باريس متشائمة.. وعون للحريري: التأليف عندي وليس في المريخ!

كما كان متوقعاً، وكما تشي مناخات باريس، فإن لقاء اليوم (وهو الخامس عشر) بين الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، على مدى ثلاثين دقيقة، بعد إنقطاع دام أكثر من خمسين يوماً، كانت نتيجته سلبية جداً، بدليل العبارة التي قالها الأخير: "لا تقدم". لا بل هناك تخوف من ان تكون الزيارة "القصيرة والمتوترة" جاءت على طريقة "بدل ما يجبرها كسرها"!

لنبدأ من العاصمة الفرنسية؛

ثمة تعتيم إعلامي وتكتم ديبلوماسي في باريس على لقاء الرئيس ايمانويل ماكرون بالحريري مساء الأربعاء في 10 شباط/ فبراير. التعامل الفرنسي مع اللقاء كان لافتاً للإنتباه. ولكن ما هي دلالاته وهل يحمل مؤشرات معينة وهل يمكن أن يحدث خرقاً في جدار الأزمة؟

كان ملفتاً لأنظار المتابعين للعلاقات الفرنسية – اللبنانية التباين الظاهر في كيفية تعامل كل من الجانبين الفرنسي واللبناني (الحريري تحديداً) مع مستجدات الملف الثنائي ومحوره مصير المبادرة الرئاسية الفرنسية وفي مقدم بنودها تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.

ضوضاء سياسية وإعلامية لبنانية كثيفة يقابلها صمت وتكتم فرنسي ظاهر. تسريبات وتأويلات على مدار الساعة من هذا الجانب، في وقت اكتفى الجانب الثاني بالعمل بعيداً عن الضوء وإذا ما تحدث، كان ذلك من خلال بيان رسمي من الخارجية (الكي دورسيه) وأحيانا قليلة جداً من قبل مصادر رئاسية ذات ثقة (قصر الأليزيه).

فلقاء ماكرون – الحريري الأخير، أعلن عنه مرات كثيرة في الأسابيع الماضية في وقت لم يكن قد حدّد موعد له في باريس. وحتى “عشاء العمل المنفرد”، ليل أول من أمس، تم من دون أن يكون مُدرجاً على الروزنامة الرئاسية الرسمية، كما لم يصدر أي بيان رسمي من قصر الأليزيه يؤكد حصوله. الإعلان الوحيد جاء من الجانب اللبناني عبر بيان المكتب الإعلامي للحريري.

صحيح أن هناك جانبأ بروتوكوليأ. رئيس جمهورية فرنسا يستقبل شخصية أجنبية مكلفة بتأليف حكومة في بلده. هذا الشق تجاوزته الرئاسة الفرنسية من خلال إضفاء طابع “خاص” على اللقاء، فلا إعلان ولا بيان ولا صورة ولا حتى “سيلفي”، ولكن الأهم هو الحرص الفرنسي على “الإقتصاد في الكلام في إنتظار الأفعال وتنفيذ الإلتزامات”.

ولكن في ضوء المستجدات واللقاءات والإتصالات ما بين باريس وبيروت، كيف بدت مواقف الفرقاء الثلاثة المعنيين بالأزمة الحالية، أي ايمانويل ماكرون، ميشال عون وسعد الحريري؟

أكد الحريري تمسكه بالآتي: لا إعتذار عن التأليف، لا ثلث معطلاً لأي فريق سياسي، لا تمثيل سياسياً لأي حزب بل تسمية وزراء إختصاصيين، لا تراجع عن حكومة مهمة من 18 وزيراً، وبالتالي، لن يتراجع الحريري عن آخر صيغة حكومية إقترحها على عون

موقف الحريري:

أولاً، في حديث الساعتين في قصر الأليزيه، بدا الحريري وكأنه جاء لكي “يشتكي” في محاولة منه للدفاع عن موقفه وإظهار أنه ليس الجهة المعرقلة في موضوع تأليف الحكومة، رامياً الكرة في ملعب عون الذي يجهد من أجل “تعويم” رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حكومياً، “بعد تراجعه شعبياً وعزلته سياسياً وتضرر صدقيته دولياً، بفعل العقوبات الاميركية”، على حد قول الحريري.

ولم يوفر الحريري أمام ماكرون النائب جبران باسيل من إنتقاداته اللاذعة لإزدواجية مواقفه ودوره “المخفي” في تعطيل كل المساعي “التي لا تتماشى مع إحكام سيطرته على التمثيل الوزاري المسيحي وفقاً لتطلعاته الرئاسية المستقبلية”.

