الولايات المتحدة الأمريكية ليست فى أزهى عصورها. نحن حين نفتتح نقاشنا بهذه العبارة لا نعلن جديدا ولا نطلق قنبلة إثارة، إنما نريد أن يجرى تأملنا وحواراتنا ونحن متحررون من سيطرة حالة فكرية هيمنت لمدة طويلة. هيمنت إلى حد أننا كنا نحرم أنفسنا من متعة الخوض فى المستحيل أو حتى فيما يقترب منه وكان يقع تحت عنوان الشطط وفى أحسن الأحوال تحت عنوان القناعات الأيديولوجية. بكل البساطة الممكنة ذهبنا فور أن استأنفنا عرض الرأى، كل فرد على انفراد وكلنا مجتمعون، إلى إعلان تحررنا الفكرى من أغلال حقيقية أو توهمناها عبر العقود والسنين. كنا مثل عديدين من أشخاص وظيفتهم التفكير نقرر سلفا أن أمورا تقع فى دائرة الغيب مثل صنع القرار السياسى فى الولايات المتحدة باعتبار أنها عملية شديدة التعقيد وتخضع لعوامل لا يمكن التكهن بأهميتها ودورها، وبالتالى كان البعض منا يخرج من دائرة النقاش مجبرا على القبول بالرأى السائد عن عمليات صنع القرار الأمريكى، أيا كانت طبيعته والصادر فى النهاية حسب هذا الرأى السائد نتيجة تفاعل مؤسسات كثيرة جدا وتمحيص عقول جبارة وخبرات نادرا ما تتوفر فى أمم أخرى.
***
كنت هناك قبل وخلال ثورة شباب الجامعات على حرب أمريكا فى فيتنام. وقتها اتهموا الشباب بأنهم خضعوا لدعايات شيوعية رتبت لها موسكو بعناية فائقة وأموال طائلة. وبرغم الرقابة على الإعلام والضغوط السياسية والأمنية على أنشطة الاحتجاج والمعارضة والتمرد كانت الأخبار الخارجة من فيتنام تؤكد زيف البيانات الرسمية عن القتلى فى جانب أمريكا والدول الحليفة التى غصت بأعدادها الهائلة الأراضى الفيتنامية. استمرت أجهزة الحرب تدافع عن استمرارها وتواصلت أنشطة الاحتجاج تدعو إلى الانسحاب أمام تفاقم عنف القوات الأمريكية وكثرة ضحاياها على الطرفين. فشلت الحرب فى فيتنام كما كان واضحا منذ البداية ولا يقلل من ضخامة هذا الفشل واقع يتباهى به أصحاب منطق معين وخلاصته أن علاقات طيبة تقوم الآن بين فيتنام والولايات المتحدة كدليل على أن أمريكا انتصرت فى النهاية وليست فيتنام التى توحدت وحققت لشعبها استقرارا دام أكثر من نصف قرن بعد توقيع أمريكا على اتفاقية الصلح.
أمريكا ما بعد أفغانستان قوة دولية كبيرة وليست قوة عظمى ولا تقود. لا تقود ليس لأنها لا تريد أن تقود ولكن لأن القوى الدولية الأخرى لا تريد أن تقودها أمريكا. إنجلترا مثلا أعلنت على لسان وزير دفاعها أنها لن تعتمد فى أمنها مستقبلا على الولايات المتحدة. فرنسا وغيرها فى الاتحاد الأوروبى عاقدة العزم على إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة عن حلف الأطلسى
وفشلت حرب أمريكا ضد العراق. هذه الحرب التى مارس فيها جنود أمريكا وضباطها أبشع أعمال العنف والتعذيب والتخريب والانتقام، مارسوها بشهادات المخضرمين منهم وإفادات أهل العراق. حرب لم يتحقق بعد علماء السياسة الأمريكيون قبل غيرهم من الأجانب من السبب الذى دفع رئيسا غير متوازن دينيا وعقليا وتنقصه تجارب حياة لشنها. لم تكن هناك فى العراق أسلحة دمار شامل. لعل السبب كان حاجة جهاز أمريكى معين لتغيير نسب الوضع الطائفى فى البلاد، أو لعله كان التحقق من صلاحية فكرة الهدم البناء، وكانت لا تزال فى بدايات بحثها للتأكد من جدواها. ولعل السبب كان رغبة مجموعة من الصهيونيين العتاة فى البنتاجون وخارجه ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر دونالد رامسفيلد الذى مات مؤخراً وكان وزيرا للدفاع فى عهد الرئيس جورج بوش الإبن وجون بولتون مستشار الأمن القومى فى عهد دونالد ترامب ورتشارد بيرل الملقب حينا بدراكولا وحينا آخر بأمير الظلام. ولعل السبب كان الانتقام العاجل لمؤامرة تفجير طائرات مدنية برجى التجارة العالمى فى نيويورك وقصف البنتاجون فى واشنطن وهى المؤامرة التى هزت ثقة الأمة الأمريكية فى كفاءة مؤسساتها الأمنية. وهو فى الوقت نفسه السبب المعلن على الأقل لغزو أفغانستان، وهو الغزو الذى نحن وغيرنا بصدد التفكير فى أبعاده المستقبلية وما إذا كان أحد أبعاد هذا الفشل الاقتراب من لحظة نهاية الحلم أو الوهم الأمريكى.
***
يسأل الناس الأقرب إلى السياسة من غيرهم، يسألون إن كانت الحرب فى أفغانستان بتكلفتها الباهظة وحصيلتها الجوفاء ونهايتها البشعة آخر حروب الأمريكان. أم أنهم أى الأمريكيون يسعون جديا وبحماسة وبتحشيد الأنصار وإغراء تجار الحروب والمستفيدين منها، يسعون جديا نحو حرب عالمية تملأ الفراغ الذى خلفته الحرب العالمية ضد الإرهاب. اللافت للإنتباه هنا أن بايدن صاحب الحملة الداعية إلى إنهاء الحرب العالمية ضد الإرهاب هو الرئيس ذاته الذى يصرخ فى النفير يوميا داعيا ما تبقى له من حلفاء فى الغرب وأغراب فى جنوب شرقى آسيا بالإضافة إلى أستراليا واليابان والهند، داعيا إياهم إلى حرب عالمية ضد الصين. تأتينا الإجابة حاسمة وغير مترددة على لسان الرئيس بايدن ممثل المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة: لن تكون أفغانستان آخر حروب أمريكا، ولن تكون الحرب العالمية ضد الإرهاب آخر الحروب العالمية.
أمريكا ما بعد أفغانستان قوة دولية كبيرة وليست قوة عظمى ولا تقود. لا تقود ليس لأنها لا تريد أن تقود ولكن لأن القوى الدولية الأخرى لا تريد أن تقودها أمريكا. إنجلترا مثلا أعلنت على لسان وزير دفاعها أنها لن تعتمد فى أمنها مستقبلا على الولايات المتحدة. فرنسا وغيرها فى الاتحاد الأوروبى عاقدة العزم على إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة عن حلف الأطلسى الذى كانت تقوده بدون نجاح عسكرى يذكر الولايات المتحدة الأمريكية. أظن أن تايوان سوف تعيد ترتيب أوراقها، لن تضع كل أوراقها فى السلة الأمريكية اليابانية، وكذلك دول فى منظمة الآسيان وفى شرق أوروبا وشمال وسط آسيا.
أظن فى الوقت نفسه أن دولا قليلة جدا فى الشرق الأوسط سوف تحاول على ضوء نتائج الحرب الأمريكية فى أفغانستان إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها، ودوافع ظنى ليست خافية.