كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها وسام في موعد خاص مع بداية معرفتي به التي انطلقت لتوها. سابقاً، لم أكن أعرفه إلا من خلال قلمه الرشيق الحر في “السفير” ومن تهديدات الرفيق محمود مروة بأنني بحاجة إلى وسام “لكي أتعلم الانضباط” يوم كنا “عساكر حالمين” في “الأخبار”. ثم دارت الأيام لأكون زميله في “الأخبار”، وتنطلق مرحلة من عمري، كان هو من أجمل ما لقيته فيها.
في تلك الرحلة ـ قبل أربع سنوات ـ لم يكن قد مضى عليَّ في موسكو سوى أشهر أحاول خلالها أن ألحق بمدينة “إن لم تدركها سحقتك”، وأجتهد لأتعلم لغتها وسلوكها ودهاليزها. وسام أخذ بيدي في ذلك اليوم وفتح عيوني على تفاصيل فاجأني بإدراكه لها.
كانت زيارته الأولى إلى موسكو ضمن سياق دراسة اللغة الروسية. في ذلك اليوم تناولت للمرة الأولى الشوربا الروسية الشهيرة “البورش” مع شرح مفصل عنها من وسام، العارف بأسرار المطبخ الروسي بكل تفرعاته القومية. وعلى سيرة “الأكل”، اختبرت المطبخ الجورجي للمرة الأولى برفقته، وإذ به يباغتني بفكرة: “رفيق لنعتزل الصحافة ونفتح محل جورجي ببيروت”.
إدراكه تفاصيل مدينة موسكو العظيمة المتيّم بها كان من السهل على المرء ملاحظته. معه، وبشهادة كل من رافقه في مشوار، يمكن لأي زائر إلى موسكو أن يعرف المدينة من دون تعب: تاريخها، معالمها، لكن حذار أن تسأله عن أي أمر يختص بالأدب والأدباء، لأن “النكتة” ستكون حاضرة لتفقدك الرصانة لدقائق.. اسألوا صديقته الزميلة رانيا الجعبري.
ليس مبالغاً القول إنه حفظ موسكو بكل شوارعها ومبانيها التاريخية وحدائقها ومتاحفها. كان ينقص ذلك أن يحيا فيها دائماً وهو المسكون بها. “كان يلتهم موسكو بعينيه وبعدسته”، تقول ريما ميتا.
كثيرة مفاجآت وسام التي يباغتك بها في موسكو. مشاريعه لنقل روسيا إلى عالمنا العربي كثيرة. صفنة على فنجان قهوة كفيلة بأن يخرج بمشروعه الجميل موقع “المسكوبية” مع شرح مفصل ووافٍ لسبب اختيار الإسم.
أحلامه لم تقف هنا. يحدثك عن مشروع “مجنون” لتجسيد خريطة مترو موسكو ومسارها تحت الأرض، عبر رسم جغرافية المسار فوق الأرض. هل قلت فكرة مجنونة؟ وحده وسام “مجنون” يفعلها، ولأول مرة يمنعه شيء تافه كالموت عن أمر يريده.
مشروع مجنون آخر شاركني مرة فكرته ورانيا كل على حدة: “سأربط حاضر موسكو بماضيها”. جملة بسيطة مكثفة، كعادته، تحيلك إلى التفكير: أي “جنون قادم”؟ أيام وتكون الفكرة حاضرة، فيعيد وسام محاكاة أحداث تاريخية غيرت روسيا، كدخول لينين إلى الساحة الحمراء، عبر دمج الماضي بصور حديثة من زوايا الحدث الأساسي نفسه، وطبعاً بعينيه الزرقاوين الجميلتين.
أن تكون شيوعياً لا يعني أن تكون حافظاً لروسيا، لكن هذا الأمر ليس مع وسام وهو الاستثناء كما عادته في كل شيء.. واسألوا القاهرة عن ذلك.
“رفيق، جاييك في آب”، كانت تلك آخر جملة منك في اتصالنا الأخير قبل أيام. وإلى أن نلتقي، سأنتظرك في شارع “الأربات”.
المادة عندك رفيق.