يبدو أن باريس، التي شيّع البعض أنها “جمّدت تحركها الديبلوماسي في الملف اللبناني نتيجة فشل المبادرة السياسية التي أطلقها رئيسها إيمانويل ماكرون من بيروت”، أرادت عبر خطوتين جديدتين متلازمتين إظهار إستمرار “إهتمامها” من جهة، ومدى “جديتها” في التعاطي مع الملف اللبناني من جهة أخرى.
الخطوة الأولى تمثلت بتنظيمها المؤتمر الدولي لدعم الجيش اللبناني الذي أفضى إلى تأمين إعتمادات طارئة للمؤسسة العسكرية اللبنانية دعماً لإحتياجاتها العاجلة خلال ما تبقى من العام 2021، أما الخطوة الثانية والملفتة للإنتباه فقد تمثلت بإصدار تعميم يتصل بالتحقيق في ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا.
وتوقفت أوساط متابعة لملف العلاقات الفرنسية – اللبنانية عن قرب عند اهمية “تلازم” المبادرتين و”رمزية” تناولهما مؤسستين أساسيتين في النظام اللبناني. الأولى، المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجيش اللبناني والثانية المؤسسة النقدية المتمثلة بالمصرف المركزي اللبناني.
ورأت الأوساط إياها أن الرسالتين اللتين أرادت باريس إيصالهما تندرجان في إطار سلسلة الرسائل التي حملها معه الى بيروت وزير الخارجية الفرنسي جان-ايف لودريان، ذلك أن باريس تمارس سياسة الثواب والعقاب على طريقتها “من دون طبل وزمر” وتعتمد في خطواتها وقراراتها “الجدية والمهنية بعيداً عن التشهير وحرصاً منها على الفاعلية”.
كلمة السر التي تتمسك بها فرنسا وشريكاتها الاوروبية والغربية تختصر بـ”سبعة أحرف ذهبية.. إستقرار”. إستقرار أمني ومجتمعي مرتبط بدور الجيش “كركن أساسي في الدولة” وإستقرار مالي – نقدي مرتبط بدور مصرف لبنان المركزي
برسم المؤسسة العسكرية
آخر رسالتين وجهتهما فرنسا كانتا إلى مؤسستين لهما دور هام ومفصلي في مجريات الأمور الاساسية في هذا الظرف بالذات وهما المؤسسة العسكرية والمؤسسة النقدية. كلمة السر التي تتمسك بها فرنسا وشريكاتها الأوروبية والغربية تختصر بـ”سبعة أحرف ذهبية.. إستقرار”. إستقرار أمني ومجتمعي مرتبط بدور الجيش “كركن أساسي في الدولة” وإستقرار مالي – نقدي مرتبط بدور مصرف لبنان المركزي.
طلائع الرسالة الأولى ترافقت مع الزيارة الرسمية التي قام بها الى باريس قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون والحفاوة الخاصة في وزارة الدفاع والإستقبال الإستثنائي في قصر الاليزيه. وهي حملت وعوداً ترجمت بتنظيم باريس يوم أمس (الخميس) في 17 يونيو/حزيران “المؤتمر المتعدد الاطراف لدعم القوات المسلحة اللبنانية”.
أهمية إنعقاد هذا المؤتمر الاستثنائي تجلت، حسب الأوساط إياها، ليس في حجم ونوعية المساعدات (لا دعم عسكرياً في العدة والعتاد ولا دعم لوجستياً ولا دعم مالياً عينياً)، بل في الذهاب أبعد من ذلك عبر التأكيد على أن الدعم الإستثنائي الدولي للقوات المسلحة اللبنانية يندرج في إطار “الإلتزام بسيادة ووحدة لبنان والمساهمة في المحافظة على إستقراره” مع التشديد على ضرورة الحفاظ على “تماسك هذه القوات ومهنيتها”. وفي هذا السياق، وصفت الأوساط إياها الجيش اللبناني بأنه “ثروة فريدة ومفتاح الأمن والإستقرار”.
كما أن باريس مع شركائها الدوليين تعتبر أن “لا بديل عن الإصلاحات” وأن “بداية الطريق تكمن في تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة من دون أي إبطاء عبر التخلي عن عدم المسؤولية والعمل على إخراج البلد من المأزق والطريق المسدود”.
