الأبعاد النفسيّة-الروحيّة للتّغيير والثّورة.. “الجهاد الأصغر” و”الجهاد الأكبر”

"بالأمس كنتُ ذكيّا، فأردتُ أن أغيّر العالم. اليوم أنا حكيمٌ، ولذلك سأغيّر نفسي".

عندما قرأت للمرة الأولى هذه الحكمة الشهيرة المنسوبة إلى جلال الدين الرومي (توفي عام ١٢٧٣ ميلادي)، المعروف بـ”مولانا” أو بـ”سلطان العاشقين”، وهو الحكيم والشاعر والمتصوف الكوني الصيت.. أدركت على الفور أنها لا تعني أمراً عابراً. بل هي تشير، بلا شك، إلى سرّ من أسرار النفس الإنسانية العميقة، وإلى سرّ من أسرار الوجود ككل. لكن ما هو هذا السرّ؟ ماذا يقصد صاحب “المثنوي” و”كتاب فيهِ ما فيهِ”؟ هل يتوجّب علينا أن نتخلّى عن السعي إلى تغيير الواقع الخارجي، بخلاف ظاهر ما نقل عن سيَر الأنبياء والرسل والأولياء والحكماء من أغلب الثقافات والحقب؟ أم أنّ القضية أعمق، وتدلّ بالتالي على طريق من الطرق الأنجح للوصول إلى التغيير الحقيقي والجوهري؟ ما سرّ هذه القضية التي يمكن ملاحظة هيمنتها القوية نسبيا ضمن الفكر الشرقي لا سيما منه الهندوسي، عداك عن هيمنتها في إطار الجماعات الصوفية (بمعنى “الميسطيقية” Mystiques) حول العالم؟

مع الوقت، ومن خلال التجربة الشخصية أولاً (ومنها “التذوّق الرّوحي” كما يعبّر عنه بعض العرفاء)، ثم من خلال التفكّر في المفاهيم، توصّلتُ إلى هيكل وجودي-سلوكي عام يمكن بناؤه انطلاقا من هذه الحكمة الكونيّة، والتي “كُشفت” لكثير من الحكماء من كل الثقافات والأديان والعصور. وتأخذ هذه المناقشة طابعا عمليّا ملحّاً، لا شكّ فيه عندي، في ظلّ الأحداث الراهنة في العالم العربي ككل، وفي لبنان على وجه الخصوص، لا سيما مع الجدل القائم حول التغيير والثورة وما إلى ذلك من مصطلحات غدت في قلب حياتنا اليومية.

لنسافر معاً، إذن، بين الفرضيات الأساسية التي يمكن استخراجها من هذه الحكمة، لنصل بالتدريج إلى الهيكل المذكور، والذي يشكّل ثورة حقيقية (و”عجيبة”) على مفاهيمنا الكلاسيكية كما سنرى.. والأهم، أنه يعكس قناعة راسخة لدى عدد لا يستهان به من حكماء وعرفاء هذه الأرض وهذه الإنسانية.

لماذا ينبغي أن يكون موقف الحكيم هو أن يغيّر نفسه بدلَ أن يسعى إلى تغيير العالم (“الخارجي”)؟

في البداية، ينبغي التذكير بأنّ مدرسة الرومي تؤمن بتفوق الحكمة الحدْسية (بمعنى: الكشفية والقلبية) على العقل المفكّر، وهي فكرة أبستيمولوجية في قلب الحكمة الصوفية الهندوسية مثلاً، وخصوصاً، في قلب المدرسة الأفلاطونية المحدثة، وفي قلب الفلسفة العرفانية-الصوفية الإسلامية الممتدة من بغداد القرن التاسع الميلادي تقريبا، إلى أبي حامد الغزالي، إلى “شيخ الإشراق” شهاب الدين السهروردي (توفي صوب ١١٩١ ميلادي)، صاحب شعار أنّ “الصّباح خير من المصباح”. أي أنّ إشراق الحقيقة على القلب الصافي والطاهر (كالمرآة)، هو خيرٌ من ظهوره على العقل المفكّر المحدود. لذلك، فإنّ عبارة جلال الدين الرومي، تتضمن هذا المعنى: كنت في البداية على موجة ذكاء سفليّة (وهي موجة التفكّر أو العقل المفكّر أو الذهن كما يسميه حكماء الهندوس).. ثم انتقلتُ إلى موجة أعلى وأصدق إنباء: وهي موجة الحكمة المشرقة من خلال الكشف القلبي. وهذه الأخيرة هي التي أوصلتني إلى قناعة أنّي: “اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي”!. وهذه نقطة مهمّة في سبيل فهم مضامين هذه الحكمة العظيمة، وهي، أي هذه النقطة عن الكشف في مقابل التفكّر، هي أيضا في قلب طرح الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الأندلسي (صاحب لقب “الكبريت الأحمر”؛ ت. ١٢٤٠ م) الذي وصل إلى أن يتجرأ على كتابة: “كل تفكّر لا يعوّل عليه”! (راجع “كتاب الذي لا يعوّل عليه”).

