أولى حكومات اللواء فؤاد شهاب، تشكلت في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1958، واستمرت حتى الرابع عشر من تشرين الأول/ اكتوبر من السنة نفسها، أي أن عمرها لم يستغرق ثلاثة أسابيع، ترأسها رشيد كرامي وضمت سبعة وزراء هم: شارل حلو، فيليب تقلا، محمد صفي الدين، فؤاد نجار، فريد طراد، يوسف السودا، رفيق نجا. لم تمثل هذه الحكومة أمام المجلس النيابي لنيل الثقة ولم تصغ بياناً وزارياً، جراء “الثورة المضادة“ التي قادها حزب “الكتائب اللبنانية“، حيث رأى فيها انزياحاً نحو “المقاومة الشعبية”، وغذّى هذا الأمر كما قيل آنذاك، تصريح لرشيد كرامي قال فيه “جئنا لنقطف ثمار الثورة”.
تلك الحكومة قيل إنها محذوفة من دورة الحقبة الشهابية، فهي لم تحكم ولم تقلع عجلاتها، وعلى هذه الحال تشكلت حكومة ثانية، معروفة بـ”حكومة الأربعة”، ترأسها رشيد كرامي أيضاً وتوزر فيها ثلاثة لا غير، هم: ريمون إده، بيار الجميل وحسين العويني، واستمرت من 14 تشرين الأول/ اكتوبر 1958 إلى 14 أيار/ مايو 1960، غير أن مسار هذه الحكومة الذي دام سنة ونصف السنة تقريبا، شهد استقالات وتعديلات، فريمون إده إستقال قبل أسبوع واحد من بلوغ عمر الحكومة سنة كاملة، وأعيد النظر بتوزيع الوزارات، فجرى إدخال فيليب تقلا وموريس زوين وفؤاد نجار وعلي بزي وفؤاد بطرس للوزارة في ضوء التعديل الحكومي.
جا في البيان الوزاري لـ“حكومة الأربعة”:
“نجتمع في ظروف استثنائية عصيبة، فالمحنة الدامية التي عشناها جميعاً، جعلت كل اللبنانيين يشعرون بالحاجة إلى إيجاد مخرج عاجل للأزمة، ولسنا بحاجة للعودة إلى الماضي، فقد عقدنا العزم على غسل هذا الماضي”.
من خلال ما جاء في البيان الوزاري، وبالتمعن في طريقة تشكيل الحكومة والإنتماء الطائفي لأعضائها، يمكن إجراء مقارنة بين طرق التفكير السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وبين طرق التفكير الحالية، بغية الوصول إلى خلاصة تشبه السؤال: هل يمكن تشكيل حكومة في هذا الزمن تماثل أو تستنسخ حكومة ذلك الزمن؟
الإجابة الأولى على سؤال المقارنة، تنطلق مما جاء في البيان الوزاري “عقدنا العزم على غسل هذا الماضي“ وهو ما جرى بالفعل بعد وصول فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية وتشكيل “حكومة الأربعة“ إذ كانت مهمة هذه الحكومة وبالشراكة مع القوى السياسية غير المشاركة فيها، تصفية آثار أحداث 1958 التي عصفت باللبنانيين وفرذقتهم بين “محاور طائفية“ و”محاور إقليمية ودولية”، وحينذاك أطلق الزعيم الوطني صائب سلام شعاره المعروف والمحفوظ حتى الآن “لا غالب ولا مغلوب”.
الذهاب إلى حكومة أقطاب وطنية اقتضى مراجعة وإعادة نظر من قبل القوى السياسية لمجمل سلوكها وخطابها اللذين دفعا إلى انفجار الأوضاع في نهاية ولاية الرئيس كميل شمعون، وهذا أمر لا يمكن ملاحظته في المرحلة الحالية
وبطبيعة الحال، عنى “العزم على غسل الماضي“ الإقلاع عن سياسة السموم وخطابات نبش القبور، فالذهاب إلى حكومة أقطاب وطنية اقتضى مراجعة وإعادة نظر من قبل القوى السياسية لمجمل سلوكها وخطابها اللذين دفعا إلى انفجار الأوضاع في نهاية ولاية الرئيس كميل شمعون، وهذا أمر لا يمكن ملاحظته في المرحلة الحالية، إذ أن التجييش السياسي والطائفي، بات في صلب الممارسة السياسية وجوهر الخطاب المُعلن، وهو خطاب يعبر بسفور وإجهار عما هو مُستبطن ومُضمر.
إذاً.. من أين يمكن الإتيان بسياسيين يعقدون العزم على غسل الماضي، ويكبحون سياسة نبش القبور، ويكفون عن استراتيجية إستحضار عظام الموتى والراحلين وإعتبارها أوتارا ينبغي العزف الدائم على ألحانها؟
وكيف يمكن إنتاج خطاب سياسي بديل ينقلب على التجييش والتحريض والتصنيف، في وقت أن غالبية القوى السياسية تعتبر أن التخلي عن مثل ذاك الخطاب، يفقدها ديمومتها أو يهدّد استمرارها أو يقلص من حجم جمهورها وجماهيرها؟
من الواضح أن مثل هذه الأسئلة والتساؤلات لا تصب في صالح الدعوة إلى حكومة أقطاب، ولكن قبل الإنعطاف إلى الإجابة الثانية، من المناسب إيراد أهداف “حكومة الأربعة“ وما أعقبها من إستقرار وازدهار لم تعرفهما دول الشرق الأوسط كله، وهذه الأهداف يحدّدها باسم الجسر، أحد أهم الذين كتبوا عن فؤاد شهاب، بالتالي:
“لقد كان دور حكومة الأربعة خلال الأشهر التسعة الأولى، تصفية رواسب الثورة وإزالة آثارها وإطفاء الحرائق الصغيرة التي كانت تندلع من حين إلى آخر، وبعد أن أنجزت حكومة الأربعة أهم ما جاءت من أجله، أي إعادة الحياة الوطنية إلى مجاريها الطبيعية، كان لا بد من إعادة الحياة السياسية أيضاً إلى مجاريها الطبيعية، وإجراء الإصلاحات السياسية والإدارية والإجتماعية، فعُدلت الحكومة الرباعية ودخل إلى الحكومة الجديدة شخصيات مستقلة، وكان دخول شخصيات مثل فؤاد بطرس وفيليب تقلا وفؤاد نجار وعلي بزي مؤشراً بليغاً إلى نوعية السياسيين والوجوه البارزة في مجال إختصاصها، مشهورة بالعلم والنزاهة والبُعد عن السياسة والإنتخابات والغوغائية”.
من كلام باسم الجسر، إلى الإجابة الثانية، وفيها:
إن مهمة “حكومة الأربعة“ تمثلت بصورة أولية، بالعمل على إعادة الحياة الوطنية، وبما يعني وحدة اللبنانيين، وبإعادة الحياة السياسية، وبما يعني إعادة الإعتبار إلى السياسة، وفي حال المقارنة بين ما ابتغته الحكومة الشهابية وبين الواقع السياسي الراهن، يخلص القول إلى استحالة استيلاد حكومة شبيهة بـ“حكومة الأربعة”، لأسباب يقف على رأسها افتقاد غالبية أهل السياسة الحاليين لخطاب وطني جامع يهدف إلى استعادة الحياة الوطنية، فالطائفية لا تستقيم مع الوطنية، وحين يجهر السياسيون بتقديم الخطاب والإنتماء الطائفيين على الخطاب والإنتماء الوطنيين، فخلاصة الحكم تستقر حينذاك، على قناعة الحفاظ على خطوط تماس الولاءات الفرعية وتوترها، وعلى ذلك: كيف يمكن إعادة الحياة الوطنية إلى مجاريها الطبيعية؟
السؤال الخطير يرتبط برغبة وجدية أهل السياسة في إحياء الدولة، والمعادلة في هذا الأمر تفضي إلى نتيجة مفادها: أن تقوية الدولة تعني إضعاف أهل النفوذ والسطوة، فما هي مصلحة غالبية أهل النفوذ في قيامة الدولة أو بعثها من جديد؟
ما يقال بالحياة الوطنية يقال أيضاً بالحياة السياسية، وهنا ينصرف النقاش إلى الإجابة الثالثة، ففي لبنان منذ سنوات قد تصل إلى عقد ونصف العقد، تم إغتيال السياسة، فالأخيرة فن وعلم في إدارة المجال العام وتنظيمه بغرض إسعاد الناس، كما إتفق أهل الفلسفة من أفلاطون إلى أرسطو إلى الفارابي إلى جان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهم، حين تحدثوا عن غاية الحُكم إسعاد المحكومين، وبناء عليه، من أين يمكن “إستيراد“ مناقب ومحاسن لإسقاطها على معظم أهل السياسة المحليين الذين أتعسوا الناس بدل إسعادهم؟ وأين يمكن العثور على “طبقة أقطاب“ تعمل على إدارة المجال العام وتنظيمه وهي التي عملت على تخريبه؟
يبقى ما يقال في الحياة السياسية إنها تهدف إلى إحياء الدولة وقيامها وإحترامها، فمهمة “حكومة الأربعة“ تمثلت بإنتشال الدولة من تعثرها واحتمالات سقوطها بين فوهات المتحاربين عام 1958، وأفلحت إلى حد كبير، ولكن بالقياس مع الواقع الراهن، فإن السؤال الخطير يرتبط برغبة وجدية أهل السياسة في إحياء الدولة، والمعادلة في هذا الأمر تفضي إلى نتيجة مفادها: أن تقوية الدولة تعني إضعاف أهل النفوذ والسطوة، فما هي مصلحة غالبية أهل النفوذ في قيامة الدولة أو بعثها من جديد؟
صحيح، أن أهل السياسة، يتحدثون في “لحظة تخلي“ العصبيات، عن ضرورة العبور إلى الدولة، إلا أنهم بدعوتهم تلك أقرب إلى معاني ودلالات ما أورده المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1753 ـ 1825) في “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، إذ يقول:
كمن يحدو وليس له بعير/ ومن يرعى وليس له سوام
ومن يسقي وقهوته سراب/ ومن يدعو وليس له طعام.
