جرّ إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية.. المآزق والحلول (2/2)
TOPSHOT - A Palestinian man wearing a face mask walks past a mural of journalists killed in the 2014 between Hamas and Israel, in Gaza City, on March 4, 2021. - The International Criminal Court opened a formal investigation on March 4, 2021 into alleged war crimes in the Palestinian territories, in a move blasted by Israeli premier Benjamin Netanyahu as the "essence of anti-Semitism". (Photo by Mohammed ABED / AFP) (Photo by MOHAMMED ABED/AFP via Getty Images)

"القاعدة التي لا تتّسم بالمنطق، لا يمكن اعتبارها قاعدة قانونيّة على الإطلاق". هكذا قال القاضي الإنجليزي وليام بلاكستون في كتابه "تعاليق على القوانين الإنجليزيّة"، شارحاً في مؤلفه الشهير هذا، كيف أنّ المنطق هو الذي ينبغي أن يقود القانون وليس القانون هو من يقود المنطق.

ما حكم به قاضي لندن في القرن 18 إنتصاراً  لتفوق المعيار الأخلاقي بما فيه من منطقٍ وتماسك على مجريات الواقع على ما فيها تهلّهلٍ وتَغيّر، يصلح تماماً في فحص المتن المتناقض الذي قامت عليه المحكمة الجنائيّة الدوليّة.

وكما أسلفنا في الجزء الأول من هذه المقالة، ثمة معضلة بنيويّة في نظام المحكمة الجنائيّة الدوليّة، تبدّت هذه المشكلة التي ترقى إلى حالة خللٍ موضوعي ومنهجي أثّر في وظيفتها الموكلة إليها، في قيامها بالأساس على رضا الدول. بمعنى أنّ الدول التي تصادق على ميثاق روما التأسيسي لا تُسلّم تماماً بعمل المحكمة ما لم تكن قد تأكدت حقاً بأنّ في نظامها المؤسس ما يوفّر لها شبكة أمان من نوعٍ خاص، فالمحكمة على نحوٍ ما، لا تطال البعض، بينما يقع الآخر في صميم إختصاصها.
تفسّر المادة (4) أكثر فتقول بعد الفقرة الأولى التي تتحدّث عن مركز المحكمة القانوني “تكون للمحكمة شخصيّة قانونيّة دوليّة، كما تكون لها الأهليّة القانونيّة اللازمة لممارسة وظائفها وتحقيق مقاصدها”. ثم تأتي الفقرة الثانية وتحدّثنا عن الاتفاق الخاص الذي يُبرم بين المحكمة و”أيّة دولة أخرى”، من دون تقديم أي شروحٍ عن نوع هذا الاتفاق الخاص ودون تحديد هذه الدولة الأخرى: هل هي دولة طرف أمّ لا؟:”للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها، على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أيّة دولة طرف، ولها، وبموجب اتفاق خاص مع أيّة دولة أخرى، أن تمارسها في إقليم تلك الدولة”.
تأتي المادة (17) لكي تمنح الأولويّة للقضاء الوطني في النظر في الدعوى، ذلك أنّ القضاء الدولي الجنائي لا يحلّ محلّ الاختصاص الوطني، فالأصل هو أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة “مكمّلة” للولاية القضائيّة الوطنيّة من باب احترام سيادة الدول، ويقف القضاء بوصفه سلطة، إحدى ثلاث سلط أساسيّة للدولة: التنفيذيّة والتشريعيّة، ويُعدّ أحد العناوين الأساسيّة في تحديد نطاق سيادة الدول على أراضيّها، لكن تصطدم هذه المادة بمحتوى المادة (20) التي تقضي بـ”عدم جواز المحاكمة على الجريمة ذاتها مرتين”، إذ تنصّ صراحةً من دون لُبس مع إيراد بعض الاستثناءات التي سوف تتفلّت إسرائيل منها ببساطة على: “1- لا يجوز، إلا كما هو منصوص عليه في هذا النظام الأساسي، محاكمة أيّ شخص أمام المحكمة عن سلوك شكّل الأساس لجرائم كانت المحكمة قد أدانت الشخص بها أو برأته منها. 2- لا تجوز محاكمة أيّ شخص أمام محكمة أخرى عن جريمة من تلك المشار إليها في المادة 5 كان قد سبق لذلك الشخص أن أدانته بها المحكمة أو برأته منها. 3- الشخص الذي يكون قد حوكم أمام محكمة أخرى عن سلوك يكون محظوراً أيضاً بموجب المواد 6 أو 7 أو 8 لا يجوز محاكمته أمام المحكمة فيما يتعلق بنفس السلوك إلا إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى: -أ) قد اُتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسؤوليّة الجنائيّة عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، ب‌) لم تجرِ بصورة تتّسم بالاستقلال أو النزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف، على نحو لا يتّسق مع النية إلى تقديم الشخص المعني للعدالة”. هذا العوار لا يوفر مهرباً آمناً للدول المارقة فحسب، وإنّما يؤسّس لنوعٍ من الفرار الشرعي من العدالة الجنائيّة من خلال نقل النقاش من حالته الموضوعيّة المنظورة في وقوف المتهم في مواجهة القضاء، إلى حالة إجرائيّة فنيّة مشمولةً بسجال الشكل والتأسيس.

