مشهد المشادة القضائية.. حكم القانون بعيد المنال

لم تكن المشادة القضائية التي نشهد فصولها المستمرة، السقطة الأولى للسلطة القضائية اللبنانية، فأزمة الدولة تعكس غفوات متتالية ومستمرة لم تفلح مناشدات المواطنين بإيقاظها. وقد كانت حيثيات إدارة ملف تفجير مرفأ بيروت إحدى المحطات "الساطعة" على هذا السقوط، وكان اللافت حينها تسليط الضوء على طائفة القاضي لضمان عدالة الملف.

إلا أن الجديد، في هذا السياق، كان تحويل أداء السلطة القضائية مجتمعة، والقضاة أفراداً، الخبر الأول في اهتمامات المواطن الذي يرزح تحت أزمة خانقة على كل مستوياتها. وهذا ما شكل دليلاً على تحول هذا المرفق – المنفصل بطبيعته بحكم الثقافة القانونية والقضائية عن التفاعل الاجتماعي – تحوُّلِه إلى محور لهذا التفاعل.

غالباً ما يدرك المواطن اللبناني حقيقة قضاياه متأخراً، وكان حرياً به أن يثير استقلالية السلطة القضائية في مرحلة إعادة بناء الدولة  بعد انتهاء الحرب الأهلية.

دور السلطة القضائية في بناء الدولة

تشكل السلطة القضائية أحد أعمدة بناء الدولة منذ أن وُضِعت مفاهيم حقوق الإنسان ومعها توازن السلطات واستقلاليتها أساساً في الأنظمة الديمقراطية. وإن كان التعاون بين تلك السلطات من طبيعة النظام اللبناني، إلا أن غاية هذا التعاون هو المحافظة على أدوارها في تحقيق الانتظام الاجتماعي. غير أن السلطة القضائية كما باقي السلطات، استخدمت قضايا المواطنين لتحويلهم أعداداً مصفِّقة، بحثاً عن شرعية لممارستها. وتجاهلت تلك السلطات أن الشرعية تنبثق من احترام القانون، والغاية منه بناء الدولة والمجتمع ضمناً.

لا تنفصل عملية تحقيق العدالة الموكلة إلى القضاء عن تفعيل حكم القانون، وهو عنصر محوري في خطة التنمية المستدامة. لكن حكم القانون لا ينشأ عفواً، بل هو مبني على التفاعل والتناغم بين الدولة والمواطن والقانون، ضمن ما يعرف بدولة القانون والمؤسسات. غياب هذه المرحلة من عمر “الدولة” اللبنانية، يطرح بجدية إشكاليات المرحلة المقبلة.

في القضاء والتمثيل المجتمعي والشرعية

هذه السلطة الدستورية، وإن كانت تشكل الرافعة للنظام السياسي من خلال دورها في تفعيل القوانين وتحقيق العدالة، إلا أن معايير تكوينها تختلف بحكم طبيعتها الحيادية والمستقلة وطبيعة مهامها عن التكوين السياسي للسلطات التمثيلية السياسية – التشريعية والتنفيذية، وبشكل خاص في الأنظمة البرلمانية. يبقى هذا الارتباط والتنسيق قائمين تحت قاعدة التعاون من خلال دور النيابات العامة، المعنية بملاحقة الجرائم حماية للحق العام. وهو أمر لطالما كان إشكالية في النقاش القانوني في مختلف الدول.

إن وجود النساء غير المقصود مناصفة داخل هذه السلطة يدفعنا، إضافة إلى أبعاده السياسية، إلى قراءة “أزمة غادة عون – غسان عويدات” من منطلقات التمثيل الحديث وتفعيل دور هذا التمثيل خدمة لتحقيق النتائج المرجوة

لا تنفصل طبيعة النظام القضائي عن طبيعة النظام السياسي في الدولة، كما أن تفعيل دوره يرتبط بطبيعة النظام القانوني المنتهج. ففي أنظمة القانون المكتوب، يلتزم القاضي بتطبيق القانون الصادر عن السلطة التشريعية عند وجوده، وإلا فيبحث عن الحل العادل في اجتهاده. وانطلاقاً من هذا المركّب على القاضي أن يتمتع بالأهلية التي تسهم في أداء وظيفته بما يحقق العدالة بين المواطنين من جهة، ويضمن المحافظة على انفصال هذه السلطة عن غيرها من السلطات في الدولة من جهة ثانية، وتحقيق السلام والأمن الاجتماعيين من جهة ثالثة.

تطورت نظرية التمثيل بتأثير من النيوليبرالية والتحولات التي طالت الأنظمة السياسية وفعالية الديمقراطية، وأدت إلى دخول أطراف جديدة ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية معنية بالحراك السياسي العام، بحثاً عن معان أوسع للشرعية. ولعل التمثيل النسائي في مراكز السلطة من أبرز هذه النماذج التي تسهم في تفعيل النتائج المرجوة من ديمقراطية التكوين، ما انعكس تقارباً في تكوين السلطات الثلاث من خلفية مجتمعية. وتوسع مفهوم الشرعية ليشمل المشروعية. فتكون هذه المكونات المستحدثة وسيلة لكسر رتابة الانقسامات السياسية لاستعادة دور القطاعات الممثلة لقضايا المواطنين في مرحلة ضعفت فيها النقابات عن تحقيق غاياتها، وأداة لتفعيل الرقابة والشفافية بعد تلكؤ أجهزة الرقابة الرسمية أو تهميشها بموجب قوانين حديثة. كما أصبح من البيِّن مقاومة السلطات لأي تغيير.

