في ماهيّة الاسلام: الخلافة في التراث الشيعي الإثني عشري (3)

موضوع الخلافة في التراث الشيعي الاثني عشري أكثر تعقيداً منه في التراث السنّي. السبب الرئيسي هو غياب تجربة الحكم عند أئمّة الشيعة الاثني عشريّة في الفترة التي ظهر فيها مفهوم الخلافة مع الامويين والعباسيين الأوائل. وأيضاً كون تجربة الإمام علي بن أبي طالب كانت قبل ظهور مؤسسة الخلافة كما ناقشت في مقال سابق وكذلك هي قبل تبلور الفكر الشيعي.

كان لأئمّة فرق شيعية تجربة مباشرة في موضوع الحكم كالفاطميين الإسماعيليين الذين أسسوا خلافتهم في أوائل القرن العاشر في ما يعرف اليوم بتونس، ونقلوها بعد ذلك إلى مصر سنة 969 وحكموا بلاد الشام والحجاز. استخدم الفاطميون مفهوم الخليفة بالمعنى نفسه الذي استخدمه قبلهم الأمويون والعباسيون، أي خليفة الله. نجد ذلك مثلاً في رسالة الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله (حكم 953-975) إلى القاضي النعمان (ت. 974) يعيّنه قاضياً على قضاة مصر. يقول المعزّ:

“وما التبس عليك فأشكل واشتبه فأعضل أنهيته إلى أمير المؤمنين ليوقفك على وجه الحكم فيه فتمتثله وتعمل عليه. فإنّه بقيّة خلفاء الله المهديّين وسلالة الأئمّة الراشدين الذين أمر الله جلّ اسمه بسؤالهم والاقتباس من علمهم وردّ الأمر إليهم”.

بعبارة أخرى، يجب على القاضي أن يحيل كلّ أمر حوله إشكالية إلى الخليفة الفاطمي من أجل أن يعطيه الجواب الشافي ليعمل به ويطبّقه. ومن دون شك، فإن فكرة أنّ الخليفة الفاطمي هو “بقية خلفاء الله” ليست اعترافاً بشرعية الخلفاء الراشدين (غير الإمام علي طبعاً) أو الأمويين أو العباسيين، بل هي تأكيد على أنّ من اختارهم الله للخلافة ولإمامة الدولة والدين همّ الأئمّة الشيعة الاسماعيليّة.

لكن الموضوع مختلف عند الشيعة الاثني عشرية التي تبلورة كمفهوم فكري وديني في القرنين التاسع والعاشر (وهو شيء مشابه لتطوّر المذاهب السنّيّة). كذلك لم تكتمل تجربة الإمام الثامن علي الرضا الذي جعله الخليفة المأمون وليّاً لعهده في سنة 817 وقتل في سنة 818 ولم تكتمل بالتالي فرصة أن يصبح خليفة.

 النقطة المحوريّة عند الاثني عشريّة هي من دون شكّ سنة 874، حين توفي الإمام الحسن العسكري (مسموماً بأمر من الخليفة العباسي المعتمد على الله) وخلفه حسب المعتقد الاثني عشري ابنه محمد المهدي. لكن إمامة المهدي لم تكن إمامة طبيعية. فهي بدأت مع ما يسمّى بالغيبة الصغرى (874-941)، وتلتها بعد ذلك الغيبة الكبرى (941 إلى الآن). إذاً، منذ 874. بدأت المرجعية الدينية عند الشيعة الاثني عشرية بالإنتقال من الإمام إلى الفقهاء. لكن ماذا عن الخلافة ودورها؟

المدهش في تفكير ابن بابويه ثلاثة أمور: أن الإمام لم يكن فعليّاً موجود؛ أنّ معظم الشيعة الاثني عشرية كانوا يعيشون تحت حكم خلفاء عباسيين أم فاطميين؛ أن فقهاء الاثني عشرية لم تكن لهم تجربة مباشرة في الحكم حتّى أواخر القرن الخامس عشر مع قيام الدولة الصفويّة في إيران وجوارها

من المنحى العقائدي، الإجابة سهلة. مثلاً، يقول العلامة ابن بابويه (ت. 991) – المعروف بالشيخ الصدوق – في كتابه “كمال الدين وتمام النعمة” أنّ الله “وعد أن يستخلف من هذه الأمّة خلفاء راشدين” كما تقول الآية 55 من سورة النور (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم..)، وأنّه “ليس لأحد أن يختار الخليفة إلا الله” وبرهان ذلك الآية 30 من سورة البقرة (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة). لذلك، برأي ابن بابويه، “من ادّعى أنّه يختار الإمام وجب أن يخلق بشراً من طين” (وهي إشارة إلى الآية 71 من سورة ص: إذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين). ويضيف ابن بابويه أنّ الله يختار الخليفة الإمام وأنّ الدنيا لا تخلو ساعة منه، إذ من دونه يتلف البشر وتنتشر المفاسد.