تأتي المادة (17) لكي تمنح الأولويّة للقضاء الوطني في النظر في الدعوى، ذلك أنّ القضاء الدولي الجنائي لا يحلّ محلّ الاختصاص الوطني، فالأصل هو أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة “مكمّلة” للولاية القضائيّة الوطنيّة من باب احترام سيادة الدول

الحصانة الدبلوماسيّة
برغم أنّ المادة (27) تنصّ على عدم الاعتداد بالصفة الرسميّة كما هو الحال في متنها التالي:

“1- يُطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساويّة دون أيّ تمييز بسبب الصفة الرسميّة، وبوجه خاص فإنّ الصفة الرسميّة للشخص، سواءً كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تُعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنّها لا تشكل في حدّ ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة”.

2- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائيّة الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسميّة للشخص سواءً كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”، لكنّ هذا المعطى يتعارض تماماً مع محتوى المادة (98)، التي تقول:

“1- لا يجوز للمحكمة أن توجّه طلب تقديم أو مساعدة يقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدولة أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة أن تحصل أولاً على تعاون تلك الدولة الثالثة من أجل التنازل عن الحصانة.

2- لا يجوز للمحكمة أن توجّه طلب تقديم يتطلب من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو لا يتفق مع التزاماتها بموجب اتفاقات دولية تقتضي موافقة الدولة المرسلة كشرط لتقديم شخص تابع لتلك الدولة إلى المحكمة، ما لم يكن بوسع المحكمة أن تحصل أولاً على تعاون الدولة المرسلة لإعطاء موافقتها على التقديم”. في حين نجد أنّه في النظام الأساسي لمحكمة نورمبيرغ قبل أكثر من زهاء نصف قرن من الزمان، نصّ على أنّ المنصب لا يُعفي قطعاً من تبعات المسؤوليّة الجنائيّة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة وجرائم الإبادة الجماعيّة، علاوة على أنّ المحكمة صاحبة الاختصاص الأصيل طبقا للمادة (6) من نظامها الأساسي.
والحال أنّ الخلل في نظام روما، يكمنُ في أنّ استحالة درء التناقض الواضح بين المادة (27) والمادة (98)، أدّى إلى تأمين شكلٍ مكينٍ من الاستباحة الإجرائيّة أفضت في أطوارها، إلى استهانة سياسيّة وطنيّة دنيا بسلطة قضائيّة دوليّة عليا، كان يمكنُ أن تعلو، فيما لو توفّر قدرُ من انسجام القصد بالواقع، عن أحابيل السياسة وتمارس نوعاً من الإحاطة والرقابة على أعمالها.. برز ذلك جلياً في زيارات الرئيس السوداني السابق عمر البشير لـ 16 دولة بعد صدور مذكرة توقيف بحقه في الرابع من آذار/ مارس 2009، من بين “مزاراته” دول أطراف في الميثاق، لم تحاول القبض عليه وفاءً لتعهدها القانوني أثناء التصويت على النظام الأساسي للمحكمة، ذلك الذي ينصّ صراحةً على تسليم المطلوبين استناداً إلى الفقرة الأولى من المادة (59) والتي جاء فيها “تقوم الدولة الطرف، التي تتلقى طلباً بالقبض الاحتياطي أو طلباً بالقبض والتقديم، باتّخاذ خطوات على الفور للقبض على الشخص المعني وفقاً لقوانينها ولأحكام الباب 9”. من بين هذه الدول في الشرق الأوسط: الأردن. وفي إفريقيا: ماولاي، تشاد، كينيّا، جنوب إفريقيا هذه الأخيرة التي استضافت البشير خلال الدورة العاديّة لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي المنعقدة