وكدليل على إستمرار إنعدام الثقة بالسلطات الرسمية اللبنانية، أشارت هذه الأوساط إلى أهمية التشديد على أن كل المساعدات العسكرية، أكان على الصعيد الثنائي (الفرنسي ـ اللبناني) أو على الصعيد الدولي، ستذهب “مباشرة” إلى الجيش اللبناني وفق “آلية متابعة” حددتها مقررات مؤتمر باريس بما يضمن وصول المساعدات إلى المؤسسة العسكرية. إضافة إلى أن مجمل هذه المواقف تحظى بتوافق فرنسي-أوروبي-أميركي.
اشارت هذه المصادر إلى أن رياض سلامة قام في الأيام الأخيرة بزيارة لكل من باريس وموناكو وبرغم محاولة وصفها بأنها “زيارة عائلية” إلا أنها مرتبطة بالفعل بتداعيات التحقيق القضائي الفرنسي
برسم حاكمية المصرف المركزي
أما الرسالة الثانية فكانت مباشرة وموجهة شخصياً إلى حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة. فقد كشفت مصادر فرنسية مطلعة لموقع 180 بوست أن باريس بادرت في الساعات الاخيرة إلى التحرك على صعيدين: الأول، داخلي عبر الطلب من مختلف أجهزتها القضائية والامنية والمالية الإسراع في إجراء “تحقيق معمق ومفصل” بكامل ثروة رياض سلامة “بكل أصولها وفصولها وامتداداتها وخفاياها ومصادرها”، وعلى صعيد ثان، على المستوى الأوروبي من خلال الطلب الى شركائها الأوروبيين تعاون مصارفها المركزية في جمع المعلومات بغية تكوين ملف كامل قبل إتخاذ قرار الملاحقة وفتح المحاكمة وتجميد الأموال.
ويبدو أن من بين البنود المدرجة على لائحة الاشتباه والإتهام ما يتعلق منها بتبييض وغسل الأموال والإرتباط الجرمي بعمليات فساد وفرنسا راغبة في إعطاء دفع لهذا التحقيق والعمل على إنجازه “بدقة وسرعة وفعالية”، على حد تعبير المصادر الفرنسية.
وأشارت هذه المصادر إلى أن رياض سلامة قام في الأيام الأخيرة بزيارة لكل من باريس وموناكو وبرغم محاولة وصفها بأنها “زيارة عائلية” إلا أنها مرتبطة بالفعل بتداعيات التحقيق القضائي الفرنسي.
ويجري الحديث في باريس عن وجود مناخين في الإدارة الفرنسية. الأول، يبدو متحمساً لإزاحة رياض سلامة ويحمله جزءاً أساسياً من المسؤولية عما وصل اليه الوضع النقدي ـ المالي، والثاني، يدعو إلى توفير مخرج آمن لرياض سلامة بعد الإتفاق على البديل لحاكمية مصرف لبنان، شرط أن لا يكون حزبياً بل مستقلاً وشفافاً. لكن الأكيد أن قرار الكشف عن كل الوقائع والحقائق إتخذ وأبلغ إلى المعنيين في الإدارات والأجهزة المعنية.
وتقول هذه المصادر إن النظام الإقتصادي والمالي والإجتماعي اللبناني القديم إنتهى ولا بد من دفنه، ولا يجوز أن يغرق اللبنانيون في الماضي أو بالحنين إلى ماضٍ لن يعود، بل عليهم التطلع أكثر نحو المستقبل “فتشكيل حكومة لبنانية جديدة أمر مهم ولكن المسألة تتجاوز الحكومة وعلى اللبنانيين تنفيذ خارطة الطريق التي طرحتها المبادرة الفرنسية”. وتضيف أن اللبنانيين “لا يحتاجون إلى طبقة سياسية جديدة فقط، بل إلى تغيير نظرتهم إلى بلدهم أولاً وكيف يخترعون نظاماً من العمل والإنتاج والشفافية والنزاهة بدل نظام الريع الذي إنتهى إلى غير رجعة”.