الوقائع جرت فى مكان والرسائل قصدت مكان آخر.
التصريحات دخلت فى شواغل الأمن القومى العربى وتطورات الأزمة الليبية وأزمة «السد الإثيوبى»، استلفتت أنظار واستقطبت مشاعر بقدر وضوحها وحميميتها، غير أن العيون شخصت إلى تونس متسائلة عن قدر تأثير الزيارة على تفاعلاتها وأزماتها الداخلية.
بحكم صلاحياته الدستورية، فهو «رئيس مقيد» برغم أنه منتخب مباشرة من شعبه بأغلبية كبيرة.
تلك مشكلة مستعصية فى بنية النظام السياسى التونسى تهدد تجربته الديمقراطية والحريات العامة الواسعة المتاحة، التى تعد الإنجاز الوحيد للثورة التونسية.
هناك فارق جوهرى بين توازن السلطات وتشوه الأدوار.
التوازن من ضرورات الديمقراطية والتشوه قد يفضى إلى إجهاضها.
بأثر التجربة المريرة تحت حكم «زين العابدين بن على» مال التونسيون إلى تقليص صلاحيات الرئيس إلى أقصى درجة ممكنة، لكنهم أبقوا على النظام الرئاسى!
هكذا تجلى التشوه السياسى فى الأزمة المتفاقمة بين الرئيس والحكومة والبرلمان دون قدرة على حلحلتها، أو التخفيف من وطأتها.
أخطر ما تتعرض له تونس بعد عشر سنوات من إطاحة نظام «زين العابدين بن على» خلل منظومتها السياسية
حركة «النهضة»، صاحبة الأكثرية فى البرلمان، تطلب التحكم وحدها فى مفاصل الحكم، أن يتبعها الرئيس بالمباركة دون أن يكون له رأى على النحو الذى كان عليه «المنصف المرزوقى»، أول من تولى رئاسة الجمهورية بعد الثورة التونسية، لكنه لم يكن منتخبا مباشرة من الشعب.
رئيس الحكومة «هشام المشيشى» يجد نفسه محشورا بين الرئيس و«النهضة»، الأول ــ بلا صلاحيات دستورية تخوله اختيار الحكومة لكنه يملك تعطيل أعمالها، والثانية – تريده واجهة لتحالفاتها وحساباتها دون أن تتحمل مسئولية نجاحه، أو فشله.
والرئيس المحاصر يتحرك ويناور فى زاوية ضيقة، أدواره الداخلية لا تتجاوز الممانعة، لم يكن أمامه سوى «استراتيجية التعطيل» برفض أن يؤدى القسم الدستورى أمامه عدد من الوزراء تحوم حولهم شبهات فساد.
لم يخترهم، ولا كان له حق إبداء الرأى، وهذا انتقاص فادح من أية صلاحيات مفترضة لرئيس جمهورية منتخب.
أراد أن يحتكم على طريقته للرأى العام، هؤلاء فاسدون، دون أن يكون بوسعه أن يضع فى المواقع الوزارية شخصيات تتمتع بالنزاهة والكفاءة معا.
أخطر ما تتعرض له تونس بعد عشر سنوات من إطاحة نظام «زين العابدين بن على» خلل منظومتها السياسية فيما أزماتها الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم والأنين العام يدوى فى أرجاء البلاد والضجر من القوى السياسية المهيمنة يأخذ مداه.
فى مثل هذه الأوضاع القلقة اكتسبت زيارة الرئيس «قيس سعيد» للعاصمة المصرية معانٍ أكبر مما هو ظاهر على شريط الأخبار.
أراد أن يقول: «أنا هنا»، «الرجل الأول فى تونس»، «أنا وحدى من يحق له التحدث باسم تونس ويحدد توجهات السياسة الخارجية كما هو منصوص عليه فى الدستور».
كان ذلك ردا عمليا متأخرا على تغول الشيخ «راشد الغنوشى» رئيس حركة «النهضة» باعتباره رئيسا للبرلمان على صلاحيات الرئيس فى إدارة السياسة الخارجية بزيارات لدول فى الإقليم وإجراء مباحثات مع رؤساء دول وحكومات وتقرير سياسات دون علم الرئيس، أو تفويض من البرلمان نفسه!.
كانت تلك من مقدمات الأزمة بين الرجلين قبل أن تصل إلى حدودها الحالية حيث التنازع معلن والحرب مفتوحة.
