قبل أيام قليلة، خُضتُ نقاشاً مع الكاتب اللبناني عامر محسن تمحور حول موقع ودور تركيا الحالي بالنسبة للصراع الروسي ـ الغربي في أوكرانيا، وجاءني جوابه بأن الجميع يستشعر حصول تبدلٍ معينٍ في موازين القوى العالمية، “وليس أدلّ على ذلك من موقف المحميّات الخليجيّة”، بحسب تعبيره، وتمايز هذا الموقف عن الخيار الغربي ولا سيما الأميركي، وأنّ موقف تركيا يعتمد بشكل أو بآخر، على مآلات ورجحان كفّة هذا الصراع ومدى قدرة الجبهة الغربية على تضييق هامش المناورة حتى تحسم أنقرة موقفها بشكل نهائي، فإذا إفترضنا إنتكاسة روسية ما في هذه المعركة، “فإن آثارها لن تكون كارثيّة قياسًا بالدول الضعيفة والصغيرة، عدا عن أن الصّين لن تسمح بحدوث هكذا انتكاسة، خاصة أن موسكو حسمت موقعها في مواجهة الإمبراطوريّة الغربية الحاليّة، ليس لأسباب إيديولوجيّة طبعًا، بل لأنّ ما عدا ذلك سيجعلها وحيدة ومحاصرة. هذا الخيار من المفترض أن ينعكس إيجابًا على الدّول الرافضة والمهدّدة بإستمرار من تلك الإمبراطورية”، يقول زميلنا عامر محسن.
أدوات لشرح طبيعة الصراع
أن تنخرط في حرب ما، يعني بشكلٍ أو بآخر أنّك قد تورّطت في “لعبة” سيتداعى كثيرون كي يؤثّروا فيها ويراهنوا عليها. نظريّة المفكر الصيني الشهير سون تزو (Sun Tzu) قبل ألفين وخمسمائة عام، والمبنية على تفادي الصراع العسكري إذا ما أمكن تحقيق النصر بطرقٍ أخرى، أصبحت قاعدة معتمدة في التخطيط السياسي والعسكري، كما أن رفض الدخول في حرب قبل استكمال شروط النصر فيها، باتت موضوعًا ثابتًا في الفكر الإستراتيجي الدولي، كما يشرح الكاتب إميل خوري في كتابه “صراعات الجيل الخامس” ( من أفضل الكتب العربية في شرح طبيعة الصراع القائم).
إن تحقّقت أهداف روسيا، فهذا يعني أنّ تبدل موازين القوى العالمية بات أمرًا واقعًا، وموقف تركيا اليوم سيعزّز موقعها في النظام العالمي الجديد. أمّا في حال هزيمة روسيا، فإنّ حاجة “الإمبراطوريّة” الملحّة لتركيا ستتعزّز من أجل إحكام حصار روسيا وخنق فضائها الجيوسياسي
يرى خوري أنّ هناك مبادىء تشكلت من صميم المسار الفكري الجيوسياسي وبات يعتبرها الساسة الغربيون من بديهيّات تصرّفهم. تنقسم هذه المبادىء إلى جزءين، أحدهما فلسفي والآخر سياسي.
في الشق الفلسفي، هناك ثلاثة مبادئ:
- ليس هناك من شريك سياسي للدولة. كل شريكٍ محتمل، هو في الوقت نفسه غريمٌ متوقعٌ وعدوٌ ممكن.
- الدولة تتعامل مع الثوابت الميدانية وترفض التعامل مع النوايا.
- الإمبراطوريّة تستشعر الخطر عند تسجيل أول بادرة استقلالٍ في القرار خارج نطاق نفوذها.
في الشٌق السياسي ـ يضيف الكاتب إميل خوري ـ هناك أربعة خطوطٍ توجيهية:
- القوّة العسكرية هي البرهان على عزيمة الدولة في علاقاتها الدولية، والقدرة والعزيمة موضوعان مختلفان، إذ لا يكفي إظهار القدرة، بل الأهم هو إظهار العزيمة في الدفاع عن مصالح البلد.
