عندما خاطب سعد الحريري المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بمآلات التكليف وإستحالات التأليف، قرر أن يكون منسجماً مع نفسه. لم يلمس الرجل جدية دولية في تبني ترشيحه، حتى حماسة فرنسا نفسها ورئيسها إيمانويل ماكرون تبددت تدريجياً. كانت باريس تأمل في الأساس لو قُيضَ لتجربة مصطفى أديب أن تنجح وألا يرشح الحريري نفسه، فيقطع الطريق على الآخرين من زملائه سواء في نادي رؤساء الحكومات أم غيرهم من المرشحين الجالسين في الصفوف الثاني والثالث والعاشر!
وحدها مصر عبد الفتاح السيسي ظلت حتى اللحظة الأخيرة تقف إلى جانبه مرشحاً (ثم الآن غير مرشح). باقي المواقف العربية لا تقدم ولا تؤخر طالما أن السعودية لم تتزحزح قيد أنملة في موقفها الشخصي ـ السياسي الحاد من سعد الحريري وربما من كل آل الحريري!
وفق القراءة الحريرية، “ثمة فاصل زمني (بالمعنى السياسي) بين التكليف والإعتذار. تبدّلت الأولويات. تغيّر العالم.. والمنطقة توشك أن تتغير. ما بعد التفاوض النووي ليس كما قبله. هُزِمَ كل مشروع إقليمي كان يُراهن على سقوط إيران بفعل العقوبات. خرج المشروع الإيراني رابحاً. شئنا أم أبينا. علينا أن نعترف بالوقائع. هنا لا يفيد أبداً الخطاب الشعبوي. صمدت إيران وتمدّدت بفضل أذرعتها”. هذه القراءة الحريرية التي سمعها أعضاء المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في الثاني عشر من حزيران/يونيو الماضي كانت ناقصة.
ما لم يقله الحريري أن السعودية تتحمل المسؤولية الأكبر إقليمياً. إنكفاء عن كل الساحات: سوريا، لبنان، العراق، وفلسطين. حصروا أنفسهم في مملكتهم وصاروا يدافعون عن حدودهم. للمرة الأولى منذ تأسيسها تنتقل النار إلى أرض المملكة. للمرة الأولى منذ إتفاق كوينسي بين الملك عبد العزيز وفرانكلين روزفلت (1945) تهتز معادلة الأمن والنفط. للمرة الأولى تنتهي دولة الولاء مقابل الرعاية. كان بإمكان المملكة أن تربح اليمن بأقل من عشرة بالمائة من كل ما أنفقت على حربها العسكرية هناك طوال ست سنوات. الآن تريد المملكة خروجاً يحفظ لها ماء الوجه في اليمن. هذا هو ثمن الإنكفاء السعودي الكبير. المملكة إما تأخذ كل شيء أو لا شيء. القدرة على الصبر محدودة. قال رئيس الوفد السعودي للوفد الإيراني في الجولة الأولى من مباحثات بغداد “من أين لكم كل هذا الصبر الإستراتيجي”؟ وجاء الجواب الإيراني “من حياكة السجاد”!
كانت حسابات سعد الحريري قبل تسعة أشهر مختلفة. عندما بادر نجيب ميقاتي إلى تقديم ترشيحه تلفزيونياً عارضاً فكرة الحكومة التكنوسياسية (14 وزيراً من الإختصاصيين و6 وزراء من السياسيين)، سارع رئيس تيار المستقبل إلى قطع الطريق عليه. أبلغ الأخير نادي رؤساء الحكومات قراره بترشيح نفسه فباركوا له بالإجماع!
ميقاتي يرفض أن يكون عنواناً إنتقالياً كما حصل في العام 2005. لم يعد لاعب إحتياط يجلس في الصف الثاني وينتظر دوره في آخر الشوط. لم يعد عنوان مرحلة إنتقالية، كما يشتهي له البعض أن يكون. صار في صلب السياسة ونال النسبة الأعلى من الأصوات التفضيلية في طرابلس (2018)، ويستطيع أن يُشكل رافعة للحريري وليس العكس
هل كان ميقاتي سيواجه، حينذاك، ما واجهه الحريري؟
الموقف الدولي هو بالتعريف أولاً وأخيراً أميركي يدير حراكاً أوروبياً عاماً وفرنسياً خصوصاً. هذا الموقف لم يكن ليتبدل سواء أكان إسم المرشح سعد الحريري أم نجيب ميقاتي. الترشيح سيواجه الظروف الدولية نفسها.