التفكير الفرداني لا يلقى ترحيباً من قبل المدارس اليسارية عموماً، لا سيما منها الماركسية والتي يمكن أن تتهم الرومي – بالمناسبة – بالتآمر، المقصود أو غير المقصود، مع الأقلية الرأسمالية

فرضيّات تشاؤميّة وقدَريّة وأنانيّة وفردانيّة

الفرضيّة الأولى التي يمكن استقراؤها (بالتفكّر طبعا؛ لأننا، إذ نكتب مقالا، لا نزال في هذا العالم..)، هي أنّ تغيير الواقع الخارجي من خلال الجهد الفردي مستحيل (أو شبه مستحيل). وهذه فرضية موجودة في كثير من الأوساط التشاؤمية والجبرية، وفي المدارس الفلسفية التي تنفي الخيار والإرادة الفرديين و/أو تأثيرهما، ومنها فيلسوف غربي معاصر هو Sam Harris  الذي يذهب بعيدا في نفي الـFree Will أي “الإرادة الحرّة” من أصلها. لكنّ هذه الفرضية لا يمكن أن تكون فرضيّة رجال كالرّومي وابن عربي وغيرهم، والذين يعطون للإنسان مقام المظهر الأتم لتجلّي الصفات الإلهية، ومن هذه الصفات الإرادة والقدرة، عداك عن نظرتهم المتفائلة في جوهرها. كما لا يمكن للفرضية “الأنانيّة” أن تُقبل عندهم، وهم أهل الحبّ المطلق وأهل الصراع ضد “الإنّيّة” (Ego) و”الأنانيّة” (Egoisme)، إلى حد الشطح في أقوال كأقوال البسطامي والحلاج المفترضة (“سبحاني”، “أنا الحق”، “ما في الجبّة إلا الله”)، وهي جميعها تدلّ على نفي الأنا أو ذوبانها في بحر الواحديّة والأحديّة (“بيني وبينك – إنّي – تزاحمني، فانزع بأنّك – إنّي – من البينِ” على حد قول الحلاج). الفرضية الأنانية، وهي موجودة في كثير من كتابات الليبراليين البريطانيين والأمريكيين مثلا، لا مكان لها طبعا في هكذا مدرسة صوفيّة عشقيّة كونيّة واحديّة.

وهناك أيضا فرضية “فردانيّة” ولكنها أكثر قربا إلى الإيجابية، بالمعنى البراغماتي خصوصاً. بتعبير آخر: إذا غيّر كل واحد منّا نفسه، نصل تدريجياً إلى “تغيير ما” في المجتمع (وهي نظرة قوية جداً في الأوساط الشعبية الغربية). عليك إذن بالتركيز على تغيير نفسك (وعائلتك الضيقة)، وهذا سيؤدي حكماً، مع مساعدة النظام التربوي والإعلام، إلى تغيير عاجل أم آجل في المجتمع. برغم براغمتيتها وايجابيتها الظاهرة، تخرج هذه النظرة ذات الطابع الليبرالي-الفردي المهيمن عن دائرة القبول عند حكماء من طينة جلال الدين الرومي وأمثاله، لأنها تتنافى مع ظاهر كثير من النصوص (“أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإنّ الله على نصرهم لقدير”، القرآن الكريم: ٢٢ : ٣٩؛ “يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين”، مصدر سابق، ٣ : ١١٤)، ومع أغلب سيرة النبي محمد (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) وصحابته رضي الله عنهم (ومنه قول الحسين بن علي عليه السلام قبل استشهاده: “والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي”). ثمّ إنّ هكذا نظرة تصطدم بالواقع العملي لا محالة، وبالتاريخ، لأن التغيير والثورة قد فُرضا غالبا من قبل نُخب ومن قبل الغَلبة الحزبية والعسكرية والمؤسساتية (راجع النقاشات بين لوك، وهيوم، وروسو، وهوبس، ومونتسكيو إلخ.؛ كما النقاشات، في الاقتصاد، بين الليبراليين الكلاسيكيين وبين المدرسة الكينيزية من J.M. Keynes).

