قبل سنة من الآن، شهدت منطقة خلدة نفسها إشتباكاً عشائرياً أمكن محاصرته، لكن الجمر بقي تحت الرماد. جرحٌ بقي مفتوحاً قبل أن يتجدد النزيف مع إقدام أحد أقارب القتيل حسن غصن من عشائر عرب خلدة على الإنتقام لمقتل الأخير بإطلاق النار ليل السبت ـ الأحد الماضي على المدعو علي شبلي، في حادثة وضعتها العشائر العربية في خلدة في خانة “القتل عيناً بعين” (الثأر)، لكن سرعان ما إتخذ الأمر أبعاداً خطيرة في ساعات هذا النهار (الأحد) في ضوء ما رافق تشييع شبلي من إطلاق نار أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وجرح عدد آخر، بينهم أحد عناصر الجيش اللبناني.
وعلى جاري عادة السوشيل ميديا، فاضت المنصات بالفيديوهات والمعلومات.. وصولاً إلى تحذير البعض من إطلالة شبح الحرب الأهلية اللبنانية من خلدة هذه المرة وليس من عين الرمانة كما حصل في العام 1975. هل من أبعاد سياسية لما حصل؟
من الواضح أن حزب الله هو أكبر المحرجين في ما يجري عند مدخل العاصمة الجنوبي، ذلك أنه يحرص منذ العام 2006 على مداراة الخط الساحلي الممتد من خلدة حتى مدينة صيدا بترتيبات سياسية ـ أمنية تحول دون قطع هذا الشريان الحيوي الإستراتيجي لأي سبب من الأسباب. ومن يستعيد الشريط الممتد من 7 أيار/مايو 2008 حتى يومنا هذا، مروراً بظاهرة الشيخ أحمد الأسير، يُدرِك أن للخط الساحلي خصوصيته وحساسيته، لكن الأهم أنه يتغذى من التوترات السياسية والإجتماعية، بدليل ما حصل غداة 17 تشرين الأول/أكتوبر من قطع للطرق ومنها مدخل العاصمة في خلدة وفي منطقة الجية ـ برجا قرب مدينة صيدا. ويمكن القول إنه منذ تأليف حكومة تمام سلام في العام 2014 وإنعقاد جولات الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل في عين التينة، برعاية رئيس المجلس النيابي، أمكن تبريد الفالق السني الشيعي الذي إنفتح على مصراعيه غداة إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، وبالتالي، هذه هي المرة الأولى الذي يتجدد فيها إشتعال هذا الفالق، منذ أن إعتمد تيار المستقبل سياسة ربط النزاع مع حزب الله منذ أكثر من سبع سنوات.
لماذا حزب الله هو الأكثر إحراجاً؟
لأنه لا يريد تجدد الفتنة السنية الشيعية بأي شكل من الأشكال، وبالتالي كان يحاول إقناع مناصريه من آل شبلي في منطقة خلدة بترك المنطقة والإنتقال إلى حيث يشاؤون من أجل إقفال هذا الجرح ومنع المصطادين في مياه الفتنة من إعادة توتير الأجواء كما حصل في الساعات الأخيرة.
لكن أما وأن الثأر قد حصل بإستهداف علي شبلي، كان بمقدور حزب الله الضغط على مناصريه للحيلولة دون رد ثأري يمنع تفاقم الوضع، غير أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، إذ أن لحظة تشييع شبلي، تحوّلت إلى مقتلة لآخرين محسوبين على حزب الله، كما هو حال علي شبلي، وبالتالي، صار الحزب محرجاً أمام جمهوره، فهل يعض على الجرح وهل يمكن أن يستدرج ذلك آخرين (في المنطقة نفسها أو غيرها) للإستقواء على حزب الله وكسر هيبته وصورته أمام عموم اللبنانيين ولا سيما أمام جمهوره؟ وماذا إذا قرر الحزب أن يذهب إلى حدود “ميني 7 أيار/ مايو” وهل يمكن أن يتحمل تداعيات الفتنة السنية ـ الشيعية إذا فتحت على مصراعيها؟
لجأت قيادة حزب الله إلى خيار ثالث تمثل في مطالبتها الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية بالتدخل الحاسم لفرض الأمن والعمل السريع لإيقاف القتلة وإعتقالهم تمهيداً لتقديمهم إلى المحاكمة. بهذا الموقف أراد حزب الله الذي قال إن قيادته تتابع الوضع “بإهتمام كبير ودقة عالية”، منع إمتداد النار من خلدة إلى مناطق أخرى، بعدما إستشعر أن هناك من يريد تعميم حالة خلدة إلى مناطق لبنانية أخرى.. وصولاً إلى إعادة الإستثمار في مشهد الفتنة السنية ـ الشيعية.
