ترامب يذهب أبعد من نتنياهو.. هل تُفرّط إيران بآخر أوراقها؟

ثلاثة أسابيع كانت كافية كي يُفجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كماً هائلاً من المفاجآت، التي أذهلت مؤيديه وخصومه على حد سواء. من الحرب على مؤسسات "الدولة العميقة" في الداخل، إلى الحروب التجارية واستخدام الإكراه الاقتصادي بديلاً من البوارج في السياسة الخارجية، وتدمير كل المقومات التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

لوى ترامب ذراع بناما وجعلها تنسحب من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. قبلها أرغم كولومبيا على استقبال أفواج المهاجرين غير الشرعيين المُرحّلين من الولايات المتحدة. أجبر المكسيك وكندا على إرسال تعزيزات إلى حدودهما المشتركة مع أميركا للحد من تهريب البشر والفنتانيل في مقابل تجميد مرسوم زيادة الرسوم الجمركية على البلدين لمدة شهر وإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية. بعد الصين، سيستهدف ترامب الاتحاد الأوروبي بزيادة مؤلمة في التعريفات الجمركية. ولن تنجو حتى اليابان من “اجتياح الرسوم الجمركية”!

يشنُ ترامب حملة تطهير في المؤسسات الفيدرالية، وفي مقدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” الذي يتهمه بالعمل ضده، وفكّك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ووجد آلاف الأشخاص في وكالات حكومية أخرى، أنفسهم بلا عمل بعد منحهم إجازات إجبارية بسبب الشك في ولائهم. كل القضاة الذين حاكموا مثيري الشغب الذين اقتحموا مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/يناير 2021، أحيلوا على التحقيق، بينما خرج المدانون من السجن بعفو رئاسي.

لا يني ترامب يُكرّر في كل مناسبة، أن الله أنقذه من رصاصة بنسلفانيا الصيف الماضي، كي يُنقذ هو بدوره أميركا ويجعلها “أمة عظيمة مرة أخرى”. وإلى ما يراه تدخلاً إلهياً أبقاه على قيد الحياة، يزعم ترامب أن الشعب الأميركي أيضاً منحه تفويضاً كاسحاً في “أعظم انتخابات في تاريخ أميركا” كي يمضي في مهمته، علماً أن نتائج الأصوات الشعبية تُظهر أنه فاز بفارق 1.5 في المئة فقط على المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس. ولعل العامل الأهم في فوز ترامب، كان استياء الأميركيين من السياسة الاقتصادية للرئيس السابق جو بايدن. وربما لو كان بايدن انسحب من السباق الرئاسي في وقت أبكر، وأتاح المجال لإجراء انتخابات تمهيدية داخل الحزب الديموقراطي، لاختلفت النتائج كُلياً.

رؤية ترامب هي بمثابة “سلام قرطاجي”، أي المبني على القوة وليس على الحق أو العدل. رؤية، سال لها لعاب نتنياهو الذي كان يقف إلى جوار ترامب في البيت الأبيض، لأنها تُترجم المكاسب العسكرية للحرب الإسرائيلية الدائرة منذ 16 شهراً، إلى واقع استراتيجي

لم يأخذ كثيرون ترامب على محمل الجد، عندما تحدث قبل أسبوعين عن نقل سكان غزة إلى مصر والأردن. حتى أقرن ذلك باقتراح تجاوز كل تصور، يقضي بأن “تستولي” أميركا على القطاع وتجعل منه “ريفييرا الشرق الأوسط” بعد ترحيل مليوني فلسطيني، من دون أن يستبعد إرسال قوات أميركية إلى هناك.

“الريفييرا” المقترحة وتحويل غزة إلى مشروع عقاري ونزع أي بعد سياسي حقوقي لسكانها، هذه كُلّها جزء من رؤية ترامب لإحلال السلام في المنطقة، وسيليها توسيع اتفاقات أبراهام، لتشمل السعودية، من دون دولة فلسطينية أو حتى إرساء مسار نحو قيام مثل هذه الدولة مستقبلاً.

ولتهدئة أصوات المنتقدين من مؤيدي ترامب نفسه، على احتمال تورط عسكري أميركي آخر في الخارج، سارع الرئيس الأميركي إلى الإيضاح بأن خطته للاستيلاء على غزة لا تشمل انتشاراً للقوات الأميركية، كما قال سابقاً، وبأن أميركا ستتسلم القطاع من إسرائيل، وبأن تمويل إعادة الإعمار سيتوفر من دول إقليمية.

ذهب ترامب أبعد بكثير مما يحلم نتنياهو وشركائه من اليمين المتطرف، إلى حد أن وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، الذي استقال من الحكومة بسبب قبول الحكومة بوقف النار في غزة، بات يرى أن عودته إلى الحكومة صارت قريبة.

ويعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أميركا، بانتصار سياسي وشخصي، ولن يكون ملزماً بعد اقتراح التهجير، بالانتقال التلقائي إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار، لأن ترامب خلط أوراق الصراع، ودفن “حل الدولتين” الذي كانت تؤيده إدارات أميركية سابقة، وينادي به الإتحاد الأوروبي وروسيا والصين والأمم المتحدة. وعلى الأرجح، سيعمد نتنياهو إلى تصعيد شروطه للقبول بالانتقال إلى المرحلة الثانية، على غرار أن توافق “حماس” على التخلي عن حكم غزة وانتقال قادتها إلى الخارج.

وفي الجولة التي يبدأها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في المنطقة الأسبوع المقبل، سيعمل على ترجمة عملية لأفكار ترامب، ملطفاً من بعض مضامينها المخيفة المتعلقة بتهجير دائم للفلسطينيين، والقول بدلاً من ذلك أن خروج السكان من غزة سيكون موقتاً ريثما يُعاد إعمارها. وللمفارقة أن الغزيين هم أحفاد الفلسطينيين الذين قيل لهم في العام 1948 بأن تهجيرهم من أراضيهم سيكون موقتاً.

وسيستخدم روبيو اقتراح ترامب وتردد نتنياهو في الانتقال إلى المرحلة الثانية من وقف النار، كأداتي ضغط على السعودية، كي توافق على التطبيع في مقابل وعد أميركي بإلزام نتنياهو بوقف النار، وليس في مقابل قيام دولة فلسطينية وفق ما تطالب الرياض، أو في مقابل اعادة ترامب النظر في تهجير الغزيين.

إقرأ على موقع 180  لن يختفي الساخرون العرب

رؤية ترامب هي بمثابة “سلام قرطاجي”، أي المبني على القوة وليس على الحق أو العدل. رؤية، سال لها لعاب نتنياهو الذي كان يقف إلى جوار ترامب في البيت الأبيض، لأنها تُترجم المكاسب العسكرية للحرب الإسرائيلية الدائرة منذ 16 شهراً، إلى واقع استراتيجي.

ومهّد ترامب الأرضية للضغط أكثر على الشعب الفلسطيني، فأوقف المساهمة الأميركية في وكالة “الأونروا”، وانسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، ولن تكون محكمة العدل الدولية بعيدة عن مرمى العقوبات الأميركية، في حال استمرت في النظر بدعوى جنوب أفريقيا التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة في القطاع.

غزة “الأميركية” والضفة “الإسرائيلية”، بما تعنيان من تصفية للقضية الفلسطينية، هو الجزء الأول من الرؤية الترامبية، بينما الجزء الثاني أو المُتمّم، يتعلق بإيران التي ستكون في هذه الحال تحت “الضغط الأقصى” الذي استرجعه الرئيس الأميركي في حضور نتنياهو، بهدف دفع طهران إلى طاولة المفاوضات حول برنامجها النووي.

لا بد أن القيادة الإيرانية تعي حجم الأخطار التي تواجهها في حال أقدمت على أي من الخيارين، وتضع دائماً في حسبانها كيفية الحفاظ على النظام في الأساس، وعدم الجنوح إلى خيارات انتحارية

وعلى غرار ما أخذ ترامب على عاتقه حل مسألة غزة، جعل أيضاً من مسألة منع إيران من الوصول إلى القنبلة النووية، مسألة تخص أميركا قبل إسرائيل. وهذا مغزى توقيعه على مرسوم رئاسي يمنع طهران من حيازة القنبلة النووية.

واستتبع ذلك بدعوة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى الحوار، لأنه يرى الفرصة سانحة أكثر من أي يوم مضى بعد عام من الخسائر الاستراتيجية التي مُنيت بها طهران، في ضوء تعرضها لضربتين إسرائيليتين مباشرتين وفقدانها سوريا، والحاق الضرر الكبير بمقدرات حليفيها الإقليميين: “حماس” و”حزب الله”.

هل تختار إيران المُتعبة إقتصادياً والمصابة بخسائر إقليمية، التنازل عن آخر ورقة رابحة في يدها، ألا وهي التطور الذي حقّقته على مستوى برنامجها النووي، ما يؤهلها لصنع رأسين نوويين، وفق خبراء غربيين؟

هذا ما يضع إيران أمام خيارين كلاهما مر: اجتياز العتبة النووية أو اجتياز الحاجز النفسي والجلوس مع “الشيطان الأكبر” وجهاً لوجه.

لا بد أن القيادة الإيرانية تعي حجم الأخطار التي تواجهها في حال أقدمت على أي من الخيارين، وتضع دائماً في حسبانها كيفية الحفاظ على النظام في الأساس، وعدم الجنوح إلى خيارات انتحارية.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مصر والحرب والقمح.. توازن دقيق لتأمين الدقيق