هذا ما يذكّرنا بالتيارات التي انبرت للدفاع عن فكرة أن الإنسان، إذا أصبح حراً وأصلح نفسه، وأخذ قراراته بشكل عقلاني، لا بدّ من أن يدفع بمجتمعه نحو الأفضل أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً

بالتأكيد إنّ هذا التفكير الفرداني لا يلقى ترحيباً من قبل المدارس اليسارية عموماً، لا سيما منها الماركسية والتي يمكن أن تتهم الرومي – بالمناسبة – بالتآمر، المقصود أو غير المقصود، مع الأقلية الرأسمالية. وذلك التآمر المفترض هو على الطبقات المسحوقة والمستضعفة من خلال نشر هكذا فكر يشدد على الفردية. والعقلية الماركسية، وهي محقة في بعض زوايا القضية، تعتبر أن عددا من الأفكار الدينية الميسطيقية قد شكل عاملا من عوامل التخدير للشعوب، من خلال التآزر المباشر أو غير المباشر بينه وبين الليبرالية-الفردية والرأسمالية. وسوف نوضح في ما يلي أنّ الرومي وأمثاله، حقيقة، هم في عالم وجودي (أنطولوجي) ومعرفي (أبستيمولوجي) وأخلاقي مختلف كلياً وبعيد جذريّاً عن كل هذه النقاشات. على أنّ المدارس الليبرالية لا تتوقف عند هذا الحد “البسيط” من الوسائل في الدفاع عن فكرتها. وهذا ما يذكّرنا بالتيارات التي انبرت للدفاع عن فكرة أن الإنسان، إذا أصبح حراً وأصلح نفسه، وأخذ قراراته بشكل عقلاني، لا بدّ من أن يدفع بمجتمعه نحو الأفضل أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً. ومن البديهي أن نستذكر مدارس مثل النّفعيّة (Utilitarisme؛ راجع Jeremy Bentham و John Stuart Mill) والمدرسة “الهامشية” (Marginalisme)… وخصوصا مدرسة فيينا الليبرالية في الاقتصاد، ومن شيوخها: Ludwig Von Mises  و Friedrich Hayek. ومثلها ما سمّاه الليبراليون الكلاسيكيون بـ”توازن بارييتو” أو L’équilibre parétien). مع التبسيط، كلها مدارس تدافع تقريبا عن فكرة جوهرية مفادها: أنّ القرارات الفردية إذا كانت حرّة بالفعل، وهي عقلانية بالطبع، لا بدّ من أن تؤدي في النهاية إلى تحسين وضع المجتمع ككل، إما من خلال تكوين نخبة ترتقي بالمجموعة، أو من خلال تحسين وضع الأفراد بشكل عام (هذه الفكرة الأخيرة تعتمد التفكير الرياضي والكمي عادة). لا شك أنّ المدارس الليبرالية-الفردية لديها حججها القوية نسبيا، ولا شك أيضا أن مخالفيها من ماركسيين واشتراكيين وغيرهم لديهم حججهم القوية أيضا. لكن، كما سبق وأشرنا، فكل هذه الفرضيات، مع قوّتها النسبية، لا تستطيع أن تختصر النموذج-المثالي المختبئ خلف مقولة “مولانا” قيد النقاش.

من الحكيم طبعا أن أعمل على تغيير نفسي قبل أي شيء آخر، بسبب الطبيعة الفرديّة لخواتيم أعمالي؛ ولكنّ هذه الخواتيم لا يمكن أن تكون إيجابية إلا إذا كنتُ في تموضع منافٍ للأنانيّة و”الفردانيّة”

ماذا يقصد “مولانا”: بين السّر وسرّ-السّر؟

كيف يمكن إذن اختصار هذا النموذج-المثالي للعقيدة الساندة لهذه المقولة، والذي يشكل، بطبيعة الحال، الفرضية التي نرجّحها؟