فعلاً هي عجائب أخبار أعيان السياسة في لبنان.
الإجابة الرابعة محصورة بتشكيلة “حكومة الأربعة”، والتي إقتصرت على ثلاثة وزراء ورابعهم رئيسهم، والتحديق و“التبحلق” في الإنتماء الطائفي لأعضاء الحكومة، يُظهران التالي: رئيس الحكومة رشيد كرامي سني، الوزير حسين العويني سني، الوزيران ريمون إده وبيار الجميل مارونيان.
أين الميثاقية في لغة اليوم؟
أين الشيعة والكاثوليك والأرثوذكس والدروز والأرمن والأقليات؟ وأين أسماء ساطعة مثل كمال جنبلاط وأحمد الأسعد ومجيد إرسلان وصبري حمادة وصائب سلام وعادل عسيران وغيرهم ممن لا يقل شأناً وحظوة؟
في حسابات السياسة “الخوارزمية“ الحالية، أن الفقرة “ي“ من الدستور، والتي تنص على أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، يصار إلى تفسيرها حصرياً بالمشاركة الفاعلة والوازنة والثقيلة في أية تشكيلة حكومية، وما دون ذلك تحطيم الهيكل وهدمه.
الطوائف التي لم تتمثل في “حكومة الأربعة“ الشهابية لم تلجأ إلى رفع بيارق الدفاع عن “كراماتها“ ولا أعلنت النفير لإسترداد حقوقها ولا قرعت الطبول للذود عن وجودها، وكل هذا لا ينطبق على أكثر أهل السياسة راهناً
ومع أن المادة 95 من الدستور اللبناني قبل تعديلات عام 1990 تنطق وتقول “بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة”، إلا أن الطوائف التي لم تتمثل في “حكومة الأربعة“ الشهابية لم تلجأ إلى رفع بيارق الدفاع عن “كراماتها“ ولا أعلنت النفير لإسترداد حقوقها ولا قرعت الطبول للذود عن وجودها، وكل هذا لا ينطبق على أكثر أهل السياسة راهناً، حيث ثقل الوزارات “يعادل“ كرامات الطوائف، وحيث الحصة الوزارية تساوي قوة هذا الحزب أو ذاك، وحيث الهيمنة على الحكومة توازي الغنيمة وتتوازن مع النصر المبين.
حين يكون التفكير السياسي على هذا النحو ومن هذا النوع، من أي كون أو مجرة يمكن أن يهبط سياسيون إلى لبنان ليتشاركوا في حكومة تستعيد التجربة الشهابية، فيشكلون حكومة إنقاذ ويعملون في سبيل الخلاص الوطني؟
قبل الختام: تذكير بما قاله باسم الجسر عن التشكيلة الحكومية التي أعقبت “حكومة الأربعة”، وضمت شخصيات إصلاحية مشهود لها بالعلم والنزاهة والإبتعاد عن الغوغائية.
في الختام، قصتان:
قصة أولى يرويها الراحل سليم اللوزي في عدد مجلة “الحوادث“ الصادر في الرابع من أيار/ مايو 1973، عن فؤاد شهاب حين كان قائداً للجيش اللبناني:
“كان لفؤاد شهاب خالة يحبها جداً، لديها جارة عجوز يخدم إبنها على الحدود، وقد توسطتها غير مرة، لتوصي إبن أخيها قائد الجيش بإبنها الذي يعيش في برد مرتفعات الجنوب، ويعمل على نقله إلى الداخل، ولما زار شهاب خالته ذات يوم، وحدّثته بأمر إبن جارتها، قال بهدوء: يا خالتي إذا نقلت هذا الجندي من الحدود، سوف أرسل مكانه جندياً آخر، فما ذنب هذا الجندي الآخر؟ هل ذنبه أن والدته لا تعرف خالتي”؟
القصة الثانية عن رشيد كرامي يرويها حكمة أبو زيد في كتابه “رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم”. يقول أبو زيد:
“طلبني الرئيس كميل شمعون إلى مكتبه في الأشرفية، وكان وزيراً للمالية، وقال لي لا أريد مراجعة الأفندي ـ رشيد كرامي ـ بشأن هذا المرسوم، فحملته إلى الأمين العام لمجلس الوزراء شفيق منيمنه، ولما قال لي إنه قانوني ووافق عليه مجلس الخدمة المدنية، عرضته على الرئيس كرامي، وقلت له إن الشخص المطلوب تعيينه محسوب على حزب الوطنيين الأحرار، فقال رشيد كرامي: هذا لبناني وصاحب حق، ووقع المرسوم”.
رحم الله فؤاد شهاب.. رحم الله رشيد كرامي.