مع الهزيمة المفاجئة والسريعة لنظام عائلة الأسد التي حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن، تنتهي حقبة الأنظمة العسكرية التي نشأت على ظهر نكبة فلسطين، وتنتهي معها مرحلة عقيمة من تاريخ الدول العربية أبقتها بعيدة عن التطور بمختلف أشكاله، وجعلتها لعبة في مهب الصراعات الدولية والإقليمية. رُبّ قائل وماذا عن مصر التي يحكمها اليوم يحكمها الجنرال عبد الفتاح السيسي إلا أن جوابي أن مجيء هذا الرجل إلى السلطة لم يأتِ تحت شعارات ناصرية أو قومية بل لأجل وظيفة سياسية محددة هي إنهاء حكم الإخوان المسلمين أو حكم محمد مرسي.
كل الأنظمة العسكرية العربية حمت حدود الكيان الاسرائيلي منذ ما بعد حرب 73 وهي ترفع شعارات قومية، من ليبيا معمر القذافي؛ مصر أنور السادات، إلى عراق صدام حسين وسوريا البعث وآل الأسد. فدور الأنظمة الفعلي لم يكن مُعاديًا أو مُكبلاً للكيان بأي شكل من الأشكال، بل كان ضابط إيقاع لحركات التحرر الوطني العربية ولا سيما للمقاومة الفلسطينية.
في حقبة الأنظمة العسكرية العربية، تضاعفت قوة الكيان الاسرائيلي العسكرية والاقتصادية بأضعاف مضاعفة في العقود الأربعة الأخيرة. نما حجم الاقتصاد الإسرائيلي من 10 مليارات دولار عام 1973 إلى 525 مليار في 2022 أي 52 ضعفًا، مُسجلًا مستويات مرتفعة للدخل الفردي وصلت إلى 52 ألف دولار للفرد سنويًا في 2022 مماثلة لألمانيا ومتفوقة على معظم دول أوروبا، فيما يتراوح الدخل الفردي السنوي في كل من مصر وسوريا وليبيا والعراق بين ألفين وستة آلاف دولار سنويًا للفرد.
اللعب على التناقضات
كثُرت الأحاديث المتداولة عن وجود خُطط محضّرة سابقًا من قبل قوى “الاستعمار” وتركيا وبتواطؤ روسي-إيراني أدّت الى الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في سوريا. لكن هذه الفرضيات ليست إلا محاولات للتفسير المبسّط لحدث تاريخي إستثنائي لم يكن أحد أن يتوقع حدوثه، لذا يتم الركون إلى فرضية المخططات والمؤامرات. فكيف لنظام استطاع في السابق التصدّي لثورة شاملة سيطرت على معظم المدن وجزء من ضواحي دمشق (دوما) ألّا يصمد ولو لفترة وجيزة اليوم؟ ولا يُبرر غياب حزب الله وروسيا هذا الانهيار السريع. النقطة الأساس لماذا لم يُحارب الجيش السوري؟
لنعد أسبوعين الى الوراء. لم يكن الرئيس المخلوع بشار الأسد في حالة ضعف بل كان يتمتع بموقع المفاوض، تحاول استمالته العديد من القوى الإقليمية والدولية. رجب طيب أردوغان نفسه لم يتوقف عن مغازلته والأسد هو من وضع شروطًا تعجيزية منعت اللقاء (وفق رئيس وزرائه الأسبق)، إذ أنه اشترط للقاء نظيره التركي إنسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية أو التعهد بذلك علناً