لم يأتِ الحراك الأولي الذي بدأ في درعا في منتصف آذار/ مارس عام 2011 إلا ضمن سياق مشروع أميركي غربي إسرائيلي على مستوى العالم الإسلامي، وكان من المفترض أن ينتهي ببناء الشرق الأوسط الكبير الممتد من جنوب شرق آسيا مروراً بآسيا الوسطى وانتهاءً بالمغرب، وفق برنامج مؤتمر سي آيلاند الأميركي في شهر فبراير/ شباط عام 2004، والذي وضع الحجر الأساس لاستهداف كل من الصين وروسيا ومحاصرة إيران.
إستطاع المشروع الأميركي الوصول إلى سوريا، بعد تونس وليبيا ومصر، مستفيداً من ثغرات البنية الداخلية المتراكمة خلال عقود من الزمن، فأنتج إنقساماً أولياً داخل المجتمع السوري بفعل مئات مليارات الدولارات التي أُنفقت على الإنشقاقات داخل بنية النظام السياسي والجيش، بالإضافة الى الترقب والحذر من قبل موسكو وطهران وبكين اللاتي كانت تدوّر الزوايا بحثاً عن مخارج سياسية للحرب على سوريا.
مع إكتمال صورة ما حدث في سوريا عام 2012، أدرك حلفاء دمشق بأن مسار الأحداث في البلاد ليس سوى جزءاً من المشروع الأميركي الذي يستهدفهم في أمنهم القومي، فكان لا بد من الوقوف مع دمشق في أزمتها، فارتفعت سوية الدعم الإيراني بكل أشكاله، والذي منح دمشق قوة مانعة في الحسابات السياسية والعسكرية للأعداء. وبدأ التدخل السياسي لموسكو وبكين في مجلس الأمن بالاعتراض على المشروع الأميركي لتبرير إسقاط دمشق، التي رفضت إعادة التموضع الجيوسياسي مع المشروع الغربي، وأبقت على خياراتها مع طهران وموسكو وبكين. وأخذ الصراع أشكالاً مختلفة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً، ليستقر في المحصلة على ثلاث مستويات (داخلية – إقليمية – دولية) متشابكة في ما بينها بطريقة مركبة ومعقدة، تتداخل فيها مصالح الدول وقيمها ومطامحها.
كانت الحرب السياسية الساعية لإسقاط النظام السياسي في دمشق هي العنوانَ الذي تتفرع عنه كل أشكال الحرب، لإدراك الجميع بأن من يستطيع الانتصار فيها فإنه يستطيع حسم المسار العام لا في سوريا وحدها، بل على المستوى الإقليمي والدولي، ففي ذلك تبيان لملامح النظام الإقليمي والدولي ما بعد الحرب على سوريا. من هنا تأتي أهمية الحفاظ على النظام السياسي في دمشق، وتقديم كل سبل الدعم التي يتطلبها من قبل طهران وموسكو بالدرجة الأولى، بعد أن إستطاع مواجهة الحرب عليه لما يقارب العامين وحيداً، في مواجهة أشرس هجوم دعمته تركيا وقطر والسعودية والأردن وجزء من لبنان، وهي حرب إقتضت تمويل مقاتلين تم جلبهم من 84 دولة في العالم إلى سوريا!
السوريون يتساءلون: ألم يحن الوقت لإجراء تغيير داخلي جذري عميق وهادئ، ينسجم مع طبيعة الدور الكبير الذي لعبته سوريا ببقائها مفتاحاً لعالم متعدد الأقطاب، ويليق بالتضحيات الهائلة التي قدموها دماً ومالاً واغتراباً؟
لم تدخر الولايات المتحدة، التي مازالت القوة المهيمنة على القرار العالمي، وسيلة لإسقاط دمشق، بدءاً من الحصار السياسي والاقتصادي والتدمير الممنهج للنسيج الاجتماعي السوري، الى التغيير الديمغرافي عبر دفع السوريين نحو النزوح الداخلي والتهجير الخارجي، وتفريغ الداخل من خبراته بفتح الأبواب لهذه الخبرات، التي عجزت الدولة السورية عن تأمين سبل استمرارها بالحياة وبما يليق بها بالحد الأدنى، وكل ذلك لم تنجح به.
