ليس هناك من عبارات تستطيع أن تصف حالة انكار الواقع التي تسود الإدارة الأمريكية الحالية. بالمناسبة، جميع الإدارات الأمريكية السابقة كانت على قدرة عالية من تحويل “السلبية” التي تقع فيها إلى “إيجابية” عبر اللعب على الألفاظ والمفاهيم وكانت وسائل الاعلام “تقبل” بالسردية الصادرة عن البيت الأبيض.
لكن خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الموجه إلى الأمة وفيه أن الانسحاب من أفغانستان كان “انتصارا” في التخطيط والتنفيذ، ثم تصريح الناطقة باسم البيت الأبيض أن لا مساءلة ولا محاسبة ستقع على المسؤولين السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين، هما موقفان يفوقا التصوّرات ويؤكّدا ما كنّا نقوله على مدى عقدين من الزمن أن حالة الانكار للواقع هي التي تسود عقل النخب الأمريكية الحاكمة، وأن حالة الانكار تساهم في استمرار تكرار الأخطاء، سواء في تشخيص المعضلات أو في الحلول المطروحة لها ولذلك يصح القول إن النخب الأمريكية لا تتعلم من التجارب الماضية.
لكن هذه المرّة لم يتقبّل الاعلام الأمريكي الذي كان مؤيّدا لجو بايدن نكاية بدونالد ترامب السردية الجديدة القديمة في آن واحد. وهذا يعني أننا قد نشهد بداية انقلاب على بايدن والزمرة التي ترافقه غير أن البديل عنه غير موجود. فنائبة الرئيس كامالا هاريس غير مؤهّلة عند هؤلاء للقيام بالمهام التي يمكن أن توكل إليها كما برهنت عدم كفاءتها في مقاربة ملف الحدود لتنظيم الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة من دول اميركا اللاتينية، كما برهنت عن توحّد سياسي مقلق في تفهّم ملفّات خارجية كالعلاقة مع حلفاء الولايات المتحدة وذلك خلال جولتها الأخيرة في جنوب شرق آسيا.
المهم هنا أن هناك قلقاً يسود المجتمع الإعلامي حول الإخفاق الذي حصل من خلال عملية الانسحاب الأمريكي. فالمزاج الأمريكي الشعبي ليس ضد الانسحاب بل أيضا مع عدم الانخراط في حروب لا معنى لها بالنسبة إليه. لكن القلق يتصل بسوء التدبير في تنفيذ عملية الانسحاب وما رافقها من رفض للمساءلة والمحاسبة، كما جاء على لسان الناطقة باسم البيت الأبيض، وبالتالي نشهد في الاعلام الأمريكي محاولة من بايدن لتصوير الهزيمة بأنها انتصار خاصة بعد إعلانه أن القوة العسكرية لم يعد لها أي جدوى في بناء دول ومجتمعات على صورة الولايات المتحدة.
حالة الانكار السائدة أمريكياً لها عدة دلالات. الدلالة الأولى هي أنها تعكس مزاج النخب الحاكمة وتلك التي تدور في فلك السلطة، فتصبح أسيرة سردية عقائدية مبنية على “استثنائية” الولايات المتحدة، أي أنها فوق أي اعتبار وقوانين ومواثيق، وأنها دولة لا تخطئ. الدلالة الثانية هي أن العقيدة السائدة أهم من الوقائع وتتعامل مع الوقائع في خدمة العقيدة، هذا برغم إشاعة “براغماتية” الولايات المتحدة، وبالتالي قدرتها على التكيف مع الوقائع، وهذه صورة غير دقيقة عن يقين الولايات المتحدة لأنها متمسّكة بعقيدتها وتعيد وتكرر الأخطاء.
