في الحروب عادةً ما يتلطّى المحايدون “الإيجابيون” وراء القول اللاتيني الشهير “حرب الجميع ضد الجميع” (Bellum omiun contra omnes)، فيما يتصوّر المحايدون “السلبيون” بأنّهم مع سلامِ الجميع مع الجميع. في حالة الحرب في فلسطين، لم يعد هنالك معنى للحياد، بلّ إنّ إحدى أهم المعادلات الجديدة التي طرحتْ نفسها على أرض الواقع بحزمٍ ومضاء، هي المرور إلى ما بعد الحياد. في الخطاب الثقافي الغربي كما سبق التنويه في مقالاتٍ سابقة، مصطلح الـ”ما بعد” يعني بالضرورة موتُ النموذج السائر، وتحوّله إلى رفاتٍ يقوم على أنقاضه النموذج الجديد الذي يليه.
لقد أثبتت غزّة مرةً أخرى، وكما في كل مرة، بأنّها الوصيّة أخلاقياً وثقافياً عن كل فلسطين، فهي المبادرة الأولى إلى الشعور بوجع الإصابة في مناطقَ أخرى، وهي التي تُعيد تركيب الصراع إلى سيرته الأولى، حيث كان البدء بكل فلسطين قبل أنّ “تتقسطر” المناطق، وتتحوّل المدن إلى نوعٍ من المحميّات الصغرى والكانتونات الرديفة، ويتراجع على غرار ذلك، مفهوم الحاضرة مقابل مثول البادية وتنتهي المدينة أمام صعود القرية.
يحدثُ أن تتحرّك حيفا ويافا وغيرهما، وهما على سبيل الحصر، “مفخرة” الرواية الإسرائيليّة في “نجاح” التعايش بين الصهاينة والفلسطينيين، بلّ إنّ حيفا، كانت العاصمة/ المقترح قبل أن ينصرف ذهنُ الصهاينة إلى تل الربيع، تسميةً زمنذاك قبل أن تتحوّل إلى تل أبيب زمنئذٍ. وكانت الحجة وقتها: إنّها مدينة علمانيّة محايدة دينياً، وربما تنجح في صهر الهوّة بين اليهوديّة والإسلام، وقد تكون المعبر الآمن إلى نجاح الاستعمار الإحلاليّ. (للاستزادة راجع: موسوعة اليهود واليهوديّة والصهيونيّة، المجلد السابع، للدكتور عبد الوهاب المسيري).
لكن رغم النجاح الطفيف في ما سبق ذكره، بسبب الدعم الغربي الواقع تحت رحمة الهولوكوست، لم تنجح إسرائيل في تحريف الموقف القانوني منها، بل بقيت عاجزة عن سدّ الثغرات التي تخلّفها وراءها كلما كانت بإزاء مجزرة جديدة؛ إنّها كيانٌ لا يترك الثغرات وراءه كلما تقدّم فحسب، وإنّما ينتجها أيضاً حالما يتقهقر.
محاسبة إسرائيل
في يوم 17 تموز/ يوليو سنة 1998، صوّتت 120 دولة في مؤتمر عالمي على ميثاق أممي، اصطُلح عليه بـ نظام روما المؤسّس للمحكمة الجنائيّة الدوليّة. وكان الهدف منهُ الدفع نحو إنشاء قضاء دولي جنائيّ ذيّ طابع جزائي يهدف إلى محاسبة الجناة ومنع المجرمين من التملّص من العقوبة والفرار من العدالة تحت أيّ ذريعة كانت. مستعينين في تحقيق ذلك، بسوابق ناجحة إلى حدّ ما، تمثلت في محكمة نورمبيرغ ومحكمة طوكيو ومحكمتيّ روندا ويوغسلافيا، الأمر الذي دفع الكثير من الدول إلى تكريس احترام حقوق الإنسان من خلال إضفاء الطابع العقابي على مخالفة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يعدو أن يكون مجرد توصيةً غير ملزمة (وهو رأي القاضي لوترباخت والفقيه كلسن)، برغم أنّه ينصّ في المادة (10) على الحق في اللجوء إلى القضاء من دون أي تفسير تقنيّ لطريقة التقاضي ( لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحقُ في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظراً مُنصفاً وعلنياً، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيّة تهمة جزائية تُوجّه إليه).
بغض النظر عن التفسير السياسي لهذا الطموح القضائي الفلسطيني، يبقى خطوة هامة للغاية في طريق التوثيق الدقيق وتوفير السند القانوني الجاهز لأيّ استفاقة ضميريّة قد تحدث للعالم، فالقانون وبشكلٍ عام ليس مثل السياسة، لا ينظر في الظروف لمجرد أنّها ظروف واقعة بمقتضى الحال، وإنّما يوثّق نصاً ومعنى في انتظار الظروف المناسبة لانعقاد المحاكم
ولأنّ إسرائيل مخالفة للقانون الدولي، صدر في حقّها 40 قراراً أممياً، فضلاً عن أنّها متّهمة (بلغة القانون) دولياً بأكثر من جريمة، كان منطقياً أنّ يثور النقاش حول مدى إمكانية محاكمتها، بناءً على التصرفات التالية:
1- مسؤوليّة الأشخاص الذين يحملون جنسيّتها في إطار المسؤوليّة الفرديّة عن الجرائم.
2- المسؤولية الجماعيّة (المساهمة الجنائيّة) عن ارتكاب الجرائم.
3- الأمر/ الحثّ/ الإغراء بارتكاب جرائم وقعت أو تدخل ضمن الشروع في الارتكاب من خلال التحريض.
