نحن “يوسف” يا أبي..!

سنتيْن، كان عمر والدي عندما أُصيب بالتهاب السحايا. ساعات وساعات، والحمّى تفتعل في دماغه، قبل أن يتمكّن جدّي من نقله من الجبل إلى طوارئ المستشفى في بيروت. فيومذاك، أي في الـ 1934، لم تكن المواصلات وخدمات الطبابة والاستشفاء في لبنان، مثلما هي في هذا العصر. إلتهمت الحمّى جسد الطفل الغضّ، وتركتْ آثارها المدمِّرة على حياة أبي و.. حياتنا.

سكنت هذه الواقعة مخيّلتنا. خلقت في عائلتنا قلقاً دائماً. صارت هاجسنا. فعندما يمرض أيٌّ منّا، يستفيق جزعنا من ألاّ نتمكّن من إنقاذ مَن نحبّ في اللحظة المناسبة. من إسعافه قبل فوات الأوان. فأكثر ما يعلِّم هو فوات الأوان، كما يقول شاعرنا الراحل أنسي الحاج.

اليوم، في الـ 2021، صرتُ أعاين نظير “خوفنا العائلي” على شاشات التلفزيون. باتت تعبر أمام عينيّ، حالاتٌ ميؤوس منها. أُحسُّ، من خلالها، بوجع جدّي العاجز عن نجدة طفله. لبنانيّون، صغاراً وكباراً، لا يتمكّنون في هذه الأيّام من ولوج المستشفيات. ليس بسبب صعوبة الانتقال السريع إليها، كما قبل نحو قرنٍ من الزمن. إنّما، لأسبابٍ تعرفونها. ولا داعي، بالتالي، لطول شرحٍ وتفسيرٍ وهجاء.

بعد شفائه، إنتقل أبي للعيش على هامش الحياة. لم يستطع دخول مدرسة. ولا ممارسة أيّ مهنة أو عمل. لكنّه عاش مُعزَّزاً مُكرَّماً. كان المسّ بكرامته خطّاً أحمر. فلقد توَّجته أمّي ملكاً على عرش بيتنا. ملك، حفر حبّاً وولاءً واحتراماً له، في عمق أعماق قلوبنا. لكنّ كلّ ذلك لم يخفِّف من نقمتنا على ظلم القدر له. فلطالما لعنَّا حظّه العاثر. وتخيّلنا لو إنّه مَرِض في عصرنا هذا. طبعاً، لما كان حصل له ما حصل. كم كنّا مخطئين في تلك الفرضيّة! فها هم “المؤتمَنون” على مصائرنا، يتفنّنون بأساليب إلحاق الضرر بأدمغتنا. بإلحاق شتّى صنوف الأذى بأرواحنا وأجسادنا. السلطة اللبنانيّة أشدّ فتكاً بالكائن البشري، من فيروس السحايا الدماغيّة. من كلّ الفيروسات والبكتيريا والأوبئة والجوائح التي عرفها الإنسان. ومن تلك التي سيتعرّف عليها. كيف حالنا في هذه الأيّام؟

نعيش في أزمةٍ وجوديّة خانقة. بخاصّة، اللبناني الذي أمعنت حروبنا سواداً في طفولته. لم يختبر مجتمعنا مثل هذه الأزمة، منذ مجاعة الحرب العالميّة الأولى. هكذا يؤكّد المؤرّخون. لذا، لم تعد أزمات بلادنا، مجرّد كوميديا سوداء. لم تعد مهازل التشكيلات الحكوميّة، مجرّد مشكلة عابرة. باتت تكلفتُها اندثارَ بلدٍ عن بكرة أبيه. تحوّلت الكوميديا السوداء إلى تراجيديا مخيفة. إلى فيلم رعب حقيقي. يروي قصّةً محبوكة بعبثيّةٍ نادرة. بإرادةٍ موصوفة للتخريب. بعزمٍ غير مسبوق على الانهيار. لا يمكن، يا أصدقاء، أن تكون الذلّة اليوميّة التي تدور رحاها أمام الأفران والمستشفيات ومحطّات البنزين و…، إلاّ سيناريوهات مُعَدَّة بدقّة. من سابع المستحيلات أن يكون مُعِدّو هذه السيناريوهات المُمنهَجة، إلاّ خبراء في “علم الجريمة”. في “سيكولوجيا الإجرام”. في “سيكولوجيا الجماهير”! اسمعوا واحكموا.