هل بدأ العد العكسي للإطاحة بالرئيس بايدن عبر الاستعانة بالمادة 25 من التعديلات الدستورية التي تجعل مجمع الوزراء ورئيس مجلس النواب ونائب الرئيس يعتبرون أن الرئيس الأمريكي لم يعد مؤهلا القيام بمهامه لأسباب صحية؟
من مظاهر الانكار التي تنذر بانهيار قادم هو ما نشرته وكالة “رويترز” عن مكالمة هاتفية بين الرئيس الأمريكي ونظيره الافغاني قبل الانسحاب العسكري الأمريكي. طلب جو بايدن من أشرف غاني أن يعقد مؤتمرا صحفيا مع قادة أفغان للقول إن الطالبان ليسوا مسيطرين، كما أضاف “بغض النظر إذا كان ذلك الأمر صحيحا أم لا”! فهذه الإدارة ليست معنية بالوقائع والحقائق بل في “إدارة الأخبار” (news management) على قاعدة ان الانطباع في السياسة أهم من الحقيقة. فعلياً، هذه الإدارة منقطعة عن واقع الحال كما ان بايدن يعيش في عالم مختلف. فالرئيس الأميركي وسائر المسؤولين في الإدارة لم يصدقوا مع القوات المسلحة ولا مع الشعب الأمريكي. والسؤال يصبح إلى متى يمكن أن يستمر الأمر كذلك، وبالتالي لا بد من تغيير سريع وإلا فالكارثة الأمريكية واقعة.
الدلالة الثالثة هي عدم الاكتراث للواقع، وهذا دليل على مدى عفونة النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة. سقطت روما امام ضربات البرابرة وقادة روما منهمكون في صراعات على مغانم وثروات. الولايات المتحدة هزمتها قوّة أقل منها تسليحا وعلما وذلك لسبب بسيط. الطالبان يعرفون الحقائق على الأرض بينما الأمريكيون يتجاهلونها عن عمد. من معالم التعفّن عدم الرغبة في الاستماع إلى الحقيقة فالأخيرة هي فقط ما تقوله الإدارة، والاعلام الشركاتي المهيمن الذي أصبح جزءا من الدولة العميقة كان متوافقا مع سياسة الإدارة فهو الذي طمس حقيقة فضيحة ابن الرئيس الأمريكي هنتر بايدن في تجارة النفوذ في أوكرانيا والصين. أما اليوم فضخامة الفضيحة غيّرت مزاج التسامح مع الرئيس الأمريكي. تسريب محتويات المكالمة الهاتفية من داخل الإدارة الغاضبة على القرار بالانسحاب والغاضبة من تعنّت الرئيس في الانسحاب. ويمكن التساؤل هل بدأ العد العكسي للإطاحة بالرئيس بايدن عبر الاستعانة بالمادة 25 من التعديلات الدستورية التي تجعل مجمع الوزراء ورئيس مجلس النواب ونائب الرئيس يعتبرون أن الرئيس الأمريكي لم يعد مؤهلا القيام بمهامه لأسباب صحية؟
حالة الانكار ليست محصورة في الإدارة وأبواقها بل في العديد من المواقع التي تُعتبر محترمة. على سبيل المثال هناك استخفاف بطالبان وبقدرة هذه الحركة على الحكم ما يذكرنا بالسردية البريطانية عند تأميم قناة السويس عام 1956 والتي كانت تقول إن المصريين لا يملكون الكفاءة لتسيير أعمال القناة. فمن يقرأ اليوم المقالات في موقع “فورين بوليسي” أو حتى في “فورين افيرز” يجد أن هناك محاولة للتخفيف من قيمة “الخسارة” الملحقة بالولايات المتحدة والتقليل من قدرة حركة طالبان على ضبط المجاهدين التابعين لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في خراسان أو ضبط المعارضة الأفغانية المحاصرة في وادي بنجير. لكن كل ذلك لا يخفي ولا يلغي حقيقة تراجع الولايات المتحدة وانكسار هيبتها ما جعل وزير الدفاع البريطاني يصرّح وفقا لما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية أن “الولايات المتحدة لم تعد دولة عظمى”.
الاستحقاقات الداخلية والخارجية تتلاحق والإدارة الأمريكية عاجزة عن مواجهة الواقع. لسنا متأكدين أن خصوم الإدارة، أي الحزب الجمهوري وترامب، يستطيعون أن يقدّموا أداءً أفضل. فإدارة بايدن هي استمرار لسياسات أسلافها وبالتالي استكمال لنفس الإخفاقات. فالنظام مهترئ ولا بد من تغييره لمواكبة المتغيّرات في البنية السكّانية والبنية الاقتصادية والبنية التربوية والثقافية. وإلى أن يتم ذلك، نحن على موعد لمشاهدة مسلسل الترهّل والتعفّن في هذه الإدارة وانعكاسات ذلك على الصعيد الداخلي وبطبيعة الحال على الصعيد الخارجي.