أرادت إسرائيل في ذكرى النكبة ان تضيف الى السجل الحافل لارتكاباتها نكبة جديدة، لكنها فوجئت كما العالم، ليس فقط بكثافة الصواريخ الحربية التي اطلقت من القطاع المحاصر، بل بقنابل الغضب البشرية التي تفجّرت في وجهها في اللد وحيفا وعكا وقرى النقب، حيث اعتقدت انها استطاعت في 73 سنة من الاحتلال والقمع والترهيب والترغيب، اقتلاع جذوة المقاومة والروح من احفاد اصحاب الارض الذين لم يتخلوا عن ارضهم وبيوتهم.. وكرامتهم.
اسّست انتفاضة فلسطينيي العام 1948 بترابطها الوثيق مع انتفاضة حي الشيخ جراح وباب العمود والأقصى والضفة وانتفاضة صواريخ غزة وتضامن الشتات، لما يمكن وصفه بانه محطة مفصلية تقطع مع ما سبقها وتؤسس لما بعدها، ذلك انها المرة الاولى التي يظهر فيها الشعب الفلسطيني موحداً في القطاع والضفة والقدس والداخل والمنافي، برغم كل محاولات شق صفوفه وتجزئة برنامجه النضالي، ولا سيما منذ نهاية الستينيات مروراً بأوسلو وصولاً إلى التفريق بين ابناء الشعب الواحد سواء ببطاقات هوية متعددة الألوان، أو بتركيبات سلطوية مختلفة الأهداف والتوجهات، أو بأحزاب وقيادات محلية متناحرة. في المحصلة، لا النكبة، ولا النكسة، ولا الاشهر السود، ولا اتفاقات اوسلو، إستطاعت أن تمس بالعنفوان الوطني الفلسطيني.
في اسبوع واحد، شطب الفلسطينيون “الخط الأخضر” وخرائط اوسلو وبقية خطوط التجزئة والكانتونات المرسومة سلفاً في الغرف السود، وإذا كانت إسرائيل هي التي بادرت الى إزالة هذا الخط، طمعاً في الضم والاستيلاء على المزيد من الاراضي وتبديد حقوق اهل الارض، فإن الفلسطينيين داسوا هذه الحدود بأقدامهم، من اجل بعث وحدتهم الوطنية، على أرضهم التاريخية، في مواجهة التطهير العرقي والابتلاع والتبديد والتهويد والأسرلة.
ما يجري في الداخل وسط انقسام إسرائيلي غير مسبوق، هو مشهد لا يسر المحتل، فقد كتبت صحيفة “الجيروزاليم بوست” أن التعايش العربي واليهودي في إسرائيل “أصبح على حافة السكين”
صواريخ غزة ستتوقف عاجلاً أم آجلاً، بموجب قواعد إشتباك جديدة يحاول المقاومون الفلسطينيون فرضها، أما تمرد اهل الداخل، فليس الا مؤشراً الى بداية تحولات جذرية، هي آخر ما كان يتوقعه آباء المشروع الصهيوني، ذلك ان رهان هؤلاء على اعتبار الجغرافيا عاملاً قابلا للتلاعب والتغيير، تبدد مع عودة التواصل من خلف الجدار بين البحر والنهر، بين اللد وطولكرم، بين حيفا وغزة، بين النقب والغور، ذلك ان الوجع في حي الشيخ جراح وباب العمود كان أنينه يخترق اجساد الشبان في ام الفحم وسحنين وابناء المخيمات في خان يونس وصبرا وشاتيلا وعين الحلوة، فيتفجرون غضباً وألماً وتضامناً.