عربياً ربما يكون الموقف السعودي أقل حدة. الرياض تتواصل مع ميقاتي من خلال سفارتها في بيروت، لكن هذه هي السنة الثانية على التوالي التي لا يؤدي فيها الرجل مناسك العمرة والحج. الحجة بالإتجاهين هي كورونا، لكن في السياسة لا تغيب عن بال القارىء القطب المخفية. علاقة ميقاتي بالمصريين ممتازة. التواصل مفتوح وهم حالياً الأقرب إلى خيار تكليفه ولكن على قاعدة الإستفادة من كل الثغرات التي شابت التكليفين الأول (مصطفى أديب) والثاني (سعد الحريري).
ماذا عن الموقف المحلي؟
السؤال موجه بالدرجة الأولى إلى قوتين محليتين: حزب الله حليف الضدين نبيه بري وجبران باسيل.. والتيار الوطني الحر حليف حزب الله وحده وخصم الجميع من دون إستثناء.
لا يتبنى حزب الله ترشيح ميقاتي لكن خياراً من هذا النوع يبدو الأكثر واقعية. يقترب الحزب بموقفه هذا من حليفه نبيه بري (بإستثناء قضية الصلاحيات الإستثنائية التي قد يطالب بها وستلقى رفضاً من “الثنائي”). لا يريد حزب الله تكرار تجربة حكومة ميقاتي 2011 أو حكومة حسان دياب 2020. ميقاتي بحيثيته المذهبية وتموضعه الحالي وعلاقاته الدولية والإقليمية يمكن أن يكون عنوان تقطيع هذه المرحلة اللبنانية.
هنا لا بد من فتح هلالين: ميقاتي يرفض أن يكون عنواناً إنتقالياً كما حصل في العام 2005. لم يعد لاعب إحتياط يجلس في الصف الثاني وينتظر دوره في آخر الشوط. لم يعد عنوان مرحلة إنتقالية، كما يشتهي له البعض أن يكون. صار في صلب السياسة ونال النسبة الأعلى من الأصوات التفضيلية في طرابلس (2018)، ويستطيع أن يُشكل رافعة للحريري وليس العكس في إنتخابات 2022.
القصد من هذا الإستدراك أن ميقاتي لن يكون رئيس حكومة لثمانية أشهر ونقطة على السطر. الحكومة الجديدة ـ إن تألفت ـ على عاتقها إجراء إنتخابات نيابية ووضع لبنان على سكة صندوق النقد. المهمة الثانية تتمتها خطوات إصلاحية تضمنتها “الورقة الفرنسية”، وهذه ستكون مهمة أول حكومة بعد الإنتخابات، وبالتالي، “من المستحب” أن تمضي الحكومة نفسها ـ برئيسها ومعظم وزرائها ـ بالمهمة الإصلاحية!
عودة إلى أصل التكليف: إذا كان حزب الله عنصر تسهيل أمام ميقاتي، ما هو موقف جبران باسيل؟
حتى الأمس القريب كان لسان حال رئيس التيار الوطني الحر أن ما لم يعطه لسعد الحريري لن يقدمه إلى ميقاتي. يحاول باسيل إقناع حليفه حزب الله بمرشح من صنف فيصل كرامي، ولكن هذا الإسم لا تتوفر له قاعدة أكثرية نيابية حتى الآن، من دون الخوض في مسألة الأرقام، وهذا الأمر يسري أيضاً على نواف سلام، ما يعني أن ميقاتي يستطيع أن يضمن أكثرية نيابية للتكليف (من ضمنها كتل نبيه بري وحزب الله ووليد جنبلاط وطلال إرسلان والطاشناق وكتلة ميقاتي نفسه وسليمان فرنجية، بالإضافة إلى الحريري الذي سيكون مضطرا في هذه الحالة إلى الإنتقال من مربع عدم التسمية إلى تسمية زميله في نادي رؤساء الحكومات). حزب الله له إعتباراته في عدم التسمية.. أما القوات اللبنانية فلن تبارح “المربع السعودي”.. ويبقى باسيل يُغرد خارج السرب!
برغم كل ما رافق تكليف الحريري، كان الإستعصاء الداخلي هو الأساس في عدم التأليف. العناصر الخارجية كانت على ضفاف الداخل، سلباً أم إيجاباً. هذا يقود إلى سؤال القدرة على تبديد الإستعصاء الداخلي، ولا يبدو أنها متوفرة حتى الآن، ما يشي بأن معادلة المرحلة المقبلة ستكون كالآتي: “التأليف قبل التكليف”
ماذا يضمن في هذه الحالة ألا يواجه ميقاتي العقبات إياها التي واجهت الحريري؟
لا شيء يضمن حتى الآن، وهذا هو سر تردد الرجل وعدم قبوله علناً بالتكليف، لا سيما وأنه لم يعد قادراً على التنازل مليمتراً واحداً عن سقف الحريري، سواء في ما يخص إعادة تثبيت الحقائب السيادية (رفض المداورة)، عدم منح الثلث المعطل لباسيل، تثبيت حق الرئيس المكلف بتسمية وزراء مسيحيين، عدم تثبيت حق رئيس الجمهورية بتسمية ثلث الوزراء من دون ضمانة منح الثقة للحكومة من التكتل الذي كان رئيسه.
هذه العناوين وحدها وما يمكن أن يستجد غيرها تكفي للقول إن ميقاتي يتهيب المهمة ويريد ضمانات قبل إعطاء أية إشارة إيجابية: ضمانة دولية (أميركية ـ فرنسية) بتأييد التكليف ودعم التأليف وصولاً إلى تسريع وتيرة التفاوض مع صندوق النقد (ثمة إشارة إيجابية بهذا الإتجاه). الضمانة السعودية التي يشتهيها ميقاتي غير متوفرة ولن تتوفر على الأرجح. يبقى سؤال ضمانة حزب الله وقدرته على الضغط على حليفه جبران باسيل؟
في اللقاء الذي عُقد بين الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل ورئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” محمد رعد، كان الأخير واضحاً في رده على ضيفه الفرنسي: نريد لسعد الحريري أن يؤلف حكومة وينجح في مهمته ولكن نحن متمسكون بتحالفنا مع جبران باسيل.
هذه المعادلة ما تزال قائمة. لن يتخلى حزب الله عن حليفه. لن يجد وسيلة ضغط مختلفة عن تلك التي إعتمدها طوال أحد عشر شهراً. هل يُقدِم ميقاتي في هذه الحالة على مهمة من هذا النوع في السنة الأخيرة من العهد الحالي؟
كل وسائل الضغط على جبران باسيل إستنفذت. عندما هدّده الموفد الفرنسي باتريك دوريل مؤخراً بالعقوبات الأوروبية إذا لم يُسهل مهمة سعد الحريري، ردّ رئيس التيار الوطني الحر متوسلاً ضيفه الفرنسي أن يفرضها الأوروبيون عليه. قال باسيل “إذا كانت عقوباتكم سياسية فهذا أمر أفتخر به وأريدكم أن تخدموني به.. أما إذا كانت قانونية، فأريد أدلتكم ولا أعتقد أنها موجودة”!
من بعد “الجائزة الكبرى” (العقوبات الأميركية)، لا قوة قادرة على تعديل حرف من حروف جبران باسيل. لا التدخل الدولي ولا الفرنسي يمكن أن يذلّل أي عقدة من العقد التي إعترضت طريق الحريري وستعترض ميقاتي، من دون إستبعاد بروز عقد جديدة من نوع رفض باسيل التنازل عن وزارة الداخلية تحت طائلة تطيير تكليف ميقاتي وفيصل كرامي معاً!
والمقصود بوزارة الداخلية ليس حقيبة سيادية. المسألة تتصل بإدارة الإنتخابات النيابية المقبلة، وهذا الأمر يطرح أيضاً أسئلة من نوع هل سيكون ميقاتي مرشحاً للنيابة في حكومة الإنتخابات أم يعزف عن الترشيح وعندها من سيكون مرشحه (لائحة) ومع من يتحالف في دائرة طرابلس ـ المنية ـ الضنية وماذا إذا أحرجه الحريري بإصراره أن يتحالفا معاً وهل يمكن أن يستفيد من هكذا لحظة للإنسحاب نهائياً من الملعب النيابي ولمصلحة من وما هو الهدف؟
برغم كل ما رافق تكليف الحريري، كان الإستعصاء الداخلي هو الأساس في عدم التأليف. العناصر الخارجية كانت على ضفاف الداخل، سلباً أم إيجاباً. هذا يقود إلى سؤال القدرة على تبديد الإستعصاء الداخلي، ولا يبدو أنها متوفرة حتى الآن، ما يشي بأن معادلة المرحلة المقبلة ستكون كالآتي: “التأليف قبل التكليف”، فهل الوقت الفاصل عن موعد الإثنين (الإستشارات النيابية الملزمة) كافٍ لتأليف الحكومة أم يُصار إلى تأجيل موعد الإستشارات وهل سنشهد سباقاً بين مشهديتي التأليف وسنوية الرابع من آب/أغسطس، بكل ما ستستدعي من مفاجآت ونكء جراح وتحريك مواجع وإستعادة ذكريات وآلام.. للبحث صلة.