غداة أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 ومن ثم إجتياح أفغانستان في السنة نفسها، لم يتمكن زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن من استئناف الاتصال بقادة الصف الثاني في “القاعدة” وذلك حتى العام 2004.
كان بن لادن حريصاً على إطلاق حملة جديدة للإرهاب الدولي. ففي إحدى رسائله الأولى بعد إعادة الاتصال معه، زعيم تنظيم “القاعدة”، وبشكل منهجي، “خططاً لتنفيذ عمليات استشهادية شبيهة بهجمات11 أيلول (سبتمبر) في نيويورك”.. وإذا ثبت أن ذلك بات صعباً للغاية، فقد كانت لديه خططه البديلة من خلال إستهداف خطوط السكك الحديدية!
وسُرعان ما وضَّح له رفاقه حقيقة الوضع وأعادوه إلى نصابه: لقد أصيبت “القاعدة” بالشلل، وكانت مثل هذه العمليات (التي كان بن لادن يخطط لها) غير واردة. في أيلول (سبتمبر) 2004، كتب زعيم من الصف الثاني، يُعرف باسم “توفيق” رسالة إلى بن لادن يصف فيها صعوبة الأمور في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان مباشرة. وقال له: “كانت آلامنا ومتاعبنا تفطر القلوب. وكان الضعف والفشل والافتقار إلى الهدف الذي حلَّ بنا مروّعا”. وأعرب عن أسفه لأن “غياب بن لادن وعدم قدرته على تجربة واقعهم المؤلم” قد غذَّى الاضطراب بحدّ ذاته. وقال: “نحن المسلمون تعرضنا للتدنيس، وتمزقت دولتنا. وإحتُلت أراضينا. لقد تم نهب مواردنا. هذا ما حدث للجهاديين بشكل عام، ولنا في تنظيم القاعدة بشكل خاص”.
وأوضح زعيم آخر من الصف الثاني، يُدعى “خالد الحبيب”، في رسالة إلى بن لادن أنه خلال غيابه الذي دام ثلاث سنوات (2001ـ 2004)، كانت “إنجازاتنا في ميدان المعركة ضئيلة للغاية”. وقد أحصى ما مجموعه “ثلاث عمليات متواضعة للغاية، معظمها [بالصواريخ]، ومن مسافات بعيدة”. وأخبر مراسل آخر بن لادن أن “العمل الخارجي” للقاعدة (الهجمات في الخارج) قد “توقف” بسبب الضغط المستمر الذي تمارسه باكستان على الجهاديين. كما لو أن هذا لم يكن سيئاً بما فيه الكفاية، فقد علم بن لادن أن “القاعدة” قد تم بيعها من قبل معظم المتعاطفين السابقين مع الأفغان وطالبان. واشتكى “حبيب” قائلاً: “90 في المائة منهم تم إغراؤهم بالدولار اللامع”.
علم بن لادن أن “القاعدة” قد تم بيعها من قبل معظم المتعاطفين السابقين مع الأفغان وطالبان. واشتكى “حبيب” قائلاً: “90 في المائة منهم تم إغراؤهم بالدولار اللامع”
شريان الحياة للقاعدة
بعد أن أطاح التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بطالبان من السلطة في أفغانستان عام 2001، كانت المرحلة التالية من حرب جورج بوش الإبن على الإرهاب هي غزو العراق عام 2003، البلد الذي يحكمه طاغية علماني اسمه صدام حسين، والذي كان يكّن للجهاديين كل العداء. وضع الغزو الذي قادته الولايات المتحدة نهاية سريعة لحكم صدام الوحشي، لكنه أدى أيضاً إلى حلّ الجيش العراقي وتفريغ المؤسسات الحكومية العلمانية الأخرى. في البداية، حمل السُنة العرب، الأقلية التي هيمنت على العراق في عهد صدام، نصيب الأسد من العنف الطائفي الذي أعقب الغزو الأميركي. وقد ثبت أن هذا كان شريان الحياة لتنظيم “القاعدة” والجماعات الجهادية الأخرى، التي تمكنت من وضع نفسها كـ”مدافعة” عن السُنة. وكما قال “حبيب” في رسالته إلى بن لادن عام 2004: “عندما علم الله ببلائنا وعجزنا، فتح لنا باب الجهاد والأمة بأكملها في العراق”.