في الحقيقة، يمكننا الفصل في هذا الإطار بين نموذجين سوف نسميهما: “النموذج المعتدل” (المعادل لـ”الفرضية الضعيفة”) و”النموذج الأوسع” (المعادل لـ”الفرضية القوية”). ومن الواضح، كما سنرى، أنّ تبنّي الأول لا يفرض بالضرورة تبنّي الثاني؛ في حين أن تبنّي الثاني يفرض بالضرورة تبنّي الأول (أي أن الثاني “شامل” للأول). أما بالنسبة إلى النموذج الأوّل – ونحن نركّز لهدف التبسيط، بشكل خاص، على الحكمة الصوفية الإسلامية لا سيما منها ما يسمى أحيانا بالتصوف الإشراقي (أي الممتد من السهروردي المقتول إلى محي الدين ابن عربي إلى صدر الدين القونوي وتلاميذ الشيخ الأكبر الآخرين، إلى الجوانب العرفانية من مدرسة صدر الدين الشيرازي ومشتقاتها) – فالفوز والارتقاء و”الخلاص”.. كلّها شؤون فردية طبعاً.

فأنت لن تقف أمام ربّك كمنتمٍ إلى جماعة (قد تتدخل جماعتك من خلال بعض الزوايا الاستثنائية كالشفاعة وما إلى ذلك..)، وإنما كنفس. إنك، حسب هذه النظرة، سوف تقف أمام ربّك كنفس لها ميزانها الفردي (“بل الإنسان على نفسه بصيرة”، القرآن الكريم، ٧٥ : ١٤؛ “لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”، ٨٠ : ٣٧؛ “من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”، ١٧ : ١٥[…]). إنّ قضيتك مع هذا الوجود، خصوصا من زاوية الخواتيم ومصيرك الأبديّ، هي قضية “فرديّة” بلا شك.. هذا من جهة.

لكن، من جهة أخرى، إنّ طبيعة هذا الوجود مبنية على المحبّة.. وهي محبّة مطلقة غير محدودة ولا مشروطة، ولولاها لما “اضطر” جوهر الوجود (أو “الوجود الحق”) إلى إيجاد موجودات “منفصلة” عنه ولو ظاهرا. إنّ طبيعة الوجود الحقيقية هي “واحِديّة” (Unicitaire)، لا تتفق مع الأنانيّة والإثنينية. ولذلك، فإن فوزك وارتقاءك وخلاصك.. كلها مرتبطة أيضا بقربك من المحبة والواحدية وببعدك عن الإنيّة والأنانيّة. وبالتالي، في حياتك الدنيوية والبرزخية، لا يمكن أن يُقبل منك ـ بتاتا – موقف سلبي تجاه الآخرين (من الإنس أو من غيرهم من الموجودات). لذلك، لا بدّ لك من العمل على تطبيق “المحبّة” و”الواحديّة” في جميع أوجه حياتك، لأنك تحمل هذه الصفات الإلهية في روحك الباطنيّة الأزليّة. المهم: (١) إنّ فوزك أو ارتقاءك أو خلاصك في الآخرة هو شأن فردي؛ لكنّ (٢) طبيعتك العشقيّة والواحديّة – الإلهيّة – “تشترط”، في سبيل نيل هذا الفوز أو الارتقاء أو الخلاص، أن تحبّ الآخرين من جهة، وأن تعمل على تحسين ظروفهم (“العمل” هو نوع من الابتلاء الدنيوي طبعا) من جهة أخرى. إنّ العمل الفردي والعمل على مساعدة الآخرين والمجتمع هو واجب إلهي في هذه النظرة. في خلاصة هذا النموذج الأول، يكون من الحكيم طبعا أن أعمل على تغيير نفسي قبل أي شيء آخر، بسبب الطبيعة الفرديّة لخواتيم أعمالي؛ ولكنّ هذه الخواتيم لا يمكن أن تكون إيجابية إلا إذا كنتُ في تموضع منافٍ للأنانيّة و”الفردانيّة”.