ثانياً، أكد الحريري تمسكه باللاءات ـ الثوابت التي حملها إلى باقي العواصم، معتبراً أنها تنسجم وروحية المبادرة الفرنسية التي وافق جميع الفرقاء في لبنان عليها ولذلك، تمسك بالآتي: لا إعتذار عن التأليف، لا ثلث معطلاً لأي فريق سياسي، لا تمثيل سياسياً لأي حزب بل تسمية وزراء إختصاصيين، لا تراجع عن حكومة مهمة من 18 وزيراً، وبالتالي، لن يتراجع الحريري عن آخر صيغة حكومية إقترحها على عون، في مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، إلا أنه أبدى إستعداده لتسهيل المسعى الفرنسي من خلال “التسمية المشتركة” لوزيري الداخلية والعدل، عارضاً مجموعة أسماء قابلة للنقاش والتحاور وصولاً إلى إختيار أحدها، لكن زيارة الحريري اليوم إلى بعبدا، بيّنت أن هذه المخارج غير متوفرة أبداً.

ثالثاً، نقل الحريري إلى ماكرون نتائج جولته (لا حديث عن أي وساطة لأية دولة بما فيها قطر) وخلاصة المواقف المصرية والإماراتية والتركية حيال الوضع اللبناني وخصوصاً لجهة دعم موقعه وموقفه. وإذا كان واضحاً تأييد القاهرة وأنقرة لثبات موقفه إنطلاقاً من تعزيز دوره على مستوى طائفته، فإن الإمارات وإن أظهرت “إنفتاحاً” حياله، بدت حريصة على “مراعاة” موقف السعودية منه وأخذه في الإعتبار، علماً أن الإمارات إشترطت لأي إستثمار إماراتي مستقبلي توافر الإستقرار السياسي والسير بالبرنامج الإصلاحي.

رابعاً، يعوّل الحريري على جهود ماكرون مع السعودية من أجل تليين موقفها حياله وتفهم وضعه والتعامل معه بشكل إيجابي.

يعتبر عون أن جولات وزيارات واتصالات الحريري الخارجية مصرياً وإماراتياً وتركياً وحتى فرنسياً “لا تقدم ولا تؤخر”، وأن “مرجعية التأليف هي عندي في قصر بعبدا وليس في المريخ”، في تلميح إلى أنه حتى لو إستقل رئيس الحكومة المكلف المسبار إلى المريخ لا مفر من عودته إلى بعبدا

موقف عون:

إقرأ على موقع 180  لا جديد.. لقد بلغنا النهاية التي نستحقُها!

يبدو أن باريس حاولت إستمزاج رأي عون بعد ساعات من لقاء ماكرون والحريري من خلال إحدى قنوات الإتصال وأدى الإتصال إلى تسهيل إعادة فتح أبواب قصر بعبدا مجدداً أمام الحريري، ولكن ذلك لم يمنع من تكون الإنطباعات الفرنسية الآتية:

أولاً، عون “ممتعض جداً” من طريقة تصرف رئيس الحكومة المكلف، فبدل الإنهماك بإجراء الإتصالات مع مختلف الفرقاء اللبنانيين “من دون تمييز” يتلهى بـ”النطنطة” من بلد لآخر.

ثانياً، يعتبر عون أن جولات وزيارات واتصالات الحريري الخارجية مصرياً وإماراتياً وتركياً وحتى فرنسياً “لا تقدم ولا تؤخر”، وأن “مرجعية التأليف هي عندي في قصر بعبدا وليس في المريخ”، في تلميح إلى أنه حتى لو إستقل رئيس الحكومة المكلف المسبار إلى المريخ لا مفر من عودته إلى بعبدا.

ثالثاً، عون متشدد في ممارسة حقه الدستوري حتى آخر يوم من أيام ولايته و”بيسوى التمثيل المسيحي ما بيسوى تمثيل بقية الطوائف”، ووجوب أن تتم عملية التأليف “وفقاً للأصول الدستورية وبعيداً عن محاولات التسلط السياسي والمزاجية والأحقاد الشخصية”.

رابعاً، ما زال عون يفضل حكومة الـ 20 وزيراً (مقعدان درزي وكاثوليكي لصالحه)، وهو يشترط فصل تمثيل حزب الطاشناق الأرمني عن الوزراء الستة المسيحيين الذين سيسميهم سواء في حكومة من 18 أو 20 وزيراً.

موقف ماكرون:

أولاً، تأكيد الرئيس الفرنسي عن عدم تخلي بلاده عن “الشعب اللبناني” خصوصاً في ظل هذه الأزمة “المصيرية والخطيرة” التي يمر بها ومتابعة الإهتمام من خلال السعي لتجاوز الصعوبات وحل العراقيل التي تعترض مسار المبادرة الفرنسية.

تخرج الأوساط الفرنسية المتابعة بنظرة متشائمة وحذرة جداً حيال مستقبل الأوضاع اللبنانية المتأزمة، وبإنطباع مفاده أن الخيارات والمخارج اللبنانية تضيق كثيراً “إلا إذا حصلت أعجوبة ما”، وتتساءل هذه الأوساط “أو ليس لبنان بلد العجائب”؟

ثانياً، باريس متمسكة بخارطة طريق ماكرون، وهي لن تقدم على أي تحرك جديد، فأية خطوة جديدة من قبلها مرهونة بحصول بداية فعلية وحقيقية للإلتزام بالتعهدات، فإعلان النوايا وإطلاق الوعود لا يكفي والمطلوب هو إلتزام واضح وصريح وفعلي للتجاوب مع المساعي الفرنسية، وبالتالي لا زيارة جديدة مرتقبة لماكرون إلى بيروت إلا بعد إستجماع وتوافر شروطها وأولها تأليف حكومة جديدة ذات مصداقية وتتبنى البرنامج الإصلاحي (المبادرة الفرنسية).

ثالثاً، تشديد ماكرون على حرص فرنسا البقاء على مسافة واحدة من جميع الفرقاء اللبنانيين.

رابعاً، فرنسا مستمرة بإلتزامها متابعة إتصالاتها الإقليمية والدولية لحشد التأييد لأي تحرك مستقبلي لمساعدة لبنان، حسب مندرجات الخطة الإنقاذية الفرنسية.

خامساً، لمست باريس إستعداداً فعلياً من الإدارة الأميركية الجديدة لدعم مبادرتها، ونقلت الأوساط الفرنسية عن مصدر ديبلوماسي أميركي قوله “نحن على إستعداد للعمل معاً مع الفرنسيين ولكن شرط تشكيل حكومة جديدة ذات صدقية وشفافية وملتزمة فعلياً بتنفيذ الإصلاحات الضرورية”.

سادساً، على الصعيد العربي، التواصل الفرنسي مستمر مع الجانب المصري، أما بالنسبة للجانب السعودي، فالرئيس ماكرون وضع الأزمة اللبنانية على جدول محادثاته في زيارته المرتقبة إلى الرياض (ترددت معلومات أنها تحددت قبل نهاية شباط/فبراير الحالي يوم 21 ولكن لا تأكيد رسمياً بعد).

ويبدو أن باريس غير متفائلة كثيراً لحصول تغيير في موقف القيادة السعودية حيال لبنان لسببين: أولهما سياسي ربطاً بموضوع حزب الله المعقد والثاني شخصي ويتصل بعلاقة الثقة المفقودة بين ولي العهد السعودي والحريري، خصوصاً أن ماكرون سبق له أن حاول أكثر من التقريب بين الإثنين على مدى السنوات الثلاث الماضية، لكن من دون التوصل إلى نتيجة ملموسة.

سابعاً، العلاقة الفرنسية – الإيرانية تتعرض حالياً لإهتزاز بفعل موقف باريس المستجد حيال عملية إعادة إحياء الإتفاق النووي مع طهران ومطالبتها بتوسيع الإطار التفاوضي عبر إشراك فرقاء جدد من بينهم السعودية. هذه الخطوة الفرنسية لا تنظر إليها القيادة الإيرانية بكثير من الإرتياح وبالتالي قد تؤثر على مشاركتها بـ”دور تسهيلي” في عدد من المشكلات الإقليمية ومن بينها الأزمة اللبنانية. زدْ على ذلك الإنطباع السائد لدى المراقبين بإحتفاظ الإيرانيين بأوراقهم الإقليمية في مفاوضاتهم المرتقبة مع الأميركيين بدل تسهيل مهمة الفرنسيين أو غيرهم في أي من ملفات المنطقة.

بناءً على كل هذه المعطيات، تخرج الأوساط الفرنسية المتابعة بنظرة متشائمة وحذرة جداً حيال مستقبل الأوضاع اللبنانية المتأزمة، وبإنطباع مفاده أن الخيارات والمخارج اللبنانية تضيق كثيراً “إلا إذا حصلت أعجوبة ما”، وتتساءل هذه الأوساط “أو ليس لبنان بلد العجائب”؟

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس" و"لغز الكاتيوشا": هدنة أم "أيام قتالية"؟