كان “حبيب” يشير على وجه التحديد إلى صعود أبو مصعب الزرقاوي، الجهادي الأردني الذي برز في أعقاب الغزو الأميركي للعراق. ومع حلول عام 2004، كان الزرقاوي، وليس بن لادن، زعيم أقوى جماعة جهادية في العالم. وبصرف النظر عن التزامهما المشترك بالجهاد العنيف، لم يكن هناك سوى القليل من القواسم المشتركة بين الرجلين. تمتع بن لادن بنشأة مميزة (عائلة ثرية)، بينما نشأ الزرقاوي فقيراً، وقضى بعض الوقت في السجن، ولم يبرز كمتطرف ديني فحسب، بل ظهر أيضاً كمُدان سابق، متشدد، وبلطجي. وعلى الرغم من الهوة الشاسعة بين الرجلين، كان الزرقاوي حريصاً على اندماج جماعته، “جماعة التوحيد والجهاد” مع “القاعدة”.
وفي سلسلة من الرسائل إلى بن لادن، أوضح الزرقاوي أن أتباعه هم “أبناء الأب” – أي بن لادن – وأن مجموعته كانت مجرد “فرع من الأصل”. كما أكد الزرقاوي لقادة “القاعدة” أنه “متعاون”.. وأنه يسعى إلى توحيد كل الفصائل الجهادية في العراق.
حماسة الزرقاوي أسعدت قلب بن لادن. وكتب الأخير إلى نائبه ايمن الظواهري وتوفيق (أحد رجالات الصف الثاني في التنظيم) يقول “إن اندماج جماعة التوحيد والجهاد مع القاعدة سيكون انجازاً هائلاً”. وحثهما على “إيلاء هذا الأمر اهتماماً كبيراً”، لأنه “يشكل خطوة كبيرة على طريق توحيد جهود الجهاديين”. في كانون الأول (ديسمبر) 2004، أضفى بن لادن الطابع الرسمي على “الاندماج” من خلال تعيين الزرقاوي زعيماً لمجموعة جديدة: “القاعدة في بلاد ما بين النهرين”، (يُشار إليها غالباً في وسائل الإعلام الغربية باسم “القاعدة في العراق”).
مبادرة الزرقاوي دفعت في نهاية المطاف الجماعات الجهادية في الصومال واليمن وشمال أفريقيا للانضمام رسمياً إلى “القاعدة”. لم تنبثق هذه المجموعات من التنظيم الأصلي بشكل مباشر، لكن قادتها رأوا فوائد عديدة في اكتساب العلامة التجارية لـ”القاعدة” الني يُحسب حسابها دولياً، لا سيما فرصة تحسين مكانتهم في أعين أتباعهم وكسب اهتمام وسائل الإعلام الدولية، وهو ما كانوا يأملون فيه. ستساعدهم في جمع الأموال وتجنيد أتباع جدد.
هكذا، وعلى الرغم من تحطم تنظيم “القاعدة”، إلا أن علامته التجارية استمرت من خلال أفعال الجماعات التي عملت باسمه. كل هذا جاء من تحالف الزرقاوي مع بن لادن.
في أوائل عام 2007، وجه رجل الدين الجهادي السعودي بشر البشر رسالة إلى أحد كبار قادة “القاعدة” يصف فيها “الاندماج” بأنه مثال على أن الله “أبدى رحمته للقاعدة، والتي كانت ستنتهي لولا ذلك. الاندماج كان من أجل الانتصارات الجهادية المذهلة في العراق، والتي رفعت قيمة مخزون القاعدة. لقد كان تدخلاً إلهياً”، حسب تقييم البشر.
أراد بن لادن أن تتصدر “القاعدة” عناوين الصحف بقتل وجرح أميركيين، وليس مدنيين عراقيين، حتى لو كانوا شيعة، وهم الذين يعتبرهم الجهاديون السُنَّة “زنادقة”
الأشياء تتداعى
وكان بن لادن قد افترض أن أولئك الذين تعهدوا بالولاء له سيتابعون ذلك النوع من الهجمات ضد الولايات المتحدة التي كانت “القاعدة” رائدة فيها. وأعرب عن أمله في أن يؤدي نجاحهم إلى “رفع معنويات المسلمين، الذين سيصبحون بدورهم أكثر انخراطاً ودعماً للجهاديين”، على حدّ تعبيره في رسالة وجهها إلى الظواهري و”توفيق” في كانون الأول (ديسمبر) 2004.