أطواره في شهر حزيران/ يونيو 2015، دفعت جنوب إفريقيا حين أثارت المحكمة خرقها للميثاق، بالتعارض الحاصل بين المادة (98) والمادة (27) من النظام الأساسي (المشار إليهم نصاً أعلاه)، وهو ما يجعلهما غير واضحتين تماماً، في حين – حسب دفع جنوب إفريقيا – أنّ العلاقة بين الدول الأطراف والدول غير الأطراف محكومةً بموجب القانون الدولي العرفي الذي يمنح للرؤساء امتياز الحصانة، وإذا حدث وأن اعتقلت دولة ما رئيس دولة أخرى تحت أيّ ذريعة كانت، فإنّ ذلك يُعدّ انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي، فضلاً عن التزامات الدول تجاه الأخرى.

صار واضحاً جداً انحياز المدّعي السابق ضد الأفارقة لوحدهم، حيث قدّم 39 اتّهاماً رسمياً لمواطنين أفارقة فقط، من بينها إدانات لثلاثة رؤساء أفارقة (الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الرئيس السابق لساحل العاج لوران غواغبو والعقيد الليبي معمّر القذافي)، الأمر الذي أدّى إلى إنسحاب بعض الدول الإفريقية من النظام الأساسي للمحكمة

الحلول “المستحيلة” في الوقت الحالي
هنالك الكثير من الجهات تعوّل على تحرّك المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة من تلقاء نفسه، طبقاً لنص المادة (17) التي تنص في فقرتها الأولى: “للمدّعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة”. هذا التصوّر مقبول فيما لو استند إلى سوابق، غير أنّ الواقع يخبرنا أنّ المدّعي العام للمحكمة آنذاك لويس مورينو أوكامبو المنحاز للولايات المتحدة وإسرائيل والمتورّط في قضايا فساد، لم يتحرّك بعد تسريب صور التعذيب في معتقل أبو غريب في العراق سنة 2014 ونشرها في وسائل الإعلام العالميّة، ولم يكلّف نفسهُ أيّ عناءٍ يُذكر، جعل العالم ينتبه إلى المدى الذي يمكن فيه قياس السلطة المخوّلة لمركز المدّعي العام في المحكمة الجنائيّة الدوليّة. وحتى المدّعيّة التي تلتها في المنصب السيدة فاتو باسنودا لم تُظهر حزماً كافياً في متابعة إسرائيل أو إعادة فتح الملف العراقي من جديد، ويبدو أنّها جاءت (16 حزيران/ يونيو 2012) بالأساس إلى منصبها الرفيع كجائزة ترضية للأفارقة، بعد أن صار واضحاً جداً انحياز المدّعي السابق ضد الأفارقة لوحدهم، حيث قدّم 39 اتّهاماً رسمياً لمواطنين أفارقة فقط، من بينها إدانات لثلاثة رؤساء أفارقة (الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الرئيس السابق لساحل العاج لوران غواغبو والعقيد الليبي معمّر القذافي)، الأمر الذي أدّى إلى انسحاب بعض الدول الإفريقيّة من النظام الأساسي للمحكمة احتجاجاً على هذا الانحياز الفاضح. ثم جاء كريم خان (المدّعي العام الحالي) إلى المنصب، حاملاً معهُ مساراً مهنياً لم يخلُ هو الآخر من شبهات عديدة باتت شائعة ومُذاعة.
يبقى هنالك أمل شفيف في محاكمة إسرائيل على جرائمها من خلال المحاكم الخاصة، التي أثبتت فاعلية كبيرة قياساً بجدوى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، بدءاً بسموّ قانونها بشكل تام على القانون الوطني للدول الأعضاء وغير الأعضاء؛ المادة (9) من نظام نورمبيرغ وصولاً  إلى المادة (6) من نفس النظام. ثم اكتسابها القوة في الشكل والمضمون، كونها مُنشأةٌ بناءً على قرار صادر من مجلس الأمن الدولي في ما يُعرف بسلطة الإحالة، أو تحريك هذه الإحالة باتّجاه الجنائيّة الدوليّة نفسها، لا سيما أنّ هذه السلطة أكدت عليها المحكمة الجنائيّة في نظامها الأساسي في المادة (13) التي تنص على الآتي:

