عندما أعلن الكرسي الرسولي، رسمياً، في الرابع من تموز/يوليو الماضي ان البابا فرنسيس أُدخل مستشفى “جيميلي” في روما لاجراء عملية جراحية للقولون، كثرت التكهنات بشأن إحتمال استقالة البابا من موقعه الكنسي كحبر اعظم، وتبين أن مصدرها أولئك الذين ضاقوا ذرعاً بحملته الاصلاحية داخل الكنيسة الكاثوليكية.
ومع تعافيه في الأيام الأخيرة، أطل البابا فرنسيس في أكثر من مقابلة صحافية، وتناول أموراً سياسية وكنسية ابرزها الآتي:
أولاً؛ على الصعيد الكنسي؛ كان البابا فرنسيس صريحاً بقوله إنه لم يفكّر في الاستقالة لا قبل العملية الجراحية ولا بعدها لأنها “لم تكن بالخطورة الكبرى”، وأشار إلى ان البعض كان يحاول “التشويش من خلال الزعم ان البابا بوارد الاستقالة وهذا غير صحيح”، لا بل قالها بوضوح “انا اتحمّل كامل مسؤولياتي على رأس الكنيسة واقوم بالاصلاحات الضرورية في ادارة الكنيسة لا سيما مكافحة الفساد”، وهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها بشكل لا لبس فيه انه “حتى لو كان الكاردلة قد تورطوا يجب ان تتم محاكمتهم وفق القوانين المعترف بها ولا غطاء على احد في قضايا الفساد”.
ثانياً؛ لدى الاستفسار عن موقف الفاتيكان من الانسحاب الاميركي من افغانستان، اعلن البابا فرنسيس ان “موقف الكرسي الرسولي الدائم والثابت والراسخ يقوم على اعتبار انه لا يمكن وليس جائزاً ان تقوم دول معينة بما تتمتع به من قوة وبطش بالسيطرة على دول وشعوب ضعيفة تحت شعارات واهية مثل استقدام او جلب الديموقراطية”، وهذا الموقف ليس بجدبد، لكنه أكثر تقدما من سابقه من مواقف في هذه النقطة بالذات.
ثالثاً؛ تعمد البابا تخصيص المستشارة الالمانية انجيلا ميركل بتحية خاصة، بقوله “انا أحيي ما ذكرته المستشارة الالمانية في احدى خطاباتها الختامية التي تودع فيها الحياة السياسية من بعد عمر طويل في موقعها على رأس المانيا”، واصفاً اياها بأنها “سيدة عظيمة وتتكلم باسم اوروبا”، مستشهداً بما قالته أنه لا تكون الديموقراطية بواسطة الحراب والاسلحة والدمار وتدمير حضارات وثقافات وشعوب أخرى، وهذا الموقف للمستشارة الالمانية كان موقف الكرسي الرسولي منذ بدأ الكاردينال الراحل أغوستينو كازارولي الذي كان أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان بين عامي 1979 و1990 “ببطء، ببطء، ببطء” (كرر البابا فرنسيس العبارة ثلاث مرات)، بحفر جدار سميك بواسطة ابرة مع الاتحاد السوفياتي من خلال الحوار.
البابا فرنسيس: “حتى لو كان الكاردلة قد تورطوا يجب ان تتم محاكمتهم وفق القوانين المعترف بها ولا غطاء على احد في قضايا الفساد”
رابعاً؛ أعلن البابا رفضه استضعاف الشعوب بقوله “لا يمكن ان تكون هناك سلطات تستضعف باسم قوتها شعوباً اخرى وتستهلك وتقضي على حضارتها. فقط الحوار هو طريق بناء السلام وبناء الحضارة”.
خامساً؛ تعمّد البابا الاستشهاد بلقائيه التاريخيين مع كل من شيخ الازهر الدكتور احمد الطيب والمرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني، فقال عن الأول “انا وشيخ الازهر الذي بنيناه وارسيناه بواسطة وثيقة الاخوة الانسانية هو المستقبل”، وعن الثاني “انا التقيت بالمرجع الشيعي الكبير السيد السيستاني، هذا الرجل الذي فيه الكثير من القدسية، وبمجرد أن جلسنا الى بعضنا البعض وجدنا اننا متفقون على كل النظرة إلى بناء عالم المستقبل”، وشدد على استكمال هذه الطريق معا خصوصا في منطقة الشرق الاوسط التي دفعت ثمناً غالياً جداً لـ”غطرسة الدول المسماة دول عظمى”.
في كل احاديث البابا فرنسيس بعد تعافيه لم يأت على ذكر لبنان ولم يُعلن أن هذا “البلد ـ الرسالة” على حد تعبير البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، سيكون على خريطة زياراته في ما تبقى من هذه السنة، حيث سيزور في جولته الخارجية الخامس والثلاثين هذا الشهر كلاً من هنغاريا وسلوفاكيا وربما تشيكيا.
لا يأمل من يتابع لبنانياً “رسائل” البابا فرنسيس سوى “أن تنسحب روحه الإصلاحية على الواقع اللبناني، بدءاً من الكنيسة ومؤسساتها وصولاً إلى السياسة التي تستوجب وضع مصلحة الناس في صلب خطابات وممارسات كل السياسيين بدل تقديم المصالح الخاصة على حساب الناس”.