في الموسوعة اللغوية الضخمة “لسان العرب”، والتي يحفظ العرب عنوانها ظهراً عن قلب، يعطي إبن منظور تعريفاً للسياسة فيقول “السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه”.
ولكن كيف يصلحه؟
يجيب إبن منظور قائلاً “السياسة فعل السائس، يقال: هو يسوس الدواب، إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته، ويقول ابو زيد: سوس فلان لفلان أمراً فركبه، وقال غيره: سوس له أمراً أي روضه وذلل”.
الحصيلة في تعريف إبن منظور للسياسة تنطوي على مصادر الأفعال الثلاثة هذه: الركوب ـ الترويض ـ التذليل، وفي ذلك قال الشاعر الحطيئة (ت 675م):
لقد سوست أمر بنيك حتى/ تركتهم أدق من الطحين.
السياسة في اللغات الفرنسية Politique والإنكليزية Policy أو politics والإسبانية والإيطالية Politica وغيرها من فروع اللغة اللاتينية تستمد تعريفها من الجذر اليوناني ـ الإغريقي Polis والتي تعني المدينة، وبهذا المعنى يغدو تعريف السياسة تنظيم شؤون المدينة.
لنلاحظ الفارق الكبير بين تعريفي السياسة، أي بين الركوب على الرعية وبين تنظيم أحوال المدينة.
وعلى أساس هذا التعريف بدلالته العربية واللبنانية، تتحول السياسة أداة للتغلب على الداخل بهدف الإمساك بالسلطة بإعتبارها غنيمة لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها، ولأجل ذلك، يصار إلى استخدام كل الوسائل للإحتفاظ بها، سواء عن طريق القوة، أو الإغراء بالمال، أو انتهاج سياسة الكذب بغية غسل الأدمغة وإنتاج “حقائق” مزيفة.
غالباً ما يرفع السياسيون من قيمة هوية الدولة أو الجماعة، فيُسقطون على ماضي الجماعة مآثر وأمجاداً، ويروجون لمقولة “نحن دائماً على حق وهم دائماً على خطأ”، كما أنهم ينفون وينكرون أن تكون مجموعتهم قد قامت بارتكابات واقترافات، ألا يمكن استحضار النموذج اللبناني في هذا المثال
في كتاب “تاريخ الكذب”، يُصنف الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004) المكذوب عليهم بأنهم “آخرين” بالنسبة للرجل السياسي “فالكذب يعني دائماً خداع الآخرين عن قصد ووعي ودراية كاملة”، وهذا يعني بحسب دريدا بأن الآخرين “بمثابة العدو”.
وإذ يتطرق دريدا إلى نماذج عدة ومناهج مختلفة من الكذب والخداع، فالملاحظ أن مجملها يدور في فلك السياسات الخارجية، وهذا أمر كانت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (1906 ـ 1975) قد تناولته في كتابها “الحقيقة والسياسة” حيث تقول إن الكذب التقليدي “لم يكن يعني سوى الخواص، والخداع كان موجهاً ضد العدو فقط”.
يبدو الأمر طبيعياً ومنطقياً، أن يمارس أهل السياسة الخداع والكذب على اعدائهم الخارجيين، ولكن أن ينتهجوا مذهب الكذب تجاه جمهورهم وبني أوطانهم، فذلك يعيد سؤال السياسة إلى “لسان العرب” وإبن منظور، وما يعنيه من ركوب الدابة وترويضها، وفي الواقع العملي لا يعني الترويض سوى إصرار وسعي رجل السياسة للإحتفاظ بالترؤس والتسلط، ألا يعني الترويض تسلطاً؟.
كيف يمارس السياسيون الكذب؟
يحدّد جون ميرشمير في كتابه “لماذا يكذب القادة؟” سبع أكاذيب “استراتيجية” يلجأ إليها رجال السياسة في مجال حرفتهم ومهنتهم. صحيح أن تلك الأكاذيب تستمد ذرائعها من مفترضات وادعاءات التهديد الخارجي، غير أنها تستهدف الجمهور الداخلي، ومن نماذجها:
ـ زراعة الخوف: الغاية من هذه الأكذوبة “إثارة حالة خوف غير موجودة في مخيلة الشعب عبر تضخيم التهديد الخارجي بعدما يتراءى للقادة أن الشعب قد تراخى”.