قبيل القمة التي تجمعهما، كذلك فعلت الإمارات العربية المتحدة بمباركة خليجية خصوصًا بعد 7 أكتوبر. كان الأسد الرجل المدلّل لدى أطراف الاحتقان الإقليمي (مثلًا بين إيران والسعودية أو بين الإمارات وتركيا إلخ..) ولاعبًا على التناقضات الخارجية. أليس هو من راوغ وتملص من أي تطبيق ولو شكلي للقرار الاممي 2254 الذي رسم خارطة طريق لحل الأزمة السورية بإجماع دولي؟
قبل عدة أشهر، كان الحال معاكسًا تمامًا لوقائع اليوم. ثمة من كان يتوقع أن يبدأ الجيش السوري هجومه على إدلب التي لم يتوقف عن قصفها مع الروس منذ سنتين، ما أعطى ذريعة لإطلاق شرارة معركة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) تحت مُسمّى “ردع العدوان”، ما يعني أنها معركة استباقية لمنع الهجوم، وكان سقفها الضغط على مدينة حلب. لم يُغيّر الجولاني هدفه (أي ردع العدوان) إلّا بعد سقوط المدن الرئيسية الواحدة تلو الأخرى ووصول فصائل قواته إلى تخوم دمشق، أي قبل يومين من سقوطها، فأعلن حينها خلال مقابلته الشهيرة على قناة “بي. بي. سي” أن هدف المعركة هو “إسقاط الأسد”. لا شك ان “هيئة تحرير الشام” التي يقودها الجولاني تتحضر منذ سنوات وتتلقى التدريب والعتاد من تركيا لمواجهة “قسد” كما “الأسد”.
أكثر من خمسين ألف شهيد فلسطيني ولبناني، بينهم قيادات حماس وحزب الله، وقصف بيروت والشام والعديد من المدن بالإضافة إلى المجازر اليومية في غزة، والأسد ساكت لا يُحرّك ساكنًا. هكذا، وجد الجيش السوري نفسه لا يفعل شيئاً سوى مواجهة أبناء بلده، ولا سبب لوجوده سوى الحفاظ على النظام وحاشيته
لماذا لم يُقاتل جيش الأسد؟
خلال الأيام الأولى من بدء المعارك، أعلن حلفاء الأسد وهم إيران وروسيا وكذلك حزب الله على لسان أمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، أنهم سيقومون بدعمه “إن أمكن ذلك” على حد تعبير قاسم. ليس صحيحًا أن حلفاء الأسد الذين بذلوا الكثير لإبقائه في سدّة الرئاسة على حساب مئات آلاف الأرواح وملايين النازحين قد قرّروا التخلي عنه. كما أنه من السذاجة القول إن أميركا تخلّت عن أوكرانيا مقابل تخلّي روسيا عن سوريا. فأوكرانيا هي الحاجز الأمامي لأوروبا الغربية بوجه روسيا، ولا تتخلى عنها أميركا بسهولة مقابل الجائزة السورية، وكأن سوريا كانت تُهدّد مصالح أميركا أو الغرب عمومًا!
مع سقوط الأسد، دمّرت إسرائيل عتاد الجيش السوري الجوي والبحري ومخازن الأسلحة بسبب خوفها من أن تقع كلها في يد السلطة الجديدة، أي أن إسرائيل، المُدلّلة أميركيًا، كانت أكثر اطمئنانًا في حضرة الأسد. وتعلم إسرائيل جيدًا أن أي نظام عربي لا يعتمد على دعم دولي أو إقليمي لتثبيت حكمه، سيكون خطرًا عليها وعلى مشاريعها.