إن وجود النساء غير المقصود مناصفة داخل هذه السلطة يدفعنا، إضافة إلى أبعاده السياسية، إلى قراءة “أزمة غادة عون – غسان عويدات” من منطلقات التمثيل الحديث وتفعيل دور هذا التمثيل خدمة لتحقيق النتائج المرجوة. كما أن ردة الفعل على أداء النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان كانت مزدوجة المعنى والأبعاد، سياسية من جهة وذكورية من جهة أخرى.

في هذا السياق، أصبح المواطن شريكاً في تفعيل عمل القاضي، ويتمثل هذا التفعيل بالقرارات والأحكام الصادرة في دعاوى تم تسليط الضوء عليها من قبل وسائل الإعلام أو حملات المجتمع المدني. هذه المواكبة الاجتماعية هي التي دفعت القضاة إلى إصدار أحكام تحاكيها، وغالباً ما يتضمن تعليل المحكمة عبارات تعكس الواقع الاجتماعي. ولم يعد هذا التفاعل يعاكس مفهوم الحيادية وموجب التحفظ، بل أصبح ضرورة واجبة لاستعادة الثقة في العلاقة مع المواطن.

لم يعد لدى المواطن شيء يخسره بعد كل هذا الانهيار، ولن يجدي نفعاً إصدار قوانين تنظم استقلالية القضاء، تصبغ بالشرعية عمل مجلس النواب وتبقى بعيدة عن التفعيل. فالقضاء صراحة أدى لعبة لا تليق بمقامه. وحكم القانون هو الذي أصبح بعيد المنال

في القانون وأبعاده

إقرأ على موقع 180  أفكار تأسيسية برسم جبهة دبلوماسية عربية

أما المفارقة في الدولة اللبنانية فتتجسد في ضعف دور القانون الناتج عن خلل في تطبيقه، أو التباس في مضمونه أو غياب للنصوص الضامنة للانتظام الاجتماعي، إضافة إلى أزمة الخلل في أداء السلطة القضائية. وكان لهذا الواقع القانوني-المؤسساتي أن أدى إلى تسخير القوانين خدمة لمصالح الأطراف الفاعلة في السلطات حفاظاً على قوة نفوذهم، وتضييق هوامش تحرير المواطن من التبعية، وبناء ثقافة ازدراء القوانين في العلاقة مع مؤسسات الدولة.

هذا القانون، الذي أصبح وجهة نظر في البازار السياسي، ما لبث أن واجه تحديات جديدة على أثر العولمة واستغلال النفوذ في السلطات العامة، والتشريعية منها بشكل خاص. هذه التحديات التي أصبحت مضاعفة مع التحولات النيوليبرالية، وتفعيل مصادر حديثة غير رسمية مرتبطة بالأخلاقيات والتوصيات، ومعايير التصنيف التي أدخلت السلطات العامة والخدمة العامة في منافسة السوق على أسس مرنة مقابل القوانين الوضعية الصادرة عن السلطات المنتخبة. فالمسؤولية الاجتماعية تتفعّل من خلال تلك القواعد اللينة، وتسهم في التعاضد الاجتماعي أكثر من قواعد صلبة لم تتحول – خلال مرحلة بناء الدولة – إلى ثقافة اجتماعية.

أمام هذا الواقع، على السلطة القضائية أن تبقى صمام الأمان منعاً للانهيار الاجتماعي وحفظاً لدور القانون في الدولة. غير أن الشرعية لم تعد مرتبطة باحترام نص قانوني وضع من السلطة نفسها التي انحرفت عن غاياتها، فارتبطت الشرعية بمدى تحقيق الغاية الأسمى من القوانين، وبقبول المواطن بها من خلال تفعيل دوره بوسائل تشاركية حديثة.

وأصبح أضعف الإيمان البحث عن كفاءة القاضي في النظر بملفه ومدى نزاهته، في كل قضية على حدة. ولكن معالجة القضايا “على القطعة” لا تنعكس إيجاباً في خلق ثقة في المؤسسة ولا ثقافة قانونية لدى المواطن، إنما يتحول القضاء إلى نموذج للوسائل البديلة لحل النزاعات القائمة على حرية اختيار اللجنة الحاكمة.

لم تسهم السلطة القضائية في تحصين مرفق العدالة وتثبيت هذه اللبنة في بناء الدولة. بل كانت إحدى أدوات الإقطاع السياسي الذي تمترس في مرحلة ما بعد الطائف استمراراً لمتاريس الحرب والإقطاع، وأحد مسببات الانهيار الحالي بتخليها عن دورها في روابط الثقة مع المواطن. هذ المواطن رفع مطلب استقلال القضاء في 17 تشرين/ أكتوبر واستجداه ليلعب دوره كحصن أخير من حصون الدولة.

لم يعد لدى المواطن شيء يخسره بعد كل هذا الانهيار، ولن يجدي نفعاً إصدار قوانين تنظم استقلالية القضاء، تصبغ بالشرعية عمل مجلس النواب وتبقى بعيدة عن التفعيل. فالقضاء صراحة أدى لعبة لا تليق بمقامه. وحكم القانون هو الذي أصبح بعيد المنال.

نستذكر في هذا السياق التصفيق الإعلامي وتصفيق بعض المجتمع المدني عند تعيين مدعي عام التمييز ورئيس مجلس القضاء الأعلى الأخيرين. إلا أن تغييب دورهما منذ بدء الانهيار ولاحقاً مع تفجير المرفأ وصولاً إلى ما نشهده، قد أثبت أن المكونات المختلفة تعمل على إيقاعات بعيدة عن إيقاع حاجة المواطنين.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

دكتوراه في القانون/أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  سيكولوجية أطفال غزة ما بعد 7 أكتوبر