في انتظار.. الرد الإيراني!

ليس حدثاً استثنائياً أن تتعرض القنصلية الإيرانيّة في دمشق لهجوم إسرائيلي من شأنه أن يخدُشَ هيبة الجمهورية الإسلامية عبر اغتيال رئيس فريق المستشارين الإيرانيين في سوريا العميد محمد رضا زاهدي ونائبه والمجموعة العاملة معه. فقد سبق لـ"قوة القدس" أن تعرّضت لهذا النوع من الإعتداءات في ظل الحرب الهجينة التي تشنّها إسرائيل على سوريا بذريعة الحد من توسع النفوذ الإيراني، من دون أن يُفضي ذلك سوى إلى استمرار عملية بناء القدرة الإيرانية وتراكمها.

والمُثير للإهتمام في الكلام عن “رسالة إسرائيلية” قوية إلى إيران من خلال “ضربة دمشق”، هو إمكان تحويل الصدمة إلى فرصة لإعادة تقويم الدور الإيراني في مسار تطور الصراع مع كل من إسرائيل وأميركا.

وليس مغالاة القول أن تل أبيب تدقُّ باب طهران من دمشق لتقول “حان الوقت لتكشفوا أوراقكم الإقليمية”، وإذ تفعل إسرائيل ذلك تُلقي على كاهل إيران مسؤولية كبيرة في إدارة التوازنات الإقليمية من جهة والحد من مخاطر النزعة العدمية التي تُظهرها إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة من جهة ثانية.

الحسابات الخاصة بأي مواجهة عسكرية مع أميركا، تندرج حسب الخبراء في إطار “إستراتيجيّا كبرى” لإيران تنظر إلى السياسات والأزمات وصراع المحاور الإقليميّة، من خلال عدسة واقعية ونظرة ديناميكية تأخذ في الاعتبار موازين القوى

تعميق الخلاف الإسرائيلي الأميركي

وبالفعل، ينطوي الرد الإيراني في سياق ارتدادات الحرب الإسرائيليّة على غزّة التي بدأت شهرها السابع، على احتمال توريط إيران في حرب شاملة، وهو الأمر الذي تعمل طهران لتفاديه منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تاريخ انطلاق “طوفان الأقصى”، وهذا ما دفعها مؤخراً إلى تحذير الرئيس جو بايدن من مغبة الوقوع في “الفخ” الذي ينصبه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للإدارة الأميركية، وذلك في ظل سعي طهران لابقاء قنوات التواصل والتفاهمات مع واشنطن مفتوحة.. وتشجيع كل ما يُساعد في تعميق نقاط الخلاف بين الموقفين الإسرائيلي والأميركي.

وليس سراً أن التموضع الإيراني في حقل الصراع العربي الإسرائيلي وتالياً التزام القضية الفلسطينية ودعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال والاستيطان الكولونيالي، هو الحافز الأساسي للسعي الإيرانيّ المستمر لبناء جسور الشراكة الدفاعية مع سوريا وأيضاً مع حزب الله في لبنان. وقد اعتمدت إسرائيل في مواجهة ما تراه خطراً يتهدّدها أسلوب الغارات الجوية والمُسيّرات لضرب مراكز الحرس الثوري الإيراني ولا سيما منه “قوة القدس” التي سبق واستهدفت بأكثر من ضربة أودت بحياة عدد من قادتها البارزين في دمشق قبل اغتيال العميد محمد رضا زاهدي ونائبه، فضلاً عن “حرب الظلال” المستعرة منذ سنوات بين طهران وتل أبيب، والتي اتخذت أشكالاً مختلفة، وتبدّت بعض فصولها المُعلنة باغتيالات طالت أهدافاً داخل إيران، وردّ الإيرانيون بضرب أهداف في البحر من دون أن يتبنى الطرفان أياً من هذه العمليات.

لكن وخلافاً لموجة الاغتيالات والضربات السابقة، لم تتردد إسرائيل هذه المرة في استهداف مقر ديبلوماسيّ يخضع للسيادة الإيرانية، حسب القانون الدولي. وقد أسفرت “ضربة دمشق” عن خسارة مسؤول له مكانته في جهاز حيوي يتصل اسمه بنفوذ إيران الإقليميّ، فضلاً عن الإساءة المعنوية لنظام إسلامي حريص على كرامته الوطنيّة.

أولوية حماية البرنامج النووي

زاهدي وخامنئي
زاهدي وخامنئي

وإذ تدفع تداعيات “ضربة دمشق” إلى الواجهة تساؤلات حول أمن الوجود الإيراني في بلاد الشام وتكاليف العمل في مهب الاستقطاب الروسي ـ الأميركي، فإن عالم الجيوسياسية الإيرانية الممتد من المحيط الهندي إلى بحر الخزر وآسيا الوسطى له قلب ينبض على هضبة منيعة تزوّدت ببرنامج متقدم للردع الصاروخي الباليستي فضلاً عن بلوغ مرحلة “العتبة” في التكنولوجيا النوويّة.

