“المنافسة الاستراتيجية المتعاظمة بين إسرائيل وإيران، بالإضافة إلى وصول إدارة أميركية جديدة، هما المصممان المركزيان اللذان بلورا النظام الشرق الأوسطي في السنة الماضية. إلى جانب ذلك هناك الساحة الفلسطينية القابلة للانفجار في قطاع غزة والضفة الغربية، وتقدُّم عمليات بناء القوة في حزب الله، وخصوصاً مشروع “السلاح الدقيق”، وانتهاء الحرب الأهلية السورية وتمركُز قوات إيرانية وروسية في سوريا، والسباق الإقليمي على موارد الطاقة والنفوذ في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، والأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان، وجائحة الكورونا، والأزمة الاقتصادية الإقليمية المتعاظمة، وعودة تحدي الجهاد العالمي مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، كل ذلك يجسد حجم التغير التنظيمي في المنطقة وتداعياته على أمن إسرائيل القومي.
ضمن هذا الإطار، يمتنع “محور الممانعة”، الذي يوظف في بناء القوة وفي تطوير قدرات متطورة (نووية وسلاح دقيق وسايبر وغيره)، من استخدام القوة في هذه المرحلة. مع ذلك، فإن المنطق لا يسير كخط مستوٍ، وعندما تحين فرصة استراتيجية، أو عندما يكون مطلوباً الدفع قدماً بأجندة وطنية – دينية رداً على حدث محدد (القدس، قضية الأسرى، هجوم مستقبلي على لبنان) فإن هذا المحور لن يتردد في الرد والتصعيد. هذا التحليل يجسد قوة الدينامية الإقليمية وحدود الردع الإسرائيلي، الأمر الذي يفرض بلورة استراتيجيا إسرائيلية ملائمة تقدم رداً على التهديدات الناشئة، وأيضاً على الفرص.
المصممون الاستراتيجيون:
أ ـ تقليص الوجود الاستراتيجي الأميركي في الشرق الأوسط
إعادة تركيز سلّم أولويات الأمن القومي الأميركي المصحوب بشعور متزايد بالأزمة في مواجهة التحدي، الذي تمثله الصين وروسيا للنفوذ الأميركي، ازداد حدة خلال الإدارتين الأميركيتين الأخيرتين. ازدياد المنافسة على بلورة نظام عالمي سرّع “التوجه نحو شرق آسيا” لدى الإدارة الحالية، وانعكس على سياستها وخطواتها في الشرق الأوسط.
ضمن هذا الإطار، كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي حظي بتأييد الحزبين الكبيرين في واشنطن، قبل كل شيء تعبيراً عن رغبة الإدارة الأميركية في التركيز على التهديدات الاستراتيجية المركزية التي تهدد أمنها القومي. من ناحية أُخرى، اعتُبر هذا الانسحاب في الشرق الأوسط “انتصاراً للمقاومة” وتعبيراً عن “الصمود” ضد الإمبريالية الأميركية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة ضغط إيران وداعش على القوات الأميركية في العراق وسوريا بهدف تسريع خروجها من المنطقة.
يشكل التنسيق الاستراتيجي والسياسي الإسرائيلي مع الروس مصلحة حيوية، والمطلوب تعزيزه من أجل المحافظة على الحرية العملانية للجيش الإسرائيلي في الساحة اللبنانية
لذا، يتعين على الإدارة الأميركية إعادة تفعيل ضماناتها لأمن حلفائها الإقليميين وبلورة سياسة متوازنة تتوزع بين التركيز على المنافسة الاستراتيجية في مواجهة الصين وروسيا وبين الاستمرار في التوظيف في الشرق الأوسط من خلال لجم السياسة التآمرية لإيران في المنطقة.
في المقابل، وكجزء من السياسة العامة الناتجة من هذا النهج، تسعى الإدارة الأميركية للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي تعتبره مصلحة استراتيجية حيوية يسمح لها مجدداً بالموازنة بين التزام واشنطن تأمين الاستقرار والأمن الإقليميين وبين حاجتها إلى التفرغ لمعالجة مشكلات داخلية ملحة (الاقتصاد والكورونا)، وإلى المنافسة المحتدمة مع الصين وروسيا.