إقرأ على موقع 180  لحرب غزة خصوصياتها.. هل تحمل نهاياتها مفارقات جديدة؟

هكذا يمكن اختصار معالم النموذج-المثالي الأول الذي يمكن استقراؤه من خطاب وكلمات هؤلاء الحكماء. ولكن، هل تتوقف القضية عند هذا الحد (الذي يتضمن، طبعاً، قبولاً بفكرة امكانية تغيير الواقع الخارجي من خلال العمل، ومنه واقع المجتمعات البشرية ولو بشكل محدود بسبب طغيان أكثرية البشر واستسلامهم لأهوائهم ولحُجبهم..)؟

إنّ ما أثار تعجّبي واستغرابي – ثمّ مع الوقت: وجدي وابتهاجي – هو اكتشافي أنّ القضية أعمق و”أخطر”، ولا تتوقف على التصوف الإشراقي كما سميناه، بل تتخطاه إلى مدارس صوفية (بمعنى ميسطيقية) من كل الأديان والثقافات والعصور. فالأطروحة التي يمكن أن تختصر هذا “النموذج الأوسع” الثاني، باستطاعتنا أن نكتبها كما يلي: إنّ وعي الفرد الداخلي ليس منفصلًا “عن” – بل هو جزء لا يتجزأ “من” – الوعي الكوني الكلّي. أو بعبارة هي أقرب إلى العلوم الحديثة: إنّ المادة ليست منفصلة عن الوعي بتاتا، بل إن هذا الأخير يؤثر عليها (البعض يقول على غرار هنري كوربان: هو “يتخيّلها” أصلا..). أو بعبارة أخرى هي أقرب إلى تعبير أهل التصوف: يظن الإنسان أنه جرمٌ صغير، ولكن الحقيقة هي أنّ العوالم كلّها، باطنية كانت أم ظاهرية، قد “انطوت فيه”. أو على حد تعبير بعض أهل الفلسفة: الواقع الخارجي هو في جوهره وهمٌ، والحقيقة هي في عالم الوعي الداخلي. وبالتالي، يصبح فهم جوهر عبارة جلال الدين الرّومي عن التغيير والثورة أقرب: إذ أنّ العوالمَ قد انطوت في داخلي، أنا “الكون الجامع” المحتمَل، ولذلك، فإنّ تغييري لنفسي لا بدّ من أن يؤدّي – بشكل أو بآخر – إلى تغيير هذه العوالم.

إذا استطعت، حقّا، أن أصلح نفسي وأن أرتقي بها، فلا بدّ للعوالم التي “تُحيط” بي (أو أنا الذي “أحيط بها” بتعبير أدق) من أن تتحسّن وترتقي. وكلّما كثر أمثالي من سالكي طريق “الولاية” الروحيّة، كلّما ارتقى الوجود الإنساني ككل نحو الأعلى، وهذا هو الارتقاء الحقيقي، وهذان هما “التغيير” و”الثورة” الحقيقيان. الثورة إذن هي ثورة على النفس قبل أي شيء.

بالطبع، من الأفضل أن يكثر الحكماء والعرفاء من هذا النوع حتى يكون “التغيير” أسرع، وأكثر فعالية وعمقاً. ولكنّ وجود الأولياء في كل قوم هو بذاته ما يجعل التغيير (خصوصا: الارتقائي منه) مستمرا رغم كل الظروف الصعبة للإنسانية. ومن هنا تأتي الأفكار حول “الدولة الباطنية” للأولياء في كل زمان، ونظرية الأقطاب و”القطبية الكبرى” عند ابن عربي وأتباعه وكذلك عند بعض حكماء الهند والشيعة.. ومن هنا أيضا بعض الأفكار حول الأولياء والكُمّل والقدّيسين.. فإنّ لهم دورا يتخطى الدعوة والتبشير والتعليم: إلى دور هو وجودي بامتياز (فبعضهم أقطاب للوجود برمته)، أو كوني (فبعضهم تقوم الأكوان عليه)، أو حتى عملي-مجتمعي (فوجود بعضهم بيننا هو السبب الباطني-الحقيقي في ارتقائنا كجماعات، أو على الأقل، هو الذي يجنبنا الأسوأ على طريقة “وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون”، ٨ : ٣٣). وهذا العالم الباطني ليس بالوهم بتاتاً عند هؤلاء الناس، فهم يعيشون فيه يقينا برأيهم، حتى وصل هنري كوربان يوما، وهو يدرس ابن عربي، إلى أنّ الشيخ الأكبر (أي محي الدين بن عربي) كان يعيش في عالمنا الدنيوي هذا.. فقط في الظاهر. كيف لا، وهو (أي ابن عربي) يحكي أنه يلتقي مثلاً مع أولياء هم من الصفاء والارتقاء بحيث لا يدعون الله في شيء إلا وعندهم اليقين المطلق بأنه سيستجيب لدعائهم! ولا يمنعهم من الدعاء في كل الأشياء إلا خجلهم واستحياؤهم من الحبيب الأعلى، وثقتهم المطلقة في مشيئته.. من الطبيعي أن يقول أحدهم أنّ هذا الشيخ وأصدقاءه كانوا يعيشون “بيننا” فقط في الظاهر.