4- بذل العون أو تقديم المساعدة من أجل تيسير ارتكاب الجريمة أو الشروع في ارتكابها (وهنا تتورّط الولايات المتحدة جنائياً، إذ يحقّ للمدعي العام أن يشملها بالتحقيق).
5- مسؤوليّة قادتها من سياسيين وعسكريين عن ارتكاب الجرائم.
6- انعقاد الاختصاص الوطني (الفلسطيني) في محاسبة إسرائيل بموجب نظام روما الأساسي باعتبار فلسطين صارت عضواً يحمل رقماً، وقد سبق للنائب العام الفلسطيني السابق أحمد المغني أن أصدر سنة 2006 القرارات التالية:
أ- القرار رقم 27 الصادر بتاريخ 2006 القاضي بشرعية انعقاد الاختصاص الوطني في النظر في الجرائم الدولية وملاحقة مرتكبيّها.
ب- التعليمة رقم 28 الصادرة بتاريخ 2006 القاضيّة بمباشرة التحقيق في الجرائم المرتكبة.
إضافة إلى انشاء الهيئة الوطنية الفلسطينية لملاحقة جرائم الاحتلال والمختصة في توثيق هذه الجرائم في حال تَيسْر اللجوء إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة.
وبغض النظر عن التفسير السياسي لهذا الطموح القضائي الفلسطيني، يبقى خطوة هامة للغاية في طريق التوثيق الدقيق وتوفير السند القانوني الجاهز لأيّ استفاقة ضميريّة قد تحدث للعالم، فالقانون وبشكلٍ عام ليس مثل السياسة، لا ينظر في الظروف لمجرد أنّها ظروف واقعة بمقتضى الحال، وإنّما يوثّق نصاً ومعنى في انتظار الظروف المناسبة لانعقاد المحاكم، لا سيما أنّ الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل لا تسقط بالتقادم استناداً إلى المادة (29) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدوليّة التي تنصّ صراحةً على عدم سقوط الجرائم بالتقادم: “لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم أياً كانت أحكامه”.
ثمة تناقضات جمّة في منطوق النص، من شأنها أن توفّر الذريعة القانونيّة لإفلات إسرائيل من الإدانة حتى لو كانت رمزيّة بسبب الخلّل الفني الذي يشوب بعض المواد، هذه المواد التي أثارت جدلاً بين بعض الدول الأطراف في الميثاق، بينما بعثت بالكثير من الارتياح لدى دولٍ أخرى تستأثر بقيادة العالم لوحدها
الحق الفلسطيني
بعيداً عن السائد من القول، بدأت تبرز الخطوة العملية في محاسبة إسرائيل عن جرائمها في فلسطين، من خلال تقديم شكوى رسمية للمحكمة الجنائيّة الدوليّة. لكن ثمة عوائق قد تحول دون مباشرة الاختصاص، وليس في رفع الدعوى في حدّ ذاتهِ، ذلك أنّ رفع الدعوى ضد إسرائيل لدى الجنائيّة الدوليّة تقرّر للسلطة الفلسطينيّة منذ انضمام فلسطين إلى اتفاقيّة روما الخاصة بتأسيس المحكمة الجنائيّة بتاريخ 14 حزيران/ يونيو 2014، وبالتالي صارت فلسطين ضمن الدول الأطراف في المحكمة (العضو رقم: 123)، أيّ الدولة التي تقبل ولاية المحكمة القضائيّة عليها، وأيضاً الدول المخوّلة بإحالة مسألتها على مستوى الجنائيّة الدوليّة طبقاً لنص المادة (14) من النظام الأساسي للمحكمة الذي ينصّ على التالي:
“إحالة حالة ما من قبل دولة طرف:
1- يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أيّة حالة يبدو فيها أنّ جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدّعي العام التحقيق في الحالة بغرض البتّ في ما إذا كان يتعيّن توجيه الاتهام لشخص معيّن أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.
2- تحدّد الحالة، قدر المستطاع، الظروف ذات الصلة، وتكون مشفوعةً بما هو في متناول الدولة المُحيلة من مستندات مؤيّدة”.
وتقول المادة (13) بـ:”للمحكمة أن تمارس اختصاصها في ما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة 5 (جريمة الإبادة الجماعيّة، الجرائم ضد الإنسانيّة، جرائم الحرب، وجريمة العدوان)، وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:
(أ) إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة 14 حالة يبدو فيها أنّ جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
(ب) إذا أحالَ مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدّعي العام يبدو فيها أنّ جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
(ج) إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق في ما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادة 15″.
وبموجب المادة الخامسة، ينعقد الحقّ لفلسطين في إحالة ما حدثَ على أرضها من جرائم تدخل في صميم اختصاص الجنائيّة الدوليّة، إلى المحكمة بوصفها عضو تمّ قبوله رسمياً في الفاتح من نيسان/ إبريل 2015، لكن تبقى هنالك عوائق شتّى في النظام الأساسي للمحكمة في حدّ ذاته. ثمة تناقضات جمّة في منطوق النص، من شأنها أن توفّر الذريعة القانونيّة لإفلات إسرائيل من الإدانة حتى لو كانت رمزيّة بسبب الخلّل الفني الذي يشوب بعض المواد، هذه المواد التي أثارت جدلاً بين بعض الدول الأطراف في الميثاق، بينما بعثت بالكثير من الارتياح لدى دولٍ أخرى تستأثر بقيادة العالم لوحدها، وهذا ما سوف نقف عندهُ بدقة في الجزء الثاني من هذه المقالة.
(*) الحلقة التالية بعنوان: جرّ إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية.. المآزق والحلول