زوّرت وقائع الحياة الإنسانيّة في لبنان. حوّلت مجتمعنا إلى غابةٍ حيوانيّة. غابة يسودها قانون التوحّش البدائي. يفترس فيها القوي الضعيف. وهكذا، تبدّدت كلّ مقوّمات مِنْعَتنا. تهاوى كلّ شيء على رؤوس الناس. تفكّك بنيان الدولة. ضاعت جميع معايير السياسة والاقتصاد والأمن والصحّة والتربية والفنون والأدب والإعلام

مع الإعتذار – الإقصاء لسعد الحريري، عاد الوضع الحكومي إلى القعر. فأمست “قواعد اللعبة” أكثر وضوحاً. تظهّرت وقاحتها. سطع عهرها. المطالب الفئويّة تعطِّل الحكومة. وتعطيل الحكومة يولّد تحليقاً في سعر صرف الدولار الأميركي. لَعَمْري، إذْ باتت مأساة اللبنانيّين تُقاس بـ”بارومتر” الدولار. لم يعد ينفع شيء لضبطه. لا منصّات. ولا تعميمات. لم يعد من سبيلٍ للجمه. طالما لا سبيل للتحكّم بألْجِمة المتحكِّمين به. أي، حُكّامنا ومافياتهم من المحتكرين. وتجّار الأزمة في الغرف السوداء. والمتلاعبون بالأرواح. دخلنا في حلقة جهنّميّة مُفرَغة. وبدأت حياتنا بالدوران. كأنّنا نرقص رقصة “الدراويش” (رقصة صوفيّة). رجال يدورون لدقائق طويلة حول نفسهم، لكبح رغباتها (يُعتقَد أنّ فكرة هذه الرقصة أتت من مفهوم دوران الكواكب حول الشمس). ماذا فعلت عصاباتنا الحاكمة، والدارةُ تدورُ فينا؟

زوّرت وقائع الحياة الإنسانيّة في لبنان. حوّلت مجتمعنا إلى غابةٍ حيوانيّة. غابة يسودها قانون التوحّش البدائي. يفترس فيها القوي الضعيف. وهكذا، تبدّدت كلّ مقوّمات مِنْعَتنا. تهاوى كلّ شيء على رؤوس الناس. تفكّك بنيان الدولة. ضاعت جميع معايير السياسة والاقتصاد والأمن والصحّة والتربية والفنون والأدب والإعلام. إنحلّ الرباط القانوني بين اللبنانيّين. تخلخلت علاقاتهم الإنسانيّة من جذورها. اضطربت الوجدانات. أنهكت الهموم نفسيّات المواطنين وعقولهم. أضحى لبنان بؤرة فقيرة تتآكلها الطوائف. ويمارس فيه أركان الحُكم نوعاً نادراً من الإرهاب. إرهاب ضدّ الشعب، لا عنوان معروفاً له. وهنا، في الحقيقة، مكمن قوّته. غياب العنوان. بحيث يصبح استهداف هذا الإرهاب أو القضاء على الإرهابيّين، محتاجاً إلى معجزة ربّانيّة. ما العمل، وزمن المعجزات قد ولّى وانتهى؟ ما باليدّ حيلة.

لكنّ إرهابهم، كما يبدو، لا يريد قتلنا دفعة واحدة. بل، أن توافينا المنيّة أكثر من مرّة. أن يزحف الهلاك الخفي نحونا مثل الضباب. فموتنا الصاعق لا يُشفي غليلهم. يعشقون التلذّذ بتعذيبنا. بترويضنا. بتهجيرنا داخل الوطن. أو بتطفيشنا. وعليه، “سنتحوّل، ونحن في بيوتنا، إلى أكبر مخيّم للّاجئين في العالم”، على حدّ وصف الكاتب والمؤرّخ اللبناني أحمد بيضون لواقعنا كشعبٍ مهدور. كمواطنين باتوا يعيشون على هامش الحياة. وهل أكثر قابليّةً من اللاجئ لتهميش حياته؟ قطعاً لا.

يا الله! ماذا فعلنا كي نستحقّ وجود هؤلاء الأنذال في حياتنا؟ سألتك هذا السؤال في أحد مقالاتي، لكن لم يأتني الجواب. ولا حتّى إشارة واحدة منك! وعدتُ أسأل نفسي أسئلة لا أجوبة لها: كيف سنُكمل حياتنا هذه، وقد سلب منّا برابرة العصر الدافع الرائع للعيش

المفارقة، أنّ حُكّام لبنان يفضّلون النازحين واللاجئين إلى أرضنا، علينا. لماذا؟ لأنّ هؤلاء يُدرِّون لهم الـ fresh dollar. مال المؤسّسات الدوليّة الذي يسرقونه قبل أن يُحوَّل إلى أصحابه. أَلَم تسمعوا خطابات الرؤساء والمسؤولين، وهي تتسوَّل المساعدات باسم هؤلاء النازحين واللاجئين؟ بلى. وأكثر. يتيح النازحون واللاجئون لعصابات الحُكم فتْح البازارات السياسيّة. وإطلاق عمليّات المتاجرة بمصائرهم، على طاولات التفاوض الدولي. ماذا بعد؟

