وفي العالم. من نفوذ في سوريا ولبنان وفلسطين الى عودة الى العراق، الى علاقات مع فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين، إلى باكستان والهند على الرغم من الكلفة المرتفعة لهذه العلاقات وكيفية الحفاظ عليها.
ليست المرة الأولى التي تمر فيها العلاقات الأميركية السعودية بمرحلة من التوتر والخلافات، لكنها لم تبلغ مرة لا حد القطيعة ولا فك التحالف الإستراتيجي. لذلك، لا بد للسعودي من الإبتعاد عن الصين حد الطلاق بالإكراه حتى تضمن أمنها الإستراتيجي الذي يخضع لمتابعة الأميركيين، برًا وجوًا وبحرًا.. والأهم إستخباراتيًا.