الرئيس علت لهجته ضد الإسلام السياسى ممثلا فى حركة «النهضة» والشيخ «راشد» يصعد ضده فى البرلمان داعيا عبر أنصاره إلى مساءلته عن تعطيل العمل الحكومى ورفض التعديلات التى اقترحتها الحركة على قانون المحكمة الدستورية والتساؤل عن حالته الصحية ومدى أهليته للحكم.
كان ذلك تزيدا فى النزاع السياسى إلى حدود تنذر بمواجهات واسعة محتملة.
كان صعوده بذاته تعبيرا عن إفلاس الطبقة السياسية، وقلة ثقة الرأى العام فيها، اختار الناس «الرجل النظيف»، المتقشف، الذى اعتمد على مجموعة من الشبان ينتسبون لقيم الثورة التونسية فى إدارة حملته الانتخابية دون أن يكون لديه حزب سياسى يدعمه، أو قوة مالية تقف خلفه
صورة «قيس سعيد» اختلفت تماما عما بدا عليه عند صعوده إلى قصر «قرطاج».
قيل إنه موال للإسلام السياسى، وأنه سوف يكون رئيسا طيعا لما تريده حركة «النهضة»، التى تحوز الأكثرية البرلمانية، عند تشكيل الحكومات أو تغيير الوزراء، فى السياستين الداخلية والخارجية معا، فلا يتجاوز دوره التوقيع والمباركة دون حق إبداء الرأى.
ساعد على بناء ذلك التصور أن سجله السياسى بدا غامضا، فهو وجه غير معروف فى الحياة السياسية التونسية، باستثناء مداخلات يلقيها من حين لآخر على شاشات التلفزيون فى موضوعات تدخل فى صميم تخصصه الأكاديمى كأستاذ قانون دولى.
كان صعوده بذاته تعبيرا عن إفلاس الطبقة السياسية، وقلة ثقة الرأى العام فيها، اختار الناس «الرجل النظيف»، المتقشف، الذى اعتمد على مجموعة من الشبان ينتسبون لقيم الثورة التونسية فى إدارة حملته الانتخابية دون أن يكون لديه حزب سياسى يدعمه، أو قوة مالية تقف خلفه.
خلفيته قانونية، شأن الرئيس الأول «الحبيب بورقيبة»، دون أن تكون لديه الشخصية القيادية نفسها.
ولا هو ديكتاتور فاسد كالرئيس الثانى ـ «زين العابدين بن على»، الذى غدر بـ«بورقيبة» فى (7) تشرين الثاني/ نوفمبر (1987) بعد شهر واحد من تعيينه رئيسا للحكومة لضبط الأمن فى البلاد.
ولا هو فى مهمة عابرة كـ«منصف المرزوقى»، ولا تعبيرا عن القوى القديمة التى صعدت على أشلاء تمزق قوى الثورة معبرا عنها بـ«باجى قائد السبسى».
إنه رجل جاء من خارج اللعبة السياسية كلها.
فى اليوم التالى لدخوله قصر «قرطاج»، بدأت تونس تكتشف رئيسها الجديد، ويكتشف هو نفسه قدراته على إدارة الصراعات السياسية.
كل تصريح أدلى به فى القاهرة كان رسالة لمنافسيه السياسيين أنه ليس الرجل الطيع الذى تصوروه، وكل تصرف قام به دخل على ملف الأزمة الداخلية فى بلاده من حيث الصورة التى أراد أن يبدو عليها.
لم يكن متكلفا عند تجواله فى «خان الخليلى» بين المواطنين العاديين، فهو يتبع السلوك نفسه فى تونس، حيث اعتاد أن يتجول بلا حراسة تقريبا بين مواطنيه فى أماكن عامة، يحاورهم ويستمع إليهم، تلتقط صور ويذاب جليد.
أراد أن يقول إن مصر بلاده كما تونس، على طبيعته هنا كما هو على طبيعته هناك.
كان ذلك تعبيرا عن توجه عروبى راسخ يعبر عن نفسه بحرصه على الحديث بلغة عربية فصحى.
وكانت زيارته لضريح «جمال عبدالناصر» رسالة أخرى فى نفس الاتجاه: «أنا قومى عربى»، «تونس عربية ومستقبلها فى عالمها العربى».
أكد تصريحه أن «الأمن المائى المصرى من الأمن القومى العربى» على المعانى نفسها، لا مساحات رمادية حين تطرح القضايا الوجودية نفسها على أى بلد عربى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“