هل يمكن الحديث عن تغيير خارجي-مادّي من دون تغيير داخلي-روحي؟ هل يمكننا الاستهانة بالعلاقة المفترضة هذه بين الوعي الداخلي والظواهر الخارجية؟

وهذه حال العرفاء القدماء والمعاصرين عندما تسألهم عن أمور الدنيا مثلا، ومنهم العارف الإيراني المعاصر: الشيخ محمد تقي البهجة (توفي عام ٢٠٠٩ ميلادي). فأمام مصاعب الحياة ينصح الشيخ البهجة بالإكثار من الاستغفار مع “اعتقاد كامل” (راجع كتاب “الناصح” الذي نشر بعد وفاته). ولاستجلاب الرزق ينصح، مثلا، بالإكثار من ذكر: “اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمّن سواك”، أيضا مع “اعتقاد كامل”. وكذلك الحال في أمور متنوعة كتقوية الذاكرة، واستجلاب الرخاء المادي، والزواج، وتجنب الظلم إلخ. وكثيرة هي الأمثلة من عالم التصوف والعرفان. غير أنّ عبارة “الاعتقاد الكامل” هي التي سوف تقرّبنا من منظار العلوم الحديثة، ومنظار النظريات المحدَثة حول العلاقة بين الوعي الداخلي والواقع الخارجي. الأمثلة هنا كثيرة أيضاً، وليست آخرها ظاهرة فيلم “السّرّ” (The Secret) لروندا بايرن المنتشرة بشكل لافت (من خلال Netflix وغيره)، ولا طرح الفيلسوف المعاصر بوب بروكتر عن “قانون الجاذبية” (Law of Attraction). فـ”الاعتقاد الكامل” ليس فقط عبارة وفكرة تخصان الشيخ محمد تقي البهجة وحده: بل يبدو أنه قانون يؤمن به فلاسفة وعلماء ومدرّبون شخصيون كثيرون ومعاصرون، ويقوم على فكرة أنّ ما تؤمن به بشكل صلب ومتين، لا بدّ من أن يتجلّى في الواقع الخارجي بشكل أو بآخر. وهذا ما انكبّ على برهانه وشرحه ضيوف فيلم وكتاب “السّرّ” من جميع التخصصات مثلاً.

ومن الأطروحات الأكثر جدّيّة ومتانة في هذا الإطار (والمتأثرة على الأرجح بأعمال عالم النفس الكبير: كارل جونغ)، ما يتضمنه كتاب “قوة عقلك الباطن” للاهوتي والداعية الإيرلندي جوزف ميرفي (توفي عام ١٩٨١)، والموجود في المكتبات العربية حاليا. إنّ أطروحة ميرفي قائمة على الفكرة نفسها تقريبا، في النجاح المادي وفي الثراء وفي العلاقات الاجتماعية وفي الشفاء: إذا آمنت بفكرة ما بشكل متين، وتصورتها في وعيك بشكل مستمر وصلب، ثمّ عشت وكأنّها تحقّقت بالفعل (لا أنها “سوف تتحقق”)… فهي ستتحقّق حكماً! يدعوك أهل قانون الجاذبيّة وأخواته إلى “أن تعيش على موجة ما تتمنّاه” لكي يتحقّق حُكماً. وما لا يعرفه أكثرنا هو أنّ بين هؤلاء، أي بين أهل مدرسة “قانون الجاذبية” وأخواته، من هم “أهل علم” بالمعنى الحديث، المباشر. ومن الأمثلة، كثير من العلماء المتأثرين بفيزياء الكم (Physique Quantique) من طراز الفيلسوف وعالم الفيزياء النظرية دايفيد بوهم (توفي عام ١٩٩٢)، الذي جاء واقعا بنسخة عصرية لنظرية وحدة الوجود الصوفيّة. وأغلب هؤلاء العلماء يستند إلى ما يمكن تسميته بملاحظات الفيزياء الكميّة العجيبة: من تأثير للمراقب، مثلا، على تصرّف جزيئيات المادّة الصغيرة (عمل “بوهم” مثلا على التصرف الغريب للإلكترونات). وهي ملاحظات يمكنها بالفعل أن تضرب كل مسلماتنا كبشر عن الزمان والمكان والحقيقة الجوهرية للمادّة وللواقع الخارجي.