وعلى أساس هذه المنطق، يرى السياسيون “أن الطريقة الوحيدة لتحريك الشعب هو خداعه، وأكثر المواطنين لا يملكون الذكاء المطلوب للتعرف على الخطر، والعامة عرضة للجهل والغباء والجبن”.
هذه الأكذوبة على الشعب لها معنى واحد، أن رجال السياسة يرمون الناس بالجهل والغباء.
ـ التغطية على الحقائق: يلجأ السياسيون إلى الكذب بهدف “إخفاء سياسات فاشلة أو سياسات مثيرة للجدل”، ويظنون أنهم يحمون الدولة ـ او الجماعة ـ جراء اكذوبتهم تلك، فتكون النتيجة حماية الرجال الفاشلين وغير الأكفياء والتغطية على السياسات الغبية.
ـ التغطية الشنيعة: وهي سياسة الكذب الناتجة عن “تخبطات القادة أو سياساتهم الفاشلة لمصالح شخصية، ويكون هدفهم في هذه الحالة حماية أنفسهم أو حماية أصدقائهم من عقاب مستحق”.
ـ حراسة الهوية: غالباً ما يرفع السياسيون من قيمة هوية الدولة أو الجماعة، فيُسقطون على ماضي الجماعة مآثر وأمجاداً، ويروجون لمقولة “نحن دائماً على حق وهم دائماً على خطأ”، كما أنهم ينفون وينكرون أن تكون مجموعتهم قد قامت بارتكابات واقترافات، ألا يمكن استحضار النموذج اللبناني في هذا المثال؟.
ـ حماية المصالح: يطلق القادة أكاذيبهم بإتجاه الخارج “بهدف تنمية مصالحهم السياسية والإقتصادية أو لمصلحة طبقة اجتماعية أو مجموعة بعينها، ويستهدف هذا النوع من الأكاذيب صرف نظر الشعب عن مشاكل أو قضايا مثيرة للجدل في الساحة المحلية”.
إذا كانت هذه الأكاذيب، قد باتت تقليدية ومعروفة لدى شرائح واسعة من الناس، فكيف يمكن تفسير استمرار نجاحها ونجاعتها؟
الإجابة على ذلك تتطلب العودة إلى تصنيف الناس إلى فئتين: فئة لديها الدراية والخبرة وفئة الجمهور، الأولى ضيقة والثانية واسعة، وحيال الفئة الأولى كتب جون ميرشمير في كتاب “لماذا يكذب القادة”، فقال:
“اسلوب الخداع قد لا ينجح مع المتعلمين المتمردين، لأنهم بطبيعة الحال يدركون ما يجري حولهم، ومن الصعب ان تنطلي عليهم الكذبة، فيكون الحل بإثارة الذعر لتحريك الجمهور الأوسع واستعدائه تجاههم، وأخيراً سوف يجد هؤلاء المتمردون أنفسهم في عزلة عن الآخرين وفي وضع مشبوه، مما قد يؤثر في مستقبلهم المهني الذي قد يصبح مهدداً، فيضطرون إلى التخفيف من انتقاداتهم، أو يهادنون أو يلتزمون الصمت أو ربما يغيرون أقوالهم”.
حتى لو اكتشف الجمهور الكذب السياسي سيرفض الحُكم عليه بكونه كذباً، لإعتبارات وقناعات أهمها خوفه من خسارة عناصر الحماية النفسية التي يكون قد راكمها على مدى سلسلة زمنية طويلة، وهذا الخوف يجعله بين خيارين: الإستمرار في تصديق الكذب السياسي أو الوقوع في العراء
شي من هذا القبيل، كان تحدث عنه المفكر الإيطالي نيقولا ميكافيللي (1469 ـ 1532) في كتابه “الأمير” فقال “عامة الناس يحكمون على الأشياء من مظهرها الخارجي، وهذا العالم لا يتكون إلا من هؤلاء العامة، أما غير الساذجين فهم قلة تنعزل حين تجد الكثرة مجتمعة حول الأمير”.