- على الدولة أن تحمي الموارد التي تحتاجها أينما كانت، ومهما يكن النظام الذي تُوجدُ فيه.
- على الدولة أن تحمي المواقع الجغرافيّة التي تعتبرها استراتيجيّة، إن داخل البلد أو خارجه أيضًا، وهي مواقع ثابتة عادة، كالمضائق المائية.
- أنّ هدف المفاوضات مع الدول الأخرى، هو تحسين شروط الحصول على الموارد الضروريّة وتخفيض كلفتها، وكلّما كان الطرفان واعيين لمستلزمات اللعبة الجيوستراتيجيّة، فإن هذا الوعي يمكن أن يكون أرضيّة مشتركة تسهّل التخاطب بينهما.
ميزة هذا الكتاب ـ برأيي ـ تبرز في تشريح خوري لمفهوم الإمبراطورية وعناصرها. برغم مركزية السلطة السياسية في الولايات المتحدة وأهميتها، إلّا أنّها لا تُمثّل كلّ شيء في نظام الشرايين وشبكة الأعصاب الممتدة حول العالم والتي تشكل “الإمبراطوريّة”. لهذه المؤسّسة العالميةِ الإمتداد، بالإضافة إلى عضلاتها وشرايينها وأعصابها ودماغها، أوجهٌ وجوانب غير واضحة المعالم، وربّما كان بعض هذا الإبهام فيها مقصودًا. وبرغم التباينات التي قد تظهر أحيانًا بين دول هذه الإمبراطورية، كالموقف الأميركي ـ الفرنسي المتصادم من غزو العراق، إلّا أنّها في لحظات التهديد، تصطف جميع دولها مع مكوّناتها للدفاع عنها.
موقع تركيا في لعبة الأمم
ينقل مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم” عن زكريا محيي الدين أحد أبرز مساعدي الرئيس جمال عبد الناصر جزءًا من محاضرة له يشرح فيها لعبة الأمم، التي تشكل المواقف والتصرفات التي تتبناها الأمم جريًا وراء مصالحها وطمعًا في تحقيق أهدافها القوميّة بأيّة وسيلة غير الحرب. إنّها تضع مُسبقًا في اعتبارها أنّ مصالح الأطراف كلّها متضاربة ومتباينة، مهما بلغت درجة الصداقة وتوطّدت الأواصر بينها، وأنّ أيّ ربحٍ تجنيه إحدى تلك الأمم لن يكون إلّا على حساب أمّةٍ أخرى، والّلاعب الماهر فيها هو الذي يحصل على كلّ الغنائم لصالحه ويدخل في ائتلافات آنيّةٍ وتجمعاتٍ تكتيكيّة مع غيره من الّلاعبين الّذين تجمعه معهم مصالح ومنافع مشتركة، وعليه أن يُوزّع الأعباء على الخاسرين بأجمعهم حتى لا يصيب الطرف منهم أكثر من طاقته، حسب محيي الدين.
كلام زكريا محيي الدين يُسهّل شرح وتفسير دور أنقرة وموقعها في هذا الصراع الدولي الدائر حالياً. ففي بداية الحرب الأوكرانية، وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليصف علاقته بكلّ من روسيا وأوكرانيا بالمهمة والضروريّة، وأنّه يجب عدم خسارة صداقة أيّ منهما. في ظاهر هذا الموقف، تبدو تركيا في موقع المحايد الإيجابي مع كلّ من روسيا من جهة، وأوكرانيا وخلفها الغرب من جهة أخرى، خاصة مع أخذها دور “الحكيم” الذي يجمع اثنين من أصدقائه المتقاتلين، وهو دور تحبّه تركيا وتتقنه، وقد سبق لها أن مارسته بين كلّ من سوريا و”إسرائيل” قبل اندلاع ما سُميّ بـ”الربيع العربي”، وكذلك بين طهران والأطراف الأخرى قبل توقيع الإتفاق النووي عام 2015. أمّا في الجوهر، فإنّ الموقف التركي يصبّ في مصلحة روسيا، برغم انحيازه الإعلامي لجهة أوكرانيا، فموقف تركيا المتمايز عن حلف شمال الأطلسي التي تعتبر جزءًا منه، يُشكل بحدّ ذاته خرقًا لمصلحة روسيا.