المدهش في تفكير ابن بابويه (وكثير من علماء الاثني عشرية في تلك الفترة) ثلاثة أمور: أن الإمام لم يكن فعليّاً موجود؛ أنّ معظم الشيعة الاثني عشرية كانوا يعيشون تحت حكم خلفاء عباسيين أم فاطميين (أي خلفاء ليست لهم شرعية وفقاً للفكر الاثني عشري)؛ أن فقهاء الاثني عشرية لم تكن لهم تجربة مباشرة في الحكم حتّى أواخر القرن الخامس عشر مع قيام الدولة الصفويّة في إيران وجوارها (مع الاشارة إلى استثناءات قليلة جدّاً، مثلاً حكم الحمدانيين في حلب ومنطقتها هي تجربة حكم لأسرة شيعية اثني عشرية وليست تجربة حكم اثني عشري ديني).

إذاً، ما هو فعليّاً مقصد كلام ابن بابويه؟ هذا السؤال يدخلنا في أهم اشكاليات الفكر الاثني عشري، تحديداً الموازنة بين الاعتقاد بالدور الإلهي للخليفة الإمام على الأرض، والذي هو أهم شروط الإيمان عند الشيعة عامّةً، وبين الواقع الذي يحتّم على الفقهاء تدبير الأمور في غياب الإمام. يدخلنا هذا الأمر أيضاً في مفهوم التقيّة الذي أصبح أيضاً من أسس المذهب الاثني عشري، إذ أن وجود خلافة الأمر الواقع (العباسيون، الفاطميون، الخ) فرض على فقهاء الاثني عشرية الاحتياط على النفس والرعية من بطش حكام الجور وعدم المطالبة فعليّاً (وهو عكس الأمنية) بأحقيّتهم في الحكم. وهناك اشكالية أخرى وهي تفادي أي إيحاء بأنّه من الممكن الاستغناء عن الإمامة أو أن العالم يمكنه أن يستمر من دون إمام، وهو أمر إن حصل يؤدّي إلى انهيار أسس الفكر الشيعي الاثني عشري كاملاً. إذاً إصرارهم على أحقيّة الإمام بالرئاسة الدينية والسياسية وحديثهم عن مؤسّسة الخلافة يجب فهمه ليس على أنّه نظري بحت، بل مقصود وهدفه الدفاع عن شرعية الأئمة ودورهم كما أراده الله، حتّى إذا كان ذلك يختلف عن الواقع الذي أوجده خلفاء وسلاطين الأمر الواقع الذين يسميّهم فقهاء الاثني عشرية بـ”سلاطين الجور”.

انتهى دور مؤسسة الخلافة عند الشيعة الاثني عشرية في بعده التنفيذي (إن كان دينياً أم سياسيّاً)، وبقي فقط في بعده العقائدي

فرض الواقع أيضاً على فقهاء الاثني عشريّة أن يجدوا حلاً لمشكلة تطبيق الشريعة في ظل غياب الإمام. لذلك نجدهم ينقلون مهام الإمام الغائب في الأمور الشرعية إليهم عبر ما سمّوه “التفويض” كما يقول الشيخ المفيد (ت. 1022) في كتابه “المُقنعة” والشيخ الطوسي (ت. 1067) في كتابه “النهاية”، أو “الاستخلاف” كما يقول الشريف المرتضى (ت. 1044) في كتابه “المقنع في الغيبة”. ويقول الطوسي أنّ على الفقيه “تنفيذ الأحكام على ما تقتديه شريعة الإيمان” لكنه إذا “اضطرّ إلى تنفيذ حكم على مذاهب أهل الخلاف بالخوف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم، جاز له أن ينفّذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس، فإنّه لا تقيّة له في قتل النفوس”.

إقرأ على موقع 180  لكم دِينُكم السياسي.. وللناس دِينَها العميق

بمعنى آخر، يقرّر الفقيه (نيابة عن الإمام الغائب) كيفية تطبيق الشريعة وفقاً للظروف التي تحيط به.

وترافق ظهور التيّار الأصولي في الاثني عشريّة، مع إستخدام مفهوم “النيابة العامّة المطلقة” التي لا تحتاج إلى تفويض من الإمام الغائب من أجل نقل السلطة الدينيّة كاملةّ إلى الفقيه؛ وهو أمر رفضه الأخباريون الاثناعشريون الذين أصرّوا على أنه في فترة الغيبة، يجب التقيّد بأخبار وسنّة الأئمة السابقين. وأوّل من أُطلق عليه لقب “نائب الإمام” كان العلامة علي الكركي (ت. 1534) في أوائل حكم الدولة الصفويّة. وأصبح هذا المفهوم شائعاً في القرن السادس عشر مع زين الدين العاملي (ت. 16 رمضان 965) – المعروف بالشهيد الثاني – إذ يقول: “لا يتحقّق قصد النيابة عن الإمام عليه السلام مع عدم اتّصاف النائب بصفات الفتوى”، وهو يشير بذلك إلى أنّ النائب يجب أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية وله القدرة فرديّاً على الاجتهاد والافتاء.

وفي القرن الثامن عشر عُمّمَ مفهوم نيابة الإمام ليشمل أمور الحكم والسياسة، وهو الأساس الذي بنى عليه الإمام الخميني في ما بعد نظرية ولاية الفقيه.

في كلا الحالتين، انتهى دور مؤسسة الخلافة عند الشيعة الاثني عشرية في بعده التنفيذي (إن كان دينياً أم سياسيّاً)، وبقي فقط في بعده العقائدي.

(*) في الحلقة المقبلة الخلافة في العصر الحديث

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الفضائيات العربية بين عولمتين: جيوبوليتيك الهيمنة وإعادة رسم الهويات