إنقلب المشهد السياسي الإقليمي والدولي بعد الدخول العسكري الروسي المباشر في 30 أيلول/ سبتمبر عام 2015، في خطوة تعبر عن طبيعة معادلات القوة المتغيرة لغير مصلحة واشنطن. وقد سبقها بأشهر الاتفاق النووي مع إيران في شهر أيار/ مايو، ما دفع بالإدارة الأميركية للبحث عن مدخل جديد لتغيير النظام السياسي في دمشق، اعتمادا على التوافق مع روسيا، فكان الاتفاق حول القرار 2254 في 18 كانون الأول/ ديسمبر من العام 2015، أي بعد بضعة أشهر فقط من بدء الحملة العسكرية المشتركة لدمشق وحلفائها.
لم يعمّر هذا الاتفاق بفضل تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي إعتبرت القرار بمثابة وسيلة لإسقاط للنظام السياسي في دمشق، بالاعتماد على حكومة انتقالية تقود سوريا إلى الضفة الأُخرى، فكان رد وزير الخارجية الروسي سيرغي لاڤروف سريعاً على هذا التفسير الأميركي، عبر تعطيل صيغة الاتفاق لمصلحة سوريا، وتوفير الضمانات لبقائها دولة موحدة ضمن إطار المشاريع الآسيوية الناهضة.
لم يبق للإدارة الأميركية ومن معها بعد إستعادة دمشق سيطرتها على أكثر من 65% من الأراضي السورية، وتثبيت وقائع ميدانية للحليف الإيراني، إمتدت من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، إلا المراهنة على إدخال سوريا في متاهة الشرعية السياسية لدمشق في انتخابات الرئاسة عام 2021، بالاعتماد على قرار مجلس الأمن المذكور، والذهاب نحو تشكيل لجنة دستورية تؤهل لدستور سوريّ جديد.
بعد إطاحة الدولة العميقة في الولايات المتحدة بالنموذج الترامبي، إندفعت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن لإعادة ترتيب أولوياتها على مستوى السياسة الخارجية، وإعتبار مواجهة الصين وروسيا أولوية لواشنطن التي إستنزفتها الحروب في غرب آسيا على مدى عقدين من الزمن. وما سلف يعني الذهاب نحو محاولة إخراج إيران من بعدها الآسيوي الذي تُشكل فيه رأس الحربة، والإقرار بالعجز عن تغيير النظام السياسي في دمشق، الأمر الذي يتطلب العودة الى الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات عن إيران، وغض النظر عن مسارات الحل في سوريا، وإعتبار دمشق أمراً واقعاً لا مفر منه.
في السياق ذاته، تعززت المعطيات السابقة عبر المواجهة الأخيرة في فلسطين من البحر الى النهر ومن الشمال إلى الجنوب ونجاح محور طهران – بغداد – دمشق – الضاحية – غزة، في إبراز نفسه قوة إقليمية لها الكلمة الأولى في تقرير مسارات المنطقة ومستقبلها، خاصةً بعد اجتماع قادة المقاومة في دمشق مع الرئيس بشار الأسد وتحضير أرضية عودة كتائب القسام (حماس) إليها، بما يمنح دمشق حصانة متجددة في في مواجهة الضغوط التي تتآكل، وقدرة على فرض الحلول التي تنسجم مع رؤيتها ومصالحها.
لم يعد يوم ٢٦ أيار/ مايو 2021 يوماً انتخابيا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو يوم فاصل في حرب طويلة تجاوزت العقد الكامل، وتعبير عن مسار الصراع بمستوياته الثلاثة، المحلية والإقليمية والدولية، وهو خطوة هامة على طريق طويل لولادة نظام إقليمي ودولي جديد، مع ترقب السوريين لما بعد الاستحقاق الرئاسي المحسوم، وهم يتساءلون؛ ألم يحن الوقت لإجراء تغيير داخلي جذري عميق وهادئ، ينسجم مع طبيعة الدور الكبير الذي لعبته سوريا ببقائها مفتاحاً لعالم متعدد الأقطاب، ويليق بالتضحيات الهائلة التي قدموها دماً ومالاً واغتراباً؟