ومن الكتابات ذات الطابع العلمي أيضا، بحث “أسرار الوعي” (Les Mystères de la Conscience) لميريام غابلييه (نشر عام ٢٠١٩)، وهو كتاب يبيّن لك أنّ ظواهر كالحدس والأحلام التنبؤية والتخاطر (إلخ) هي حالياً مواضيع للبحث العلمي الجدّي، وفي مجلات علميّة، عالمية، محكّمة.. وتبيّن غابلييه كيف أنّ طرح الفصل الجذري الكلاسيكي بين الوعي والمادّة قد اقترب من الانفجار النهائي، مع انتشار هكذا دراسات وتجارب، تضع الوضعية الأنطولوجية والأبستيمولوجية على المحك. ويبلغ هذا التوجّه ذروته بلا ريب مع حقل لم يزل يكتسب أهميّة يوماً بعد يوم: هو حقل “تجارب الموت الوشيك” الذي أطلقه بلا شك الطبيب والفيلسوف الأمريكي رايموند موودي في كتاب “الحياة بعد الحياة” (Life After Life) عام ١٩٧٥. ومن التجارب التي أصبحت ذائعة الشهرة والصيت، تجربة السيّدة المولودة في سنغافورة وذات الأصول الهندية، صاحبة كتاب “متّ لأصبح أنا” (٢٠١٥) (Dying to be Me)، والتي نالت الاهتمام الفائق من قبل مفكّرين روحيّين عالمّين مشهورين من طراز واين داير وديباك شوبرا. تنقل هذه السيدة – وهي Anita Moorjani التي نجت بأعجوبة من مرض السرطان وبشكل مفاجئ وموثّق من قبل الأطباء – أنها انتقلت خلال هذه التجربة إلى بُعد وجوديّ مختلف عن البُعد الذي نعيش فيه.. حيث وجدت نفسها “على نفسها بصيرة”، وأنّ العالم الخارجي ما هو إلا انعكاس لوعيها الداخلي، وكأنّ كلّ شيء يحدث – في الحقيقة – داخل وعيها! ومن نصائح موورجاني، طبعا، أنّ التغيير الداخلي هو التحدي الأكبر وهو الذي يأتي بالتغيير الحقيقي وبالثورات الحقيقية..

كثيرة هي الأمثلة المؤيّدة لهذه “الفرضيّة القويّة” كما سمّيناها، والتي تفسّر معنى حكمة الرّومي بالطريقة الأكثر إخلاصاً لما تقصده، برأينا، وانطلاقاً من كلّ الحقول والعصور.. هي، باختصار، فرضية تؤمن: بأنّ التغيير الداخلي هو الذي يؤدّي إلى التغيير الخارجي الحقيقي، لأنها تستند إلى فكرة أنّ العوالم الخارجية ما هي إلا انعكاس للوعي الإنساني الداخلي (راجع “مبدأ البشرية” أو Principe Anthropique  للفيزيائي براندون كارتر على سبيل المثال).. فكأنّ هؤلاء المفكّرين والسالكين والحكماء جميعا يشكّون بأنّ مبالغة البعض بالتشديد على الثورة الخارجية، وبشكل هوسي أحياني، هو هروب، واع أو غير واع، من صعوبة ووعورة طريق التغيير الداخلي..

إنه لموضوع شيّق، ويصعب اختزاله في بضع صفحات، ولكنّه يطرح أسئلة جوهرية في ما يخص إرادة التغيير والثورة لدى الشعوب: هل يمكن الحديث عن تغيير خارجي-مادّي من دون تغيير داخلي-روحي؟ هل يمكننا الاستهانة بالعلاقة المفترضة هذه بين الوعي الداخلي والظواهر الخارجية؟ والأهم: هل إنّ صعوبة تغيير الواقع الخارجي مرتبطة أحيانا بضعف إيماننا الداخلي الجماعي بإمكانية حدوثه؟ كلّها أسئلة أظن أنها مهمّة وجوهريّة، بالرغم من ظاهرها القريب من نقاش الما-ورائيات..

  هي أسئلة تعني شعوب العالم بأسره.. وقد تعني اليوم، بشكل خاص، الشعب اللبناني.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لبنان وسوريا.. وملهاة "غودو الإقتصادي" الذي لن يأتي