إقرأ على موقع 180  "العوض بسلامتكم" أو خطاب العجز السياسي المُريع

نجح أعداء لبنان الذين يحتلّون مقاعد السلطة، بجعلنا أشخاصاً طفيليّين من دون إنسانيّة. عطّلوا طاقاتنا الحيويّة، وقدرتنا على المجابهة والمقاومة والانطلاق. فكيف واجهنا؟ هربنا من هدْرنا وقهْرنا، فوقعنا في عطالة المشروع الوجودي. أصبحنا جماعاتٍ تبذل الدمّ في حوادث المرور. والعَرَق في الملاعب. والدموع في الامتحانات! صرنا أفراداً هامشيّين. مثل كائنات صغرى تتسلّق على جسم المجتمع وتأكل منه. ضاع منّا الوطن. أفلت من بين أصابعنا. وعندما يُفلِت الوطن من بين أصابع مواطنيه، لا يعودون يستطيعون النظر. أتعرفون ذلك؟ على الأرجح.

ما هو أكيد، أنّنا سلكنا طريق اللّاعودة. فالكلّ يمضي في مسار السقوط الحرّ. ولا يمكن التهرّب من حتميّة هذا السقوط، مهما بلغ دهاء قوى الأمر الواقع. ومهما اجترح عباقرة السلطة من معادلاتٍ رياضيّة لاحتساب الأعشار والأثلات في التشكيلة الحكوميّة المتنازع عليها. تنازع أين منه التنازع على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. حكومتنا اللبنانيّة الموعودة، هي مجرّد “تفليسة سياسيّة”. ولا يعرف أصحاب شركة العهد القوي تصفية هذه الشركة بعد “تفليستهم”. ولا كيفيّة تعيين جبران باسيل حارساً على أصول الدولة اللبنانيّة ومتفرّعاتها الدستوريّة والتشريعيّة والتنفيذيّة.

يا الله! ماذا فعلنا كي نستحقّ وجود هؤلاء الأنذال في حياتنا؟ سألتك هذا السؤال في أحد مقالاتي، لكن لم يأتني الجواب. ولا حتّى إشارة واحدة منك! وعدتُ أسأل نفسي أسئلة لا أجوبة لها: كيف سنُكمل حياتنا هذه، وقد سلب منّا برابرة العصر الدافع الرائع للعيش؟ أي، ترقُّب الأفراح القادمة؟ لماذا نرفع الستائر نهاراً؟ فماذا نرى بعيون بلا بصيرة؟ لم أعد أذكر أين قرأتُ هذه الجملة الأخيرة التي تقطر وجعاً! لكنّني مقتنعة، بأنّ الأمّة التي يعرف رجالها كيف يموتون، هي الأمّة الجديرة، فقط، بالحياة.

لذا، لا نستحقّ، نحن اللبنانيّين، الحياة. لأنّنا ارتضينا العيش على هامشها. لم يُرغمنا القدر على هذا العيش (مثلما أرغم أبي!). نحن ارتضينا لأنفسنا ما نحن عليه. تركنا المجرمين يسيِّرون أمورنا، كيفما شاؤوا. تركناهم يضبطون إيقاع وجودنا في هذه الحياة. و”مَن يقدّم ظهره للغدّارين، لا ينبغي له الشكوى من الضربات التي يتلقّاها منهم”، يقول مثلٌ روسي.

كلمة أخيرة. في مثل هذه الأيّام بالضبط سنة 2012، رحل أبي آخذاً معه قطعة من روحي. ولو إنّ ميلاده صادف في مثل هذه الأيّام بالضبط، لما استطاع جدّي إنقاذه أيضاً! لم يكن ليجد مستشفى يستقبله. هو التاريخ الذي يعيد نفسه في بلادنا. نكايةً بمعظم المفكّرين وعلماء الاجتماع في العالم. أي، أولئك الذين يؤمنون، بأنّ لكلّ حقبةٍ من الزمن أحداثها المتجدّدة. لكنّنا، في بلاد الأرز الذابل، لنا مع التاريخ شأنٌ آخر. نعيده مرّةً ومرّات. نجمّده إذا أردنا. نلغيه من أساسه!

نحن “يوسف” يا أبي يوسف. حُكّامنا لا يريدوننا بينهم. يعتدون علينا. يرموننا بالأوجاع والعذابات. يريدوننا أن نموت، لكي يمدحوا تضحيتهم بنا. هم أوصدوا أبواب الحياة دوننا. سمّموا عِنَبنا يا أبي. حطّموا لُعَب أطفالنا. غاروا وثاروا علينا. فماذا صنعنا لهم يا أبي؟ ماذا اقترفنا لكي نستحقّ هذا المصير؟

يا أبي، إقتضى ألاّ أختم هذه السطور إلاّ بتمنّي أن تأخذني إلى دنياك. كم أشتااااااااااق إليك.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المتراس الأوكراني.. حرب رأسماليتين وإصبعين وتاريخين!