هل يملأ ماكرون فراغ ميركل أوروبياً؟

يأتي تقاعد أنغيلا ميركل من الحياة السياسية في ألمانيا، في لحظة تباعد غير مسبوقة بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعزّز فرص إيمانويل ماكرون لتبوء دور قيادي في القارة الأوروبية في زمن الإضطرابات الدولية المترتبة عن الحرب الