بونابرت، الذي كان مفتونًا بالشرق، قرأ الكثير عنه قبل الشروع في رحلته التأسيسية. تركز اهتمامه في مرحلة أولى بشبه الجزيرة العربية على حوض البحر الأحمر، الذي يشكل امتدادا لمصر. وهذا أمر مفهوم، حيث لم تكن مصر بالنسبة له هدفًا في حد ذاته بقدر ما كانت تمثل وسيلة لخدمة رؤية استراتيجية أوسع.
كان بونابرت على دراية إذا عندما قام – بعد شهر من دخوله القاهرة في 25 أغسطس/آب 1798 – بتوجيه الأولى من سلسلة رسائله إلى شريف مكة، غالب بن مساعد. كان بونابرت ينظر إلى شريف مكة على أنه حليف محتمل ضد البريطانيين وأيضًا ضد العثمانيين، الذين كانوا على علاقات صعبة معه. وأن ذلك من شأنه تشجيع شريف مكة على الانقلاب على سلطانه، كما عبر عنه بونابرت بعبارات سيكون لها رواج فيما بعد بكثير: “لماذا تخضع الأمة العربية للأتراك؟ […] أريد استعادة جزيرة العرب”2.
بغض النظر عن الشعور بميل عربي جعله يعتبر عيسى وموسى أنبياء عرب، كان بونابرت قد أدرك جيدًا الوظيفة السياسية والروحية لشريف مكة، لأنه “رأى في الإسلام مجموعة سياسية يمكن حشدها”3 كان يتحدى بذلك الهيمنة العثمانية في البحر الأحمر، حيث كان الباب العالي يسيطر على شاطئيه من الشمال إلى الجنوب. تحالف البريطانيون الذين كانوا يتحكمون بالهند مع الإمبراطورية العثمانية لحماية مداخله. وقد أعلن السلطان العثماني الحرب على فرنسا في سبتمبر/أيلول 1798، في الوقت ذاته الذي استلم الشريف غالب الرسالة الأولى من بونابرت.
أجاب الشريف مقدما نفسه “كصديق” بونابرت الذي لم يكن كذلك، إذ سيرسل فيما بعد فرقة لمحاربته في صعيد مصر متخذا بالتالي موقفا إلى جانب العثمانيين. ولكنه حاول في مرحلة أولى تجنب الاصطفاف مع طرف ضد آخر بينما كان يتعرض لضغوط من البريطانيين. وقد كان لهؤلاء مقيم في جدة طويل الباع مما كان يسمح له باعتراض رسائل بونابرت. كأغلب معاصريه في المنطقة، كان شريف مكة ينظر إلى مُرسلها على أنه غازٍ له تصورات غير مفهومة، خاصة فيما يتعلق بالإسلام وادعائه بتحرير شعوب الشرق من الهيمنة التركية، ولكن كان من مصلحته مراعاته.
طريق الهند
وكان هناك ما يمكن التفاهم عليه. بالفعل تظهر مراسلات بونابرت بأنه كان يفهم جيدا الأهمية السياسية والدينية للحجاز، وأيضا أهمية تجارته الخارجية وبشكل عام مكونات اقتصاد حوض البحر الأحمر. إذًا كان يستهدف حاكما محددا. فهو لا يرى في شريف مكة سوى عنصرا مساعدا في خدمة مشروعه، الذي كان آنذاك يرتكز على مصر والذي سرعان ما قام بتوسيعه.
بعد عودته إلى فرنسا، أظهر بونابرت اهتمامه بالتطورات التي حصلت داخل شبه الجزيرة العربية وبأنه كان يستكشف بصفة موازية الطريق البري نحو الهند. وبالفعل، حدد الانتصار البريطاني في البنغال سنة 1757 طريق الهند على أنها المحاور الجيوسياسية الجديدة التي ستهيمن خلال القرنين التاليين في تاريخ العالم القديم […] وابتداء من سنوات 1770 بدأ المرور عبر السويس يشكل اهتماما للفرنسيين والبريطانيين4.
كانت نظرة بونابرت تتجاوز الحجاز حيث كان غالب بن مساعد يحاول صد اندفاع الدولة السعودية الأولى. وقد لجأ شريف مكة الذي كان فارا من تقدم الأخيرة إلى جدة، حيث صد الهجوم السعودي قبل أن يسترجع عاصمته ابتداء من يوليو/تموز 1803 بفضل الدعم العثماني. وكان المستشرق لويس ألكسندر أوليفيي دي كورانسيز (1770-1832) الذي شارك في حملة بونابرت على مصر قبل أن يصبح دبلوماسيا متمركزا في حلب وبغداد من 1802 إلى 1810، قد ذكر هو أيضا في كتابه “تاريخ الوهابيين من النشأة إلى نهاية 1909” (دار كرابارلد 1810) فشل الدولة السعودية الأولى في الاستيلاء على جدة عام 1803، ثم على العكس نجاحها في ذلك في 1806.
تحالف فاشل مع الوهابيين
في سنة 1803، كلف بونابرت كورانسيز – الذي كان يعرفه جيدا – بمهمة دبلوماسية لدى قائد الدولة السعودية سعود بن عبد العزيز، والتي ربما كانت ستغير مسار التاريخ العربي لولا فشلها في اللحظة الأخيرة. تتجاهل الكتب الكثيرة المخصصة لنابليون هذه الحلقة الصغيرة من ملحمة الإمبراطور، ولكنها تظهر تنوع دبلوماسياته واستمرار اهتمامه بالشرق بعد وقت طويل من حملة مصر. عندما بات وضع الشريف غالب بن مساعد بائسا في جدة المحاصرة من طرف جيش آل سعود، أظهر نابليون استعداده لتغيير موقفه حفاظا على دعم في البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية.
الكتابات الأوروبية عن الوهابية – والتي كان بونابرت مطلعا عليها- كانت تقدمها كنوع من الربوبية المسلحة الخاصة بثقافة الصحراء، وليس ذلك الإصلاح السياسي الديني المخيف الذي سيصير عليه في ما بعد
من دون أن يجعل بونابرت من الوهابيين القادة المحتملين لنهضة سياسية عربية كان يدعو إليها، وأكثر من ذلك من دون التخطيط لحملة ما نحو شبه الجزيرة العربية بحرية كانت أو برية، نرى أن حلمه الشرقي الشهير دفعه بالفعل إلى التفكير في إنشاء إمبراطورية الشرق. غير أن خطته لم تتحقق، كما فشل استيلاء الوهابيين على جدة. أرسل كورانسيز جوابه إلى وزيره في 9 يناير/كانون الثاني 1804 وجاء في نصها:
“الرسالة التي أذنتم لي بكتابتها إلى الوهابيين كان لا يجب -وفقا لأوامركم أيها الوزير المواطن- أن تسلم لهم إلا عندما تتأكد السيطرة على مكة وجدة، لذا يتعين عليّ إرجاء تنفيذ هذا الأمر وسأنتظر تعليمات جديدة من لدنكم”.
توقفت خطط التحالف الفرنسي- الوهابي عند هذا الحد، ولكنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق.
صحيح أن بونابرت كان انتهازيا وكان ينظر بعين الرضا إلى التوسع الوهابي الذي لم يكن معروفا بفرنسا على أنه تمرد ضد العثمانيين يتوافق مع تصوراته حول انتفاضة شعوب الشرق ضد الاستبداد، والتي حصلت بعد أن انفصل عن تحالفه مع الإمبراطورية العثمانية في يوليو/تموز 1807. وفضلا عن ذلك يتوافق مخططه مع تلاعبه بالإسلام، والذي يجعل منه من السباقين في الاستعمال السياسي لهذا الدين. ولكن هذا التقارب لم يكن يبدو محتملا لأن الكتابات الأوروبية عن الوهابية -والتي كان مطلعا عليها- كانت تقدمها كنوع من الربوبية المسلحة الخاصة بثقافة الصحراء، وليس ذلك الإصلاح السياسي الديني المخيف الذي سيصير عليه في ما بعد.
من ناحية أخرى لا يمكن التنبؤ مسبقا برد فعل بن سعود على رسالة من نابليون لم يتلقاها أبدا، ولكنه كان يشعر بنفس العداء تجاه العثمانيين ولربما كان سيرد على اقتراحاته. لم يقتصر تعطش الإمبراطور لمعرفة هؤلاء الحلفاء المحتملين ضد البريطانيين على المجال السياسي، والدليل على ذلك أول كتاب فرنسي حول الوهابيين الذي ألفه الكتالوني علي باي العباسي الذي أرسله نابليون في مهمة إلى شبه الجزيرة العربية في 1806، وقد نشر قصته سنة 18146.
الطموحات الشرقية للإمبراطور
بعد أن أصبح إمبراطورا في ديسمبر/كانون الأول 1804، لم يتوقف نابليون عند هذا الحد وفكر في “حملة شرقية جديدة تشهد جيشا فرنسيا يسير نحو الهند باتفاق مع العثمانيين والفرس”7. غير أن حرب إسبانيا التي انطلقت في عام 1808 والطابع الطوباوي لتحالف فارسي-عثماني وضعت حدا للمشروع، إن لم يكن لاهتمامه بالمنطقة برمته. تابع الإمبراطور باهتمام تثبيت سلطة محمد علي بالقاهرة من 1805 إلى 1811، ثم تدخله في شبه الجزيرة العربية ابتداء من أغسطس/آب 1811. والدليل على ذلك إرساله في 1812 العقيد فينسنت إيف بوتان (1772-1815) إلى مصر وسوريا في مهمة استخباراتية، والتي واصل في إطارها حتى الحجاز، مغتنما حملة الجيش المصري8 حيث لقي حتفه لاحقا.
ولكن الأديب الكبير ورجل الدولة ألفونس دي لامارتين سيشيع حلقة أخرى من اهتمام الإمبراطور بالتطورات في شبه الجزيرة العربية في ملحق كتابه “سفر إلى الشرق” (Voyage en Orient)، الذي نُشر في 1835، من خلال مغامرة ثيودور لاسكاريس دي فانتيمي وترجمانه الحلبي المسيحي فتح الله الصايغ. ووفقا لسرد هذا الأخير الذي نشر لامارتين ترجمته بالفرنسية، قام الرجلان بمهمة استخباراتية لفائدة الإمبراطور وسط الجزيرة العربية حتى عاصمة الدولة السعودية الأولى، الدرعية.
تزامنت رحلتهما بين 1811 و1812 أو ربما بلغت ذروتها في 1814. لكن غياب تعليمة مكتوبة من نابليون أضفى ظلالا من الشك عن حقيقة هذه المهمة الرسمية وأبطل بالتالي الأطروحة المستمدة من لامارتين والتي نقلها الصايغ، بخصوص إرسال عميل مكلف بدراسة دعم فرنسي محتمل لثورة الوهابيين ضد العثمانيين. غير أن الرحلة -التي حصلت فعلا- كانت تندرج دون شك في سياق الطموحات الشرقية لنابليون، وتوفر دليلا آخر عن الاهتمام الذي كان يوليه له الفرنسيون آنذاك والذي أجهض بعد سقوط نابليون في يونيو/حزيران 1815.
أرسل نابليون إذا العديد من المخبرين إلى شبه الجزيرة العربية وحاول خلق تحالفات مع اثنين من أهم قادتها المحليين: شريف مكة ثم قائد أول دولة سعودية. على الرغم من عدم اقترابه من الحجاز، قام نابليون بإدراجه بصفة غير مباشرة في “اللعبة الكبرى” الأوروبية التي كانت مركزة على الإمبراطورية العثمانية، وكانت نتيجتها توسيع التوازن الأوروبي من البحر الأبيض المتوسط إلى حدود الهند البريطانية. وهكذا رسم ما سيصبح بعد قرن من ذلك التاريخ الشرق الأوسط.
تشير الحملة المصرية إذا إلى بروز دولة عربية لم تكن سعودية بعد في الوعي السياسي الفرنسي.
(*) بالتزامن مع “أوريان 21“