مرة أخرى، أخطأ أسامة بن لادن في التقدير. إن قرار منح تصريح “القاعدة” للجماعات التي لم يسيطر عليها سرعان ما أدى إلى نتائج عكسية. فشل الزرقاوي في توحيد الجماعات الجهادية العراقية تحت رايته، ورفضت جماعة “أنصار السُنة” (المعروفة أيضاً باسم “أنصار الإسلام”) الاندماج معه. لم يمض وقت طويل حتى وجد بن لادن وأتباعه أنفسهم في الطرف المتلقي للرسائل التي تؤرخ الخلافات بين رفاقهم الجُدّد. واشتكى الزرقاوي في إحداها غاضباً: “أنصار السُنة ينشرون الأكاذيب عني”. ويقولون إنني أصبحت مثل [عنتر] الزوابيري (زعيم جماعة جزائرية متطرفة مشهورة قُتل في عام 2002 وكان العديد من الجهاديين يعتبرونه مفرطاً في الحماسة). هل يمكنك أن تتخيل”؟
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لتنظيم “القاعدة” من أنين الزرقاوي العبثي هو الهجمات العشوائية التي شنتها مجموعته، والتي أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة في العراق، وخاصة بين المدنيين الشيعة. لقد أراد بن لادن أن تتصدر “القاعدة” عناوين الصحف بقتل وجرح أميركيين، وليس مدنيين عراقيين، حتى لو كانوا شيعة، وهم الذين يعتبرهم الجهاديون السُنَّة “زنادقة”.
من مخابئهم في باكستان والمناطق القبلية، كافح قادة “القاعدة” من أجل توحيد الجماعات المسلحة في العراق التي أصبحت في قلب “الجهاد العالمي”. لكن الانقسامات بينهم أصبحت أكثر رسوخاً. وحاول الظواهري التوسط بين الزرقاوي و”أنصار السُنة”، لكن جهوده باءت بالفشل. وأوضح “أنصار السُنة” لتنظيم “القاعدة” أن الوحدة مع الزرقاوي مشروطة بـ”تصحيح أساليب القاعدة في بلاد الرافدين”. عطية عبد الرحمن (يشار إليه عموماُ باسم عطية)، الذي أشرف على الاتصالات والعلاقات الخارجية لـ”القاعدة” في ذلك الوقت، ازداد استياءه من قيادة الزرقاوي، وكتب إلى بن لادن يقول: “لا يمكننا أن نترك الأخ يتصرف على أساس أحكامه وحده فقط”. وفي رسالة مؤرخة في كانون الأول (ديسمبر) 2005 اعترضتها المخابرات الأميركية، حثَّ عطية الزرقاوي على “تقليل عدد الهجمات، وحتى خفض الهجمات اليومية إلى النصف، أو حتى أقل”، مشيراً إلى أن “أهم شيء هو استمرار الجهاد، والحرب الطويلة لصالحنا”.
بعد مقتل الزرقاوي في غارة جوية أميركية في عام 2006 سارت الأمور من سيء إلى أسوأ بالنسبة لتنظيم “القاعدة”. أعلن خلفاؤه أنفسهم على أنهم “الدولة الإسلامية في العراق” دون استشارة بن لادن أو الظواهري أو أي من كبار الشخصيات في “القاعدة”. وفي عام 2007، توقف قادة “الدولة الإسلامية” عن الرد على رسائل “القاعدة” تماماً، وهو صمت يعكس جزئياً حقيقة أن الجهاديين العراقيين قد بدأوا يفقدون قوتهم أمام ما أصبح يُعرف باسم “الصحوة السُنية”، والتي شهدت قيام القوات الأميركية بتشكيل علاقات مع شيوخ العشائر السُنية (في العراق) من أجل مواجهة الإرهابيين.
شعر بن لادن بالاستياء والفزع في آن من أن “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” تعتبر نفسها جماعة جهادية، ناهيك عن كونها تابعة لـ”القاعدة”
البقاء على الهامش
لم تقتصر صراعات تنظيم “القاعدة” على إدارة الوضع في العراق. ففي عام 2009، أطلقت مجموعة من الجهاديين في اليمن على نفسها اسم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” من دون تنبيه المجموعة الأم أو حتى إعلان الولاء علناً لابن لادن. في عام 2009 أو ما يقرب من ذلك التاريخ، اعترف زعيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية، المدعو “قاسم الريمي” في رسالة إلى قيادة “القاعدة” بأنه يعاني هو وكبار أعضاء التنظيم الآخرين من قلة الخبرة و”أوجه القصور في ما يتعلق بالقيادة والإدارة”. وأقرَّ بأنه هو نفسه غير مؤهل “للحكم على متى وكيف وأين يضرب”. لكن قلَّة الخبرة لم تمنع زعيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية، ناصر الوحيشي، من الإعلان في عام 2010 عن رغبته في إعلان دولة إسلامية في اليمن. لقد تطلب الأمر قدراً كبيراً من البراعة من جانب كبار قادة “القاعدة” لثنيه عن ذلك.