صحيحٌ أن التداعيات الآنية لهذا الصراع ستنعكس مؤشراته سلبًا على الإقتصاد التركي الذي يجاهد من أجل التعافي والنمو، لكن مآلات هذه المواجهة، إذا ما استمرّت هذه الظروف ولم يحصل أيّ تبدّل نوعي يلزم أنقرة باتخاذ موقف جازم وغير رمادي
لا داعي لتكرار حجم التبادل التجاري بين كل من أنقرة وموسكو، أو تعاون الطرفين في جبهات متعدّدة، لكن السؤال المحوري، هل كان بإمكان تركيا الطامحة إلى دور إقليمي محوري أن تقوم بهذا الدور لولا تبدل موازين القوى العالمية، بالإضافة إلى ترابط المصالح وتشابكها بين أنقرة وموسكو إلى درجة متقدمة ومعقدة؟
تركيا الرّابحة
تقول صحيفة “هآرتس” العبرية إنّ تركيا هي الفائز الأكبر حتى الآن في أوكرانيا، حيث أرسى أردوغان سياسة متوازنة بالتعامل مع كل من روسيا وأوكرانيا على حدّ سواء. فمن ناحية، ندّدت تركيا بضمّ جزيرة القرم والحرب ضد كييف، ومن ناحية أخرى، لم تتماهَ مع حلفائها في الأطلسي بفرض عقوبات على موسكو. لقد خطّت أنقرة مسارًا ثالثًا يحصد من الطرفين.
صحيحٌ أن التداعيات الآنية لهذا الصراع ستنعكس مؤشراته سلبًا على الإقتصاد التركي الذي يجاهد من أجل التعافي والنمو، لكن مآلات هذه المواجهة، إذا ما استمرّت هذه الظروف ولم يحصل أيّ تبدّل نوعي يلزم أنقرة باتخاذ موقف جازم وغير رمادي، خاصة مع حاجة المتقاتلين إلى أرضٍ محايدة من أجل التفاوض، ستجعل من تركيا رابحًا في كلّ حال. فإن تحقّقت أهداف روسيا، فهذا يعني أنّ تبدل موازين القوى العالمية بات أمرًا واقعًا، وموقف تركيا اليوم سيعزّز موقعها في النظام العالمي الجديد. أمّا في حال هزيمة روسيا، فإنّ حاجة “الإمبراطوريّة” الملحّة لتركيا ستتعزّز من أجل إحكام حصار روسيا وخنق فضائها الجيوسياسي (وبحسب عامر محسن، لا يمكن احتواء بلد بحجم روسيا أو الصين).
في الخاتمة، لا بد من تسجيل ملاحظة حول هذه الحرب. يبدو الإصطفاف الغربي العنصري والمتحيّز مع أوكرانيا غير مفاجىء أبداً. لسنا أمام تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ومن بينها بروز ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، فالذين قادوا تلك الطائرات، بحسب الرواية الغربية المتعارفة، لم يكونوا أكثر من “حاقدين” فقراء و”متخلّفين” لا يملكون أيّ مشروع يهدّد تفوّق الإمبراطوريّة وتسيّدها. أمّا اليوم، فالقضيّة مختلفةٌ. هناك روسيا ومن خلفها الصين، دولتان تُهدّدان تفوّق الإمبراطوريّة الغربيّة وتُسجّلان التحوّل الأبرز في النظام العالمي الجديد، ولهذا كلّ عناصر الإمبراطوريّة مستنفرةً ومستفزةً، وتبًا للديمقراطية وحرية التعبير والرأي الآخر.
دعونا نترقب.. ونُراقب.