أما اجتماع دول اتفاقية آستانا فأتى لترتيب الأوضاع المستجدّة وليس للتخطيط لها كما يُسوّق لذلك البعض. فلا إيران ولا روسيا تخلّت عن الأسد، ولا أميركا تخلّت عن أوكرانيا. أكثر من ثلاثين مليار دولار أنفقتها إيران في سوريا منذ العام 2013. الميدان وحده هو من رسم نهاية نظام الأسد. بكل بساطة، الجيش السوري لم يقاتل. والسؤال الأهم لماذا لم يقاتل هذا الجيش الآن في حين أنه استقوى وبطش في الميدان منذ اندلاع الثورة السورية في 2011؟
إنّها غزة
أهم الأمور المستجدّة على الساحة منذ 2011 هو طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي تستمر بها إسرائيل منذ 14 شهرًا، والمستمرة ضد غزة والتي توقفت بفعل وقف النار مع لبنان. خلال كل هذه الفترة، لم تُطلق رصاصة رسمية سورية واحدة نحو إسرائيل. الأفدح من ذلك أنه كان ممنوعًا على المواطنين السوريين أن يتظاهروا أو يتضامنوا مع أبناء غزة. حتى أن الأراضي السورية عندما كانت عرضة لإعتداءات إسرائيلية كان ممنوعًا على الجيش السوري الرد على أفعال الجيش الإسرائيلي.. كل ذلك أفقد نظام الأسد شرعيته وعرّى فجوره ورهاناته على ما يسمى “الحضن العربي”!
أكثر من خمسين ألف شهيد فلسطيني ولبناني، بينهم قيادات حماس وحزب الله، وقصف بيروت والشام والعديد من المدن بالإضافة إلى المجازر اليومية في غزة، والأسد ساكت لا يُحرّك ساكنًا. هكذا، وجد الجيش السوري نفسه لا يفعل شيئاً سوى مواجهة أبناء بلده، ولا سبب لوجوده سوى الحفاظ على النظام وحاشيته، ولم يعد بالإمكان أبدًا التلطّي خلف أي أمر أو شعار آخر. انتهت شعارات العروبة والمقاومة والوحدة والحرية والإشتراكية.. فعل “قانون قيصر” فعله في المجتمع السوري. فقر وبؤس من دون أفق. لذا، في الوقت الذي كان مقاتلو “ردع العدوان” يحاربون للعودة إلى مدنهم وقراهم، كان عناصر الجيش السوري قد فقدوا كل سبب أو حافز لمحاربة أبناء وطنهم في ظل انفضاح “رئيسهم” وصمته على جرائم إسرائيل المستمرة. المجندون من الشباب السوري كانوا أطفالاً عند بدء الثورة عام 2011. هؤلاء لم يجدوا من نظام الأسد سوى البؤس والجوع والبطش..
التخوّف من كون معظم الفصائل المنخرطة في عملية “ردع العدوان” أصولية ومتطرفة لا ينفي أبدًا أحقية المعركة الأساس على الرغم من أن تجربة حكمها في إدلب لم تكن مشرفة. لكن أغلبية أعضاء هذه الفصائل التي خاضت معارك تحرير سوريا، هي ممن نزحوا وهُجّروا من بيوتهم، ومن الطبيعي أن ينضموا لأي فصيل يتيح لهم مقاتلة من هجّرهم، أكان مدعومًا من تركيا أو غيرها، من دون أن يعتنقوا بالضرورة أفكارًا أصولية. وللتأكيد على ذلك، كثرٌ من مقاومي حزب الله كانوا سابقًا منخرطين في جبهة المقاومة اللبنانية ثم انضموا إلى حزب الله كي يتمكنوا من مواصلة مقاومتهم. وأغلب الظن أنّه مع قيام سوريا الجديدة وعودة هؤلاء المقاتلين إلى كنف عائلاتهم وقراهم، سنجد أن الكثيرين منهم سيتحررون من الفصائل الأصولية. فالشعب السوري محافظ ولكن من دون تشدّد، والمذهب السائد لدى السنة هو الشافعي المعروف بليونته عدا أن حضارة الشام تشكلت من عدة طوائف عاشت على مدى قرون من الزمن بسلام.
لا شك أن غزة وتضحياتها تضيئ طريق شعوب المنطقة، وتفرز بوضوح بين من بنى شرعيته وسلطانه على ظهر القضية الفلسطينية ومن ضحّى واستشهد في سبيلها.
ها هي غزة تُنهي نصف قرن من المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وربما ستُحرّر في المستقبل شعوبًا خذلها حكامها. فمن وقف صامتًا أمام نكبتها لن ترحمه أرواح شهدائها.