القائد يصنعه الميدان لا.. العدسة!

في هذا الزمن الغارق في الضوء، تتسابق الصور على احتلال الوعي العام، وتتحوّل السياسة إلى مشهدٍ متواصل لا يعرف السكون. أزمة القيادة تُعبّر عن تفتّت العلاقة بين الكلمة والفعل، بين الحضور الرمزي والهيبة التاريخية.

لم تعد القيادة في هذا الزمن فعلًا نابعًا من التجربة أو المشروع، بل أصبحت عرضًا بصريًا تديره وسائل الإعلام وفق منطق السوق. الصورة صارت الأداة الأعلى في هندسة السلطة، تنسج الحضور وتعيد تعريف الوعي الجمعي بمعايير السرعة والانتشار.

الإعلام اليوم يشكّل مركز الثقل في توزيع المكانة. في زمن جمال عبد الناصر، كان الخطاب يُشكّل الجماهير؛ صوت واحد يملأ الميادين، وجملة واحدة تغيّر المزاج القومي. كان القائد يملك قوة اللغة، والكلمة تُنطق فيتحوّل النداء إلى فعل سياسي. ومع نيلسون مانديلا وشارل ديغول وونستون تشرشل، وُلدت الزعامة من التجربة والتاريخ، ومن مزيجٍ بين الألم والفكر والتحدي. أما اليوم، فالقوة انتقلت إلى الشاشة التي تمنح الاعتراف وتحدّد من يستحقّ الظهور ومن يُحجب. الخوارزمية حلت محلّ الميدان، وعدد المشاهدات صار بديلًا عن التصفيق في الساحات.

في الماضي، وُلد القائد من أزمةٍ أو حربٍ أو مشروعٍ نهضوي. قائد “ثورة الريف” في المغرب عبد الكريم الخطابي، مثلاً، صاغ زعامته في مواجهة الاستعمار. الزعيم اليوغوسلافي تيتو أعاد بناء بلاده من رماد الحرب. جواهر لال نهرو صاغ رؤيته من رحم الاستقلال. القيادة كانت تتأسس على المخاطرة، أما في الحاضر فتُقاس بالقدرة على تسويق الموقف. كل تصريح يُعدّ بعناية، وكل إيماءة تُراجع كما تُراجع الحملة الإعلانية

لال نهرو متوسطا عبد الناصر وتيتو

الكاريزما التي تشكّلت عبر معارك ومواقف تحوّلت إلى منتجٍ بصريّ يُصنع في غرف التحرير ومختبرات الصورة. زعماء اليوم، من إيمانويل ماكرون إلى جاستن ترودو إلى فولوديمير زيلينسكي، يشكّلون نماذج جديدة للقيادة التي تُدار بوعيٍ إعلاميّ أكثر منها بوعيٍ سياسيّ. الصورة تُهندس المشاعر مسبقًا، تُعيد بناء الشخصية بما يتناسب مع الذوق العام، وتخلق انطباع القوة من خلال الإضاءة، والابتسامة، وعبارات التواصل السريع.

في الماضي، وُلد القائد من أزمةٍ أو حربٍ أو مشروعٍ نهضوي. قائد “ثورة الريف” في المغرب عبد الكريم الخطابي، مثلاً، صاغ زعامته في مواجهة الاستعمار. الزعيم اليوغوسلافي تيتو أعاد بناء بلاده من رماد الحرب. جواهر لال نهرو صاغ رؤيته من رحم الاستقلال. القيادة كانت تتأسس على المخاطرة، أما في الحاضر فتُقاس بالقدرة على تسويق الموقف. كل تصريح يُعدّ بعناية، وكل إيماءة تُراجع كما تُراجع الحملة الإعلانية. الخطاب السياسي اكتسب شكل البيان الإعلاني: وضوح، جاذبية، سرعة، وخلوّ من الالتباس. ومع كل جملة مصقولة يفقد الفكر حرارته ويبهت أثر السياسة كفعلٍ فكريّ.

السلطة الإعلامية تصنع القبول من خلال التكرار. كل صورة تتكرّر حتى تتحوّل إلى حقيقةٍ مرئية. التكرار يُولّد التصديق، والتصديق السريع يعتمد على الإيقاع لا على الحجة. ولهذا، يتحدّد نفوذ الزعيم المعاصر بقدرته على ملء الفضاء الرقمي لا بقدرته على صياغة مشروعٍ تاريخي. الجمهور يتلقّى المشهد أكثر مما يُشارك في صناعته. امتلاء بصري يقابله فقر في التفاعل الواعي.

حتى القادة الذين يمتلكون إرثًا ثقيلًا من التاريخ يجدون أنفسهم اليوم داخل شبكةٍ من الصور التي تبتلع المعنى. فلاديمير بوتين يُجسّد حضور القوة من خلال الصورة العسكرية المحسوبة، وجو بايدن يُقدَّم في قالبٍ إنسانيّ ليعوّض عن ضعف النبرة الخطابية. في المقابل، برز زيلينسكي كنموذج للزعيم الرقميّ الذي يستخدم الفيديو والخطاب القصير بدل البيان الطويل. هكذا صار العالم يعيش زعامةً مشروطة بالتصوير المستمر، لا بالفعل المستمر.

فقدت القيادة بعدها الفكري حين تحوّل القائد إلى واجهة للعرض. الإعلام يكتب التاريخ ويخرجه في الوقت نفسه، يُحدّد من هو الشجاع ومن هو الضعيف، من يملك الرؤية ومن يملك الصورة الأجمل. وهكذا يغدو العالم غارقًا في الوفرة البصرية التي تحجب العمق. كل وجهٍ جديد يلمع ثم يخبو، وكل هالة تنشأ بسرعة الضوء وتذوب بالسرعة نفسها.

الطريق إلى التوازن يمرّ عبر استعادة الكلمة كقيمةٍ تفكير لا كأداة تسويق. حين تعود اللغة إلى موقعها الأول، تُستعاد معها هيبة السياسة بوصفها حقلًا للفكر لا للشهرة. القائد الذي سيأتي لن يولد من كاميرا، بل من فكرةٍ تُخاطب وعيًا عطِشًا إلى العمق. من تلك اللحظة يبدأ عصر جديد، حيث تُقاس الزعامة بقدرتها على الإقناع والتأمل، لا بقدرتها على جذب العدسات.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حدود المقامرة الأمريكية فى أوكرانيا
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ماكرون ـ نتنياهو.. عندما تلتقي الفاشيتان!