لذلك، بدت الأنظار مشدودة إلى كيفية تعامل حزب الله مع الموقف، فهذه ليست لحظة إحتجاج من وحي الواقع الإجتماعي (إحتجاج على قطع كهرباء أو مياه أو تردي خدمات أو إرتفاع أسعار)، بل هي لحظة سياسية ـ أمنية لا يستطيع الجيش اللبناني ولا غيره من القوى الأمنية إدارة الظهر لها، وهذا ما أثبتته تطورات الساعات الأخيرة، حيث بدأ الجيش بإحكام الطوق في منطقة الإشتباكات وإعتقال بعض المشتبه فيهم، غير أن القاصي والداني في لبنان يعلم أن هذه البؤرة التي شهدت هذا الإشتباك العشائري، تكاد تكون البؤرة الأكثر “إزدهاراً” بحجم حضور الأجهزة الأمنية والحالات الأمنية فيها (من كل حدب وصوب)، وبالتالي، هل يعقل أن أحداً لم يتنبأ بهذا الكمين، بما في ذلك حزب الله ومخابرات الجيش اللبناني وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي؟
وإذا كان حزب الله مطالب أحياناً بمغادرة منطق التعامل الأمني مع بيئات لبنانية معينة، فإن ذلك يسري أيضاً على قوى أخرى أبرزها تيار المستقبل، حيث كان لافتاً للإنتباه في السنتين الماضيتين محاولة بعض رموزه المستجدة “الإستثمار” في بيئات إجتماعية معينة كالمخيمات الفلسطينية والعشائر العربية، في خطوة إستفزت بعض الأوساط العاقلة داخل هذا التيار نفسه، من دون إغفال إحتمال حضور بعض السفارات الخليجية في هذه البيئات على قاعدة مصلحتها في إرباك حزب الله و”إشغاله”.
وهذا الأمر يستوجب مصارحة سعد الحريري مباشرة. ليس خافياً أن نجاح نجيب ميقاتي في تأليف حكومة جديدة بأفضل الشروط التي كان يسعى إليها الحريري نفسه، يضع الأخير في دائرة الشبهة سياسياً: هل هو صاحب مصلحة في ما يجري على الأرض؟ هل المطلوب إضعاف ميقاتي ومحاصرته وتوصيل رسالة بالنار إليه عما يمكن أن ينتظره إذا تنازل عن سقف نادي رؤساء الحكومات وتحديداً عن السقف الذي وضعه الحريري للتأليف؟
إن تعامل الحريري بجدية مع حادثة خلدة وصولاً إلى رفع الغطاء عن كل المرتكبين، من شأنه أن يرسخ صورة الإعتدال التي يحاول رئيس تيار المستقبل أن يضفيها على نفسه وعلى تياره. صحيح أن الإنتخابات النيابية على الأبواب وثمة من يعمل بصورة حثيثة لشد عصب جمهوره، إلى حد أننا سنشهد تصاعد منطق الفيدراليات اللبنانية الطوائفية والسياسية في الأشهر المقبلة، بصورة غير مسبوقة منذ إنتهاء الحرب الأهلية في العام 1990، لكن ثمة تقديرات بأن الحريري يريد من جهة المضي في سياسة “ربط النزاع” مع “الثنائي الشيعي” ومن جهة ثانية شد عصب جمهوره ضد حليفه المسيحي السابق رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وضد شريكه السابق في التسوية الرئاسية رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل!
هل هناك علاقة بين مشهدية الأول من آب/أغسطس وما يجري رسمه من مشهديات للرابع من آب/أغسطس المقبل؟
في السياسة، لا يمكن إستبعاد شيء. ربما هناك محاولة للتخويف أو أن النتائج نفسها ستؤدي الغرض ذاته. لكن في كل الأحوال، ليس بأدوات الـ”إن جي أوز” وأموالها يجري التحشيد.. وحرام هذه المتاجرة بدماء الناس من قتلى وجرحى ومهجرين ومدمرين نفسياً. للبنان رب يحميه، لكن حتماً ليست فئة السياسيين تجار الدم ولا ما تسمى بعض منظمات المجتمع المدني التي صار جُلّ همها “الفوترة” بالعملة الصعبة، في لحظة قرر فيها ما يسمى “المجتمع الدولي” الإستثمار مجدداً بطريقة هوجاء وعشوائية.. تماماً كما قرر إيمانويل ماكرون الإستثمار بالطبقة السياسية غداة إنفجار مرفأ بيروت!
حتى الآن، يمكن القول أن لا خوف على السلم الأهلي في لبنان. لا القوة القادرة على خوضها ترغب بذلك كلياً ولا القوى الراغبة وغير القادرة تملك ترف التجريب وهنا المقصود قوة وحيدة بعينها (بالمعلومات لا بالتحليل).. وللبحث صلة.