ويعتقد ديبلوماسيّون غربيون أن ما يستحق أن يشغل بال القيادة الإيرانيّة في خضمّ التصعيد الإسرائيلي المنفلت إنما هو حماية البرنامج النووي. وهنا تأتي أهمية الحنكة الإيرانيّة في إدارة “اللعبة الكبرى” منذ تقبل خسارة الجنرال قاسم سليماني على أرض بغداد مطلع كانون الثاني/يناير 2020، وما تردّد عن تعمد طهران في حينه ابلاغ إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقصف الانتقامي لقاعدة عين الأسد، وهو الأمر الذي جنّبها مواجهة عسكرية محتملة مع أميركا. واليوم أكثر من أي وقت مضى، تحتاج المؤسسة الحاكمة في إيران إلى التصرف بـ”مسؤولية إستراتيجيّة” تحول دون توفير ذريعة قد تسمح لإسرائيل بجر إدارة بايدن إلى اشتباك عسكري مباشر مع إيران.

لذلك، يُمكن التصور في ضوء ما تقدم، أنه سوف يمضي وقت تتواصل فيه لعبة التكهنات في شأن طبيعة الرد الإيراني المرتقب على إسرائيل، شكلاً وزماناً ومكاناً، إلى أن تهدأ الحرب النفسية بعد ارهاق الإسرائيليّين وتكبيدهم إجراءات وتدابير أمنية مُعقدة ومُكلفة.. ثم تأتي حكومة إسرائيلية جديدة وينقشع الغبار عن حقيقة أن الرد الإيراني يكون عادة طويل النفس، إذ أن طهران تتحرك في المنطقة بموجب توجهات إستراتيجيّة تُركّز بموجبها على تعديل ميزان القوى الشامل وبناء نظام إقليمي متحرر من الهيمنة الغربية، فيما باتت إسرائيل في حالة ضياع وفقدان قدرة على التخطيط الاستراتيجي، لتتشارك بذلك مع الولايات المتحدة التي لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم في الشرق الأوسط.

يعتقد ديبلوماسيّون غربيون أن ما يستحق أن يشغل بال القيادة الإيرانيّة في خضمّ التصعيد الإسرائيلي المنفلت إنما هو حماية البرنامج النووي. وهنا تأتي أهمية الحنكة الإيرانيّة في إدارة “اللعبة الكبرى”

“استراتيجيا إيرانية كبرى”

إقرأ على موقع 180  "قضايا إسرائيلية" تحتاج إلى قرارات لا "إدارة نزاع".. أولها إيران!

يبقى أن الحسابات الخاصة بأي مواجهة عسكرية مع أميركا، تندرج حسب الخبراء في إطار “إستراتيجيّا كبرى” لإيران تنظر إلى السياسات والأزمات وصراع المحاور الإقليميّة، من خلال عدسة واقعية ونظرة ديناميكية تأخذ في الاعتبار موازين القوى. وإذا كانت الجمهورية الإسلامية كقطب إقليمي تستنير بـ”باراديغم” (نموذج) الدفاع الاستراتيجي على الصعيد الإقليميّ، فإن تطبيقاته المرنة تتضمن ارساء منظومة من القواعد والتحالفات تُجنّب إيران الانخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وتربط آليات صنع القرار الإيراني بأولوية حفظ النظام الديني ـ السياسي وسلامته.

لم تكتفِ السلطات الإيرانية بالإعلان أن ردّها الشديد على اغتيال زاهدي ورفاقه آتٍ لا ريب، بل تركت تحديد مستوى الرد وشكله ومكان وزمانه طي الغَموض، كونه يتقاطع مع مُعادلة مركبة مع كل من تل أبيب وواشنطن، لن يكون ثمنها أقل من وقف حرب غزة.

وكان لافتاً للإنتباه، في هذا السياق، ما أوضحه مستشار الرئيس الإيراني للشؤون السياسيّة محمد جمشيدي من أن بلاده في رسالتها لأميركا “حذّرتها من الوقوع في فخ نتنياهو”، وأن طهران قالت لواشنطن في رسالتها بوجوب أن تتنحي جانباً “كيلا تتعرض لضربة”، وخلص إلى أن الرد الأميركي تضمن طلباً بعدم التعرض لأهداف أميركيّة.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  صواريخ غزة تتحدى القبّة الحديدية.. ماذا بعد؟