من جانبه، شعر أسامة بن لادن بالاستياء والفزع في آن من أن “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” تعتبر نفسها جماعة جهادية، ناهيك عن كونها تابعة لـ”القاعدة”. وسأل بن لادن في مسودّة رسالة وجهها إلى الوحيشي: “هل خططت بالفعل واصبحت مستعداً للجهاد؟ أم أن وجودكم هو نتيجة بعض الهجمات الحكومية التي ردَّ عليها الإخوة؟ وفي خضم هذه المعركة التفاعلية، هل خطر ببالك أنه يجب عليك الاستمرار؟”. بالمقابل، تُظهر رسائل الوحيشي إلى بن لادن أنه منزعج من التوجيهات التي أعطته إياها القيادة. وبرغم تراجع الوحيشي عن إعلان الدولة الإسلامية، إلا أنه تحدى تعليمات كبار قادة “القاعدة” بالامتناع عن الهجمات الطائفية التي تستهدف الحوثيين في اليمن وكبح المواجهات العسكرية مع الحكومة اليمنية.
بالنسبة إلى بن لادن، كانت المجموعة الشمالية الإفريقية، “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، الأقل إشكالية بين الجماعات الجديدة المنبثقة عن “القاعدة”. وعلى عكس المجموعات الأخرى، لم ترغب مجموعة شمال إفريقيا في إعلان “دولة” وركزت بدلاً من ذلك على أخذ الغربيين كرهائن للحصول على فدية أو لتحرير جهاديين تحتجزهم الحكومات الغربية كسجناء. واستشف بن لادن قدرة هذا التكتيك على التأثير على الجماهير الغربية، وبدا أنه يقدر النهج البراغماتي لزعيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” أبو مصعب عبد الودود. ومع ذلك، ونظراً لأن بن لادن لم يتمكن من التواصل مع “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” في الوقت المناسب (لأن اتصالاته كانت تعتمد على الجدول الزمني لساعي البريد)، فقد وصلت تدخلاته في كثير من الأحيان بعد فوات الأوان، وفي بعض الأحيان كانت تأتي بنتائج عكسية. ففي مناسبة واحدة على الأقل، انهارت المفاوضات حول إطلاق سراح الرهائن الغربيين التي كان من الممكن أن تفيد “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” بسبب تدخل بن لادن.
خلص بن لادن إلى أن الجيل الجديد من الجهاديين ضل طريقه
بحلول العام 2009، سئم معظم كبار قادة “القاعدة” من الجماعات التابعة لهم. في ذلك العام، بالكاد ابتهج بن لادن عندما سعى مختار أبو الزبير، زعيم “جماعة الشباب الجهادية” الصومالية، إلى الاندماج العلني مع “القاعدة”. الزبير أراد أيضاً إعلان “دولة إسلامية”. ففي رسالة إلى الزبير، أوضح عطية بدقة أنه سيكون من الأفضل “الحفاظ على سرّية ولائك للشيخ أسامة”. من جانبه، رفض بن لادن الاندماج العام. واقترح تقليص حجم الزبير من “دولة” إلى “إمارة”، والقيام بذلك بهدوء. وكتب يقول: “ميولنا أن تكون إمارتكم حقيقة يتعلّق بها الناس دون الحاجة إلى إعلانها”. امتثل الزبير لرغباتهم، لكن ردَّه يُظهر أنه كان مضطرباً. فقد أشار بحق إلى أنه وجماعته “اعتبرهم أعداؤنا وأصدقاؤنا بالفعل جزءاً من القاعدة”. بعد سنوات قليلة، اعترف ايمن الظواهري، الذي خلف بن لادن بعد وفاته، بـ”حركة الشباب في القاعدة” (الصومال).
خلال السنة الأخيرة من حياته، أعرب بن لادن عن أسفه لأن “إخوته” أصبحوا “عبئاً” على الجهاد العالمي. وأعرب عن أسفه لأن بعض هجماتهم كانت توقع إصابات مدنية “لا داعي لها”. والأسوأ من ذلك، أن “الجمهور المسلم صُدم” بمثل هذه الهجمات. وخلص إلى أن الجيل الجديد من الجهاديين ضلَّ طريقه.
(*) الترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز” عدد أيلول/ تشرين الأول.