إقرأ على موقع 180  "التركستاني" بين أوامر طالبان.. وهاكان فيدان!

“للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة (5) وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:

أ- إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة (14) حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.

ب- إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.

ج- إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادة (15)”.

لا ينبغي الاستكانة إلى ضمير العالم الحالي بكل تناقضاته الكثيرة ومعطياتهِ المؤسفة، بلّ يجب أن يبقى الرهانُ على نوعٍ من العقد الاجتماعي والأخلاقي والقانوني الجديد

لكن ثمة مآزق حقيقيّة في شروط هذه الإحالة، يمكن إيجازها اختصاراً على النحو التالي:
أولاً: أن يصدر قرار الإحالة الآنف ذكرهُ بأغلبية 9 أعضاء من مجلس الأمن، بينهم أصوات الدائمين متّفقة (روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة)، أيّ أنّ أحد الدائمين في المجلس، ليس بحاجة إلى استعماله المرخص لحق الفيتو من أجل إلغاء الإحالة، بلّ يكفي أن يسجل رفضه حتى تصبح لاغية.
ثانياً: أن ترتبط الإحالة بما هو منصوص عليه في الفصل السابع (المواد: من 39 إلى 51 من الميثاق).
ثالثاً: أن يثبت لدى مجلس الأمن أنّ الجرائم المرتكبة تدخل ضمن الجرائم المحدّدة في المادة (5) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدوليّة.
رابعاً: حقّ مجلس الأمن الدولي في توقيف التحقيقات أو إرجائها بعد قرار الإحالة لمدة عام قابلة للتجديد. بمعنى يمكن لجهازٍ سيادي أن يتدخل في عمل جهازٍ قضائيّ بمقتضى سندٍ قانوني منصوص عليه، الأمر الذي يردّنا إلى إعادة اكتشاف الفصل بين السلطات الذي نظّر له مونتسكيو في “روح القوانين”، منذ أكثر من قرنين.
رغم كل ما تقدّم ذكره، لا ينبغي الاستكانة إلى ضمير العالم الحالي بكل تناقضاته الكثيرة ومعطياتهِ المؤسفة، بلّ يجب أن يبقى الرهانُ على نوعٍ من العقد الاجتماعي والأخلاقي والقانوني الجديد، قد يتبلور في أيّ لحظة تاريخيّة متوقعة أو مفصلٍ مستقبليّ قادم، ما دام هنالك ضمير كونيّ سيستيقظ، أو مُمكنٌ أخلاقيّ قد يحدث.

(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة بعنوان: هل يمكن جر إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180   "تصدرنت" في العراق.. الزرفي أم تعويم عبد المهدي؟