انتفاضة اهل الداخل، ستعزز شوكة دعاة “يهودية الدولة” في إسرائيل، وتمدهم بالمزيد من الذرائع والحجج لتبرير تطرفهم وارتكاباتهم، لكن مشروعاً كهذا يحمل في طيّاته عناصر موته قبل الولادة، ذلك أن الترحيل والإحلال والتطهير العرقي والديني لم يعد ممكناً، فالاحتلال نفسه يدفع اليوم ثمن ثبات الفلسطينيين في كل زاوية من ارضهم، فوجود هؤلاء اصيل وليس موقتاً، ولديهم كل الحوافز لمعاندة الاحتلال. اظهروا ان سكونهم في المراحل السابقة كان صبراً ولم يكن خضوعاً او اذعاناً، وان تدجين بعضهم هو الشواذ وليس القاعدة. لم يردعهم جنون عصابات المتطرفين اليهود الفالتين في الشوارع بلا رادع. ما يجري في الداخل وسط انقسام إسرائيلي غير مسبوق، هو مشهد لا يسر المحتل، فقد كتبت صحيفة “الجيروزاليم بوست” أن التعايش العربي واليهودي في إسرائيل “أصبح على حافة السكين”. هذا ليس مجرد انذار، انه تحذير، انه تصحيح للصورة المزيفة التي ساقتها إسرائيل، بان اهل الداخل هم “عرب” دولتها وانهم يتمتعون بكل حقوق المواطنة والانتخاب والترشح في نظام ديموقراطي، فاذا بانتفاضتهم تكشف بالملموس انهم يتعرضون للتنكيل المنهجي، وانهم مواطنون من درجة ثالثة وليس ثانية بعد اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، وقد مارست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات تضييق الخناق عليهم، واستهداف وجودهم ورأتهم خطراً دائماً على أمنها وإقتصادها وخريطتها الديموغرافية، وحاولت تنفيذ أكثر من خطة تهجير قسرية ومصادرة اراضيهم. لكن برغم الوضع الشائك الذي يعيشونه كأقلية في دولة عدوة لأبناء جلدتهم ولامتدادهم العربي، يصرون على بقائهم ويحافظون على تقاليدهم وتراثهم وحياتهم الخاصة ولغتهم العربية وبرامج تعليمهم ومنافسة الإسرائيلي في الطب والعلوم والفنون والادب والحرف.
يوسف هيرلمن:”اذا قرر عرب إسرائيل الصعود الى المتاريس سينشأ خطر جسيم على امن المواطنين اليهود، ذلك انهم لا يحتاجون الى اجتياز الحدود كي ينفذوا عمليات تخريبية فهم موجودون في قلب الدولة”
لم يصادق الكنيست عبثاً على قانون النكبة العنصري والمتطرف، ذلك ان نشاط فلسطينيي الداخل في تعزيز ثقافتهم وروايتهم لمأساتهم اقلق المؤسسة الإسرائيلية فاستعانت بالقوانين لشل امكاناتهم وطموحاتهم الوطنية. كما ان هؤلاء عمدوا إلى تثبيت فلسطينيتهم في كل مناسبة، ولعل ابدالهم عبارة ما يسمى “يوم استقلال إسرائيل” بشعار “يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا” أدى إلى تفاقم سياسة التمييز والعداء بينهم وبين المؤسسة الإسرائيلية.. وفي كل سنة يدشنون مسيرة إلى بلدات هجرت عام 48، ليس فقط لإحياء ذكرى النكبة والإصرار على “حق العودة”، وإنما أيضاً لإبقاء تراثهم وقضية أبناء شعبهم الفلسطيني على رأس أجندتهم السياسية وفي عقول الأجيال المقبلة.
هؤلاء هم الطليعة الفلسطينية المتقدمة، لذا فان إسرائيل تخشاهم اكثر من سواهم واترابهم، وقد حذر من ذلك رئيس الاستخبارات الاسبق يوسف هيرلمن بقوله:”اذا قرر عرب إسرائيل الصعود الى المتاريس سينشأ خطر جسيم على امن المواطنين اليهود، ذلك انهم لا يحتاجون الى اجتياز الحدود كي ينفذوا عمليات تخريبية فهم موجودون في قلب الدولة”.
ما جرى في قلب فلسطين، يعيد الامور الى سياقها الحقيقي. أولاً؛ بان اهل الداخل هم مكون اصيل من الشعب الفلسطيني، وقضيتهم هي ايضا جزء اصيل من القضية الام وليس فرعا منها، وعليه، فان اي قرار سياسي فلسطيني لا يشاركون في صنعه هو قرار ناقص، واي برنامج للعمل الوطني الفلسطيني، لا يأخذ في الاعتبار رؤيتهم وخصوصيتهم ودورهم المركزي في القضية، هو برنامج قاصر.
ثانياً؛ على المعنيين بالقضية الفلسطينية والمناصرين لها، عربا أم اجانب، عدم إهمال هذا المكون الأساسي من مكونات القضية الام، بل الحامي المركزي للهوية والإرث الفلسطيني. وبالتالي، هؤلاء هم اكثر من يستحق الدعم لانهم الاكثر استهدافا كونهم في قلب المواجهة وفي صفوفها الأمامية، وفي المقابل، يتعين عليهم ان يكونوا الاحرص على تنظيم صفوفهم وتحديد اشكال نضالهم حتى لا يسهل كسرهم وتشريدهم.
ثالثاً؛ أي تعامل مع الفلسطينيين في الداخل يجب أن يكون مرتبطا بحل شامل للقضية الفلسطينية، واي تسوية عامة تسقطهم من حساباتها هي تسوية ناقصة ومبتورة.