إعلان جو بايدن أمام رئيس الحكومة بينت أنه سيمنع إيران من تطوير قدرة نووية، أو التحول إلى قوة نووية عظمى، ركّز على تعبير محدد وضيق هو تطوير سلاح نووي. في هذه المرحلة إيران تحلل جيداً الاستراتيجيا الأميركية، ولا تسارع إلى العودة إلى الاتفاق النووي، وتعمل على تطوير قدرات تكنولوجية متطورة قادرة على استخدامها كورقة مقايضة في مفاوضات مستقبلية، وعلى تموضعها كدولة على عتبة النووي.
ضمن هذا السياق، على إسرائيل ترسيخ التزام الولايات المتحدة بأمنها من خلال توثيق التعاون الاستراتيجي والمحافظة على التفوق النوعي وضمان دعمها لعمليات بناء القوة العسكرية. كما يجب على إسرائيل محاولة التاثير في المفاوضات في فيينا، وفي بلورة الاتفاق، من خلال العمل مع الإدارة الأميركية لا ضدها، ومن خلال فهم سلّم الأولويات القومي الأميركي والأثمان المحتملة للعلاقات بين الدولتين مع سيناريو معارضة إسرائيلية علنية لخطوات واشنطن. بالإضافة إلى ذلك يعزز التحرك الأميركي رصيد إسرائيل في دول الخليج ومصر والأردن في معركة كبح النفوذ الإيراني، ويساهم في تعميق التعاون الإقليمي.
ب ـ المنافسة الاستراتيجية بين إسرائيل وإيران تزداد حدة
في السنة الماضية ارتفعت درجة الاحتكاك بين إسرائيل وإيران على خلفية استمرار إيران في مساعيها للتأثير والتمركز في المنطقة (العراق، سوريا، اليمن، لبنان) بالإضافة إلى الاشتباكات العلنية في الساحة البحرية، وأدى التقدم في المشروع النووي إلى وصول طهران إلى مرحلة إشكالية بالنسبة إلى القدس والمجتمع الدولي. في المقابل، بلورت إسرائيل مع الولايات المتحدة بنية إقليمية للجم إيران وردعها (“اتفاقات أبراهام”)، وتحركت ضمن إطار المعركة بين الحروب في الساحة السورية للحد من التمركز الإيراني، وبحسب مصادر أجنبية، دفعت قدماً بعمليات سرية في إيران أدت إلى إبطاء التقدم في المشروع النووي.
ج- التفكك في لبنان.. وتعاظُم قوة حزب الله
الأزمة السياسية والاقتصادية المتعددة الأبعاد في لبنان تسرّع عمليات التفكك السياسي الذي يتجلى في الخلل في أداء عمل وزارات الحكومة وفقدان القدرة على الحكم والضرر الفادح الذي لحق بنوعية حياة المواطنين (في الكهرباء والسلع الأساسية والدواء وارتفاع كبير في مستوى الفقر وغيره). في ظل هذه الظروف القاسية يعمل حزب الله بدعم من إيران على ترسيخ وتوسيع قبضته على الدولة من خلال المساعدة الإنسانية والتزود بالطاقة (النفط).
التدهور العام لا يمنع إيران وحزب الله من مواصلة وتسريع عمليات بناء القوة العسكرية، وخصوصاً مشروع الصواريخ الدقيقة، من أجل ترسيخ معادلة ردع في مواجهة إسرائيل. والدفع قدماً بالاستعدادات للمعركة المقبلة. صحيح أنه ليس من مصلحة حزب الله فتح مواجهة عسكرية مع إسرائيل في ضوء الوضع الصعب في لبنان والأثمان التي يمكن أن يدفعها في الساحة الداخلية، لكن احتمال التصعيد في حال حدوث سيناريو هجوم إسرائيلي استباقي ضد مشروع تعاظُم القوة في لبنان يبقى عالياً إزاء الحساسية التي يُظهرها الحزب حيال تآكل المعادلة القائمة.
بناء على ذلك، يتعين على إسرائيل لجم عملية تعاظُم القوة في لبنان حتى ولو كان الثمن القيام بمخاطرة ضمن إطار المعركة بين الحروب في سوريا. القيام بعملية جريئة توضح لنظام الأسد ثمن تأييده لحزب الله، وتدق إسفيناً بين المصلحة السورية (إعادة إعمار سوريا) والمصلحة الإيرانية (بناء القوة ونقل قدرات) سيرفع من مستوى التوتر واحتمال التصعيد، ويمكن أن يؤدي إلى تغيير في سلوك اللاعب السوري بصورة تتماشى مع المصلحة الإسرائيلية. ضمن هذا الإطار يشكل التنسيق الاستراتيجي والسياسي مع الروس مصلحة حيوية، والمطلوب تعزيزه من أجل المحافظة على الحرية العملانية للجيش الإسرائيلي في هذه الساحة.
على صعيد الدولة اللبنانية، وفي ضوء الأزمة العميقة والتفكك السياسي، يجب على إسرائيل دفع المنظومة الإقليمية والدولية إلى دعم القوى المعارضة للنفوذ الإيراني والقادرة على الحد من نفوذ إيران المتعاظم في لبنان. “رزمة” مساعدة تشمل نقل الغاز والنفط من مصر والأردن، ومنح هذه الدولة قروضاً من دول الخليج، ومساعدة اقتصادية وعسكرية من الولايات المتحدة وأوروبا يجب أن تكون مشروطة بلجم النفوذ الإيراني في لبنان ووضع قيود على تعاظُم قوة حزب الله.
هذا النمط في سلوك السنوار ليس من المتوقع أن يتغير، وهو ما يفرض على إسرائيل الاستعداد لسيناريو معركة ضد الحركة خلال وقت قريب. في هذا الإطار نوصي بإصلاح الفجوات التي ظهرت خلال عملية “حارس الأسوار”، وفي طليعتها قيام إسرائيل بمبادرة هجومية
د – الساحة الفلسطينية: الضفة الغربية كفرصة بالإضافة إلى التحدي المتزايد من غزة
امتازت السنة الماضية باستمرار الواقع الاستراتيجي في الضفة الغربية في مقابل تغيُّر سلبي وتفاقُم التهديدات في ساحة غزة. وبينما استمرت في الضفة الغربية الصيغة الأساسية التي سمحت لإسرائيل منذ أكثر من عقد باستقرار استراتيجي، أي المحافظة على الواقع المدني وتحسينه كقاعدة لهدوء أمني، الأمر الذي أدى إلى لجم تعبئة جماهيرية واسعة للنضال ضد إسرائيل، ظهر في القطاع مسعى “حماس” المتواصل لتغيير قواعد المعادلة واللعبة ضد إسرائيل والاستمرار في تأجيج الوضع بواسطة العنف، وهو ما يزيد من معقولية التصعيد في هذه الساحة.
ثمة أمر برز بصورة خاصة في “حارس الأسوار”، وهو أن “حماس” تبادر لأول مرة إلى الهجوم، وذلك على خلفية احتكاكات في الضفة الغربية والقدس من دون مواجهة مسبقة في القطاع. الأمر الذي يطرح تساؤلات بشأن التسوية التي تحاول إسرائيل الدفع بها قدماً في الأعوام الأخيرة في مواجهة “حماس”، ويؤكد أن السنوار مستعد للدفع قدماً بأهداف أيديولوجية من خلال خرق التسوية (مستخدماً أسلوب التجربة والخطأ)، انطلاقاً من الافتراض أنه من الممكن في الوقت الحالي العودة إلى الواقع الذي كان موجوداً قبل عملية “حارس الأسوار” من دون ضرر كبير أو تقديم تنازلات كبيرة، في الأساس في موضوع الأسرى والمفقودين.
في نظرة إلى الأمام، يفرض هذا الواقع على إسرائيل الاستمرار في تعزيز سياستها الحالية إزاء الضفة الغربية، والتي أثبتت فعاليتها في مواجهة أزمات كبيرة (بينها عملية “حارس الأسوار”)، ومن الممكن أن تبقى فعالة في المدَيين القصير والمتوسط، لكنها لا تشكل بديلاً من تسوية دائمة في الضفة تعتمد على الفصل بين إسرائيل والفلسطينيين، وهذا السيناريو بدأ يبتعد مع التمازج الديموغرافي والجغرافي في الضفة الغربية، والذي يقرّب الطرفين من واقع الدولة الواحدة.
في قطاع غزة، ننصح إسرائيل بالتخلي عن النموذج الذي ترسّخ في الأعوام الأخيرة للتسوية في ظل الشروط الحالية. يبدو أن هذه التسوية لن تثمر هدوءاً في المدى الطويل، وبدلاً من ذلك تؤدي إلى استمرار “حماس” في الاحتكاكات من دون وصولها إلى معركة واسعة النطاق، انطلاقاً من التقدير أن هذه الطريقة تمكّنها من التوصل إلى انتزاع إنجازات مدنية مهمة من إسرائيل. هذا النمط في سلوك السنوار ليس من المتوقع أن يتغير، وهو ما يفرض على إسرائيل الاستعداد لسيناريو معركة ضد الحركة خلال وقت قريب. في هذا الإطار نوصي بإصلاح الفجوات التي ظهرت خلال عملية “حارس الأسوار”، وفي طليعتها قيام إسرائيل بمبادرة هجومية وإلحاق ضرر جسيم بقيادة “حماس”، والتمسك بمواقف صارمة ضمن إطار بلورة التسوية المستقبلية وعدم التساهل كما جرى بعد عملية “حارس الأسوار” بشكل يمكن أن يُلحق الضرر بصورة الردع الإسرائيلية.
هـ – تغيرات جذرية في المجتمع العربي في إسرائيل
انطوت السنة الأخيرة على تغيرات دراماتيكية في المجتمع العربي في إسرائيل على صعيد الأمن القومي الإسرائيلي. برز ذلك خلال أحداث أيار/مايو (في ظل عملية “حارس الأسوار”) التي كشفت عن احتكاك عنيف بين العرب واليهود في الدولة، وتأثير غير مسبوق لسيناريوهات المعركة الفلسطينية فيما يجري وسط الجمهور العربي في إسرائيل. هذا إلى جانب تفاقُم الجريمة والعنف في المجتمع العربي، واللذين يكشفان فقدان سيطرة الدولة على أجزاء كبيرة من هذا المجتمع (وخصوصاً في الجنوب)، بالإضافة إلى تهديد انزلاق العنف على خلفية إجرامية في المجتمع العربي إلى عنف أمني (برزت بشائر ذلك في أحداث أيار/مايو). على المستوى الداخلي، تعكس ظاهرة العنف مشكلات أساسية تدل على عدم اندماج الجيل العربي الشاب في إسرائيل وخسارة الزعامة السياسية والجماهيرية العربية نفوذها.
ما يجري في المجتمع العربي يحوله إلى تحدّ استراتيجي من الدرجة الأولى، وهو يتطلب رداً متعدد الأبعاد. من جهة، المطلوب من الدولة بذل جهد واسع على صعيد فرض القانون، وخصوصاً في محاربة العصابات الإجرامية والسلاح في المجتمع العربي. من جهة ثانية، يجب تقديم جواب على الضائقة المدنية العميقة التي تشكل “مستنقعاً” لنشوء جزء كبير من مشكلات الجمهور العربي. ضمن هذا الإطار، بالإضافة إلى زيادة تخصيص الميزانيات لمصلحة الجمهور العربي، المطلوب الدفع قدماً بمشاريع تهدف إلى تحسين وضع الجيل الشاب وكذلك العلاقة المشحونة بين الجمهور العربي وبين الشرطة وتوسيع مشاركة العرب فيها.
و- عام على اتفاقات أبراهام: حلف يواجه تحديات لكنه قوي
لا يزال التهديد الإيراني يشكل العامل الذي يجمع “اتفاقات أبراهام”، الموقعة في سنة 2020 بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب. ضمن هذا الإطار شهدت السنة الماضية قفزة تاريخية في العلاقات الاستراتيجية مع الإمارات والبحرين والمغرب تجلت في تعاون اقتصادي ـ مدني – اجتماعي غير مسبوق واستعداد لمواصلة العلاقات الثنائية وتعميقها بين هذه الدول. السعودية من جهتها، وعلى الرغم من التعاون الوثيق القائم مع إسرائيل والولايات المتحدة، إلا إنها غير مستعدة في هذه المرحلة لدفع العلاقات نحو المرحلة المقبلة.
يتعين على إسرائيل العمل على ترسيخ التزام إدارة بايدن بـ”اتفاقات أبراهام” وتحريك العلاقات الخاصة مع واشنطن لتعزيز تأييد البيت الأبيض لدول الخليج ومصر والأردن على الصعيدين الأمني والسياسي. بالإضافة إلى ذلك يجب على إسرائيل تعميق تعاونها الاستراتيجي مع دول الخليج، وخصوصاً مع السعودية والإمارات، من أجل تأسيس نظام إقليمي يلجم النفوذ الإيراني.
كما يجب على إسرائيل العمل على تعميق التعاون الاستراتيجي مع مصر والأردن في مواجهة التحديات المتزايدة. استقرار مصر والأردن يشكل مصلحة استراتيجية لإسرائيل”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)