والسؤال حيال ذلك: لماذا تصدق العامة ـ وهي الأكثرية ـ أكاذيب السياسيين كما يقول ميكافيللي؟
عالم النفس الأميركي الشهير بول إيكمان، يرى أن عامة الناس تميل إلى التصديق، لأسباب شتى، عاطفية ونفسية وسياسية، وليس من السهل أن تحيد عن شخص ما إذا اكتشفت كذبه، فذلك يولّد آلاماً نفسية بليغة، وينطبق هذا الأمر على سلوك الأفراد وسلوك الجماعات، وانطلاقاً من هذا الأمر يتطلب الإنفكاك عن الشخص الكاذب فترة زمنية ليست قصيرة.
بصورة عامة، يتشكل مستوى مخاطر الكذب السياسي من عاملين اثننين:
ـ الأول؛ إدراك رجال السياسة اتجاهات عواطف الناس نحوهم ووقوفهم على صورة التفسير الخارجي للظواهر والأحداث ومن دون التدقيق بها.
ـ الثاني؛ حاجة الجمهور أو فئات واسعة منه إلى استشعارالتفوق والحماية النفسية الجماعية بعدما تكون زراعة الخوف قد بلغت ذروتها، وفي هذه الحال، حتى لو اكتشف الجمهور الكذب السياسي سيرفض الحُكم عليه بكونه كذباً، لإعتبارات وقناعات أهمها خوفه من خسارة عناصر الحماية النفسية التي يكون قد راكمها على مدى سلسلة زمنية طويلة، وهذا الخوف يجعله بين خيارين: الإستمرار في تصديق الكذب السياسي أو الوقوع في العراء، ومن الطبيعي ألا يختار العراء، او عل الأقل لا يتعجله قبل إعادة ترميم النفس المنكسرة.
يقول المفكر الفرنسي غوستاف لوبون (1841 ـ1931) في كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير” إن حدود اللاشعور تحرك الجمهور “فيتلقى بطيبة خاطر كل الإقتراحات والأوامر ولديه سرعة تصديق منقطعة النظير”، وأما لماذا ذلك؟ فلأن “الظواهراللاواعية تلعب دوراً حاسماً في اشتغال الذهن وآلية العقل، والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزءاً ضعيفاً بالقياس مع الحياة اللاواعية، ولفهم ذلك لا بد من التذكير بكيفية الإنتشار السريع للحكايات الغريبة والشاذة”.
وبناء على ذلك يطرح السؤال الكبير نفسه: ما شرعية ومشروعية الكذب السياسي وهل يمكن ممارسة السياسة بعيداً عن الكذب والخداع؟
ثمة إجاباتان معاصرتان:
ـ واحدة للمفكر الأميركي من أصل ألماني ليو شتراوس (1899 ـ1973) تلميذ الفيلسوف مارتن هايدغر المقرب من الزعيم النازي أدولف هتلر وفيها يفلسف ما يسميه أهمية “الأكاذيب النبيلة” لخدمة المصالح الوطنية لأجل إبقاء الجمهور مصطفاً وراء “السياسات الحكيمة”.
ـ الثانية للمفكرالعربي عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ1903) حيث يقول في كتابه “طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد” إن “الإستبداد يستولي على العقول الضعيفة عن طريق تشويه الحقائق والبديهيات”، أي أن المستبدين يكذبون، وبما أن الكذب غير مبرر أخلاقياً، فكيف يصبح سياسة مقبولة؟.
الإشكالية في الكذب إنه حين يخرج من أفواه السياسيين لا يمكن رده، بل يفعل فعله وأفاعيله، وفي ذلك قال الشاعر العربي القديم النعمان بن المنذر:
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً/ فما اعتذارك من قول إذا قيلا.
ختامها مسك فلسفي:
عندما مات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1804) كتب أهل مدينته هذه العبارة على قبره: “شيئان يملآن الوجدان: نجوم تلمع في السماء وقانون الأخلاق في صدري”.
ماذا سيكتب اللبنانيون على قبور غالبية أهل السياسة؟