المبالغات التي سمعناها حول فلسطين مؤخراً فيها الكثير مما يجعل المستمعين المتلقين للخطاب السائد غير مقتنعين بالإستنتاجات الرائجة. ذلك بدوره سوف يسيء للعلاقات بين الناس الذين يعتبرون قضية فلسطين ذات أهمية أولى في حياتهم، ومنهم كاتب هذا المقال. الإساءة بدورها تؤدي لإنقسامات سياسية وفكرية لا تحتاجها قضية فلسطين؛ بالأحرى تحتاج إلى غيرها.
فكرة الإنتصار التي تنعجق بها وسائل الإعلام حول ما جرى في فلسطين مؤخراً تتناقض مع كمية الخراب والدمار وكثرة القتلى والجرحى في فلسطين. الحرب شنّتها إسرائيل، ومهما كان السبب، إلا أن الإجرام الإسرائيلي واضح. يصح أن نطلق عليه تعبير حرب إبادة أو محاولة تطهير عرقي. حرب تشنها إسرائيل كل بضع سنوات كي تصل إلى هدفها. ربما لم تصل إسرائيل إلى الهدف هذه المرة، وربما لم ترد الوصول الى هدف معلن لهذه الحرب. لكن ما نعرفه بالتأكيد أن إسرائيل تتبع سياسة القضم أو الحصول على كامل فلسطين (وما يجاورها؟) بالتدريج. ولا ندري إذا كان وقف إطلاق النار هذا لصالح إسرائيل أو لصالح الفلسطينيين. لكن سياسة القضم والتدرج تقضي بأن يكون لكل حرب محدودة تشنها إسرائيل وقف إطلاق نار.
لا بدّ أن يظهر الفلسطينيون معنويات عالية. ولا بدّ أن يفرحوا بوقف الحرب. لكن أن نسمي ذلك نصراً لهم ولنا، أو انتصاراً، ففي ذلك مبالغة. كيف يكون انتصاراً لنا ونحن الذين نشتكي، ونحن الذين نستجدي إعادة اعمار وتكاليف ذلك؟ لا يمكن للمرء أن يفرح بالنصر، إلا إذا كان النصر إفتعالا يفترض واقعاً غير ما يبدو على أرض الواقع. المفتعل هو انعدام الواقعية في النظر الى الأمر. وإذا كان ذلك مفتعلاً فإنه يشير الى أن ما وراءه شيئاً غير واقعي في السياسة؛ أو أن هناك سياسة غير واقعية لدى الطرف العربي ومن يدعمه.
الأمر ليس في أن تقاوم أو لا تقاوم، بل أن نقاوم. وهذا واجب، والمسألة حينذاك تكون كيف نقاوم. نقاوم بالتقدم والحداثة والعمل والإنتاج في مجتمعات تقدس الحرية وتترك المقدسات التقليدية لأصحابها. مجتمعات قادرة على العمل والإنتاج والتماسك. ولا تنخرها أنظمة الاستخبارات الاستبدادية أو أجهزة القمع الدينية
الخراب كبير. ويعيد فلسطين العربية سنوات الى الوراء. يبعدهم عن هدف التحرير والتحرر. الكلام عن الإعمار ضروري. لكن إذا فكّر المرء في كيفية الإعمار، إذا حصل، وفي القوى التي ستتولى الإعمار، وهي حتى الآن كما يبدو قوى غربية داعمة تقليدياً لإسرائيل، فإن ذلك سيضع فلسطين، أو ما بقي منها للعرب، تحت وصاية إضافية. ليست وصاية أخرى غير إسرائيل، بل وصاية زائدة على وصاية إسرائيل؛ وصاية أخرى تضمن لإسرائيل حماية لتنفيذ سياسة القضم لديها. هذا الكلام عكس تمنياتنا. هو عكس عواطفنا التي تميل للفلسطينيين قلباً وقالباً، بحيث نتمنى أن يكون الهدف دائماً تحرير فلسطين بالكامل من الإحتلال الإسرائيلي. وإسرائيل تحتل كامل فلسطين، من القدس الى تل أبيب الى غزة. بالمناسبة، مسألة إخلاءات الشيخ جرّاح يحكم فيها القضاء الإسرائيلي، أي السياسة الإسرائيلية.
يعتمد هذا التحليل على ميزان القوى. هو في غير صالح العرب أو الفلسطينيين. الأنظمة العربية تحدثت وما تزال عن “حل سياسي”، أي أنها لا تريد أن تتوّرط في عمل عسكري. القوة العسكرية لدى الفلسطينيين لا شيء تقريباً بالمقارنة مع إسرائيل. هناك صواريخ لدى الفلسطينيين في غزة. وهي قد تصيب أو لا تصيب. وهي مما يمكن أن ينضب. لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تمنع الأذى في غزة، وعموم فلسطين. الأذى كبير. هو خراب مدمر. ما حدث من أذى لإسرائيل لا يتعدى الخدوش. الدول الإسلامية المعنية أو المجاورة للمنطقة العربية مشغولة بقضاياها. لا مانع لديها أن تقام مهرجانات النصر بعد وقف إطلاق النار. مهرجانات تؤيد مهرجانات. كلامولوجيا تعمّق الأوهام.
على كل حال، إن نسبة قوة غزة الى إسرائيل أقل بكثير من نسبة قوة إيران الى أميركا. وإيران تفاوض بينما المطلوب من غزة أن تقاوم بصواريخ إيرانية.
الأمر ليس في أن تقاوم أو لا تقاوم، بل أن نقاوم. وهذا واجب، والمسألة حينذاك تكون كيف نقاوم. نقاوم بالتقدم والحداثة والعمل والإنتاج في مجتمعات تقدس الحرية وتترك المقدسات التقليدية لأصحابها. مجتمعات قادرة على العمل والإنتاج والتماسك. ولا تنخرها أنظمة الاستخبارات الاستبدادية أو أجهزة القمع الدينية. مجتمعات قادرة على الإنتاج وتبادل ما لا تنتجه لتحقيق أمنها الاقتصادي.
يجانب الحقيقة من يعتقد أن إسرائيل مجتمع هش قائم على الأمن وحده. هي دولة مصطنعة وكل الدول مصطنعة. كل الدول صنعها الإنسان. هناك دول صنعها الإنسان من أجل نفسه، وأخرى من أجل غيره. دول الاستبداد السياسي والديني غايتها غير الإنسان؛ وطغاة يحكمون باسم الله أو باسم الذات الإلهية الكامنة في ذاتهم كما يزعمون. الدولة الديموقراطية تستطيع تعبئة كل شعبها. الدول الاستبدادية لا تستطيع تعبئة إلا جزء ضئيل من مجتمعها بما يشمل الأجهزة الاستخباراتية والدينية وملحقاتها. لا يتعلق الأمر بحجم الدول، بل بحجم القوى التي تستطيع تجنيدها وتعبئتها. دول الاستبداد تلغي شعبها وتقمع مجتمعها إلا في حالة الفاشية والنازية السياسية أو الدينية. والشعوب العربية التي ثارت في 2011 حاربتها الثورة المضادة وأعادتها الى سجنها الكبير. معروفة هي القوى الدولية والإقليمية والعربية التي ساهمت في الثورة المضادة. جميعنا كشعوب عانينا من الإلغاء في ظروف مختلفة.
ننتصر على إسرائيل عندما ننتصر على أنفسنا، ونزيل منها التخلف والسلفية. مقاومتنا لأنفسنا. الخروج من ماضينا. صنع مستقبلنا. إقامة دول تستوعب شعوبها. إسقاط أنظمة تلغي شعوبها؛ كل ذلك مقاومة حقيقية ضد العدو الإسرائيلي. عند ذلك لن يكون سقوط إسرائيل مجرد احتمال، بل سيكون أمراً مؤكداً
المبالغات في الحديث عن النصر وتجاهل مآسي الناس يؤديان الى انقسام بين الناس، والى تفاقم الانقسامات، والى الحروب الأهلية. في هذه الانقسامات والحروب تتوحد أنظمة القمع ضد الناس وثوراتهم. أنظمة القمع الفاشية والنازية والسوفياتية كانت مستقلة لكن الأفراد فيها كانوا أحراراً، يمارسون حريتهم الداخلية برغم ذل الخضوع لما هو خارج الضمير الفردي والأخلاق الفردية، مما اضطر الناس الى التظاهر بغير ما هم عليه، وبغير ما كانوا يضمرونه. ديكتاتوريات القومية العربية استفادت من تلك الأنظمة.
لدى إسرائيل جيش قوي هزم الجيوش العربية مجتمعة في عام 1948، وما زالت تهزمهم. هذه الأنظمة العربية نفسها هي التي هزمت شعوبها بالاستبداد وبالأمن. تستند الدولة في إسرائيل على مجتمع متماسك؛ لو هاجر نصفه لأسباب أمنية لبقي النصف الآخر ليهزمنا، ونحن في الأصل مهزومون. الداخل فينا مهزوم. نفوسنا وأرواحنا مهزومة. الخضوع لأنظمة الذل هزيمة. أنظمتنا تسير بنا الى مزيد من الإخضاع والإفقار. ننتصر على إسرائيل عندما ننتصر على أنفسنا، ونزيل منها التخلف والسلفية. مقاومتنا لأنفسنا. الخروج من ماضينا. صنع مستقبلنا. إقامة دول تستوعب شعوبها. إسقاط أنظمة تلغي شعوبها؛ كل ذلك مقاومة حقيقية ضد العدو الإسرائيلي. عند ذلك لن يكون سقوط إسرائيل مجرد احتمال، بل سيكون أمراً مؤكداً لأنه حينها فقط تنقلب موازين القوى.
انتصارنا على اسرائيل لا يعتمد على استبدال نظام بنظام، ما دامت أنظمة القمع موجودة وفاعلة في إلغاء شعوبنا ومجتمعاتنا ودولنا الحقيقية. فنحن مهزومون وإسرائيل منتصرة. ليست إسرائيل هي التي تنتصر؛ نحن الذين ننهزم: أمام أنفسنا أولاً، وأمام العالم بما فيه إسرائيل، ثانياً. الهزيمة تعشعش في روحنا، في ذاتنا. نحن مهزومون أمام التاريخ لأننا نسكن في الماضي. نخرج من هزيمتنا الذاتية، وعندها إسرائيل لا شيء، أوهى شيء. هذا التعبير الأخير استخدمه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني”.
كلامولوجيا الانتصار أو النصر يخفي عنا واقعنا؛ يخفي عنا الجرائم التي نرتكبها بحق أنفسنا. في زمن حلت الحقيقة الافتراضية مكان الحقيقة الواقعية. تحل الأوهام مكان إدراك الوقائع. نستبدل الواقع بحقائق وهمية أو ما يُسمى حقائق بديلة. هذا جوهر النيوليبرالية المعاصرة.
حروب التحرير الشعبية قامت على ما يسمى “حرب الغوريلا” أي أن لا يكون أمام العدو هدف ثابت. في فلسطين شعبها هدف ثابت أمام اسرائيل. هذا ما يجعل التحرير أمراً مستحيلاً دون حرب دول. متى نستطيع إقامة دول، لا مجرد أنظمة، تستوعب مجتمعاتها وتقدر على أن تخوض حرباً حقيقية؟ عندها نخرج من كلامولوجيا النصر الى حقيقة النصر.
سؤال أخير. هل كلامولوجيا النصر مظهر من مظاهر لغتنا الحبيبة؟ أدرس كتب اللغة والنحو والصرف علني أفهم. والأمر على سبيل دفع السأم. لا كما قال زهير ابن أبي سلمى:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم.
أما سئمنا من تجارب تكرّر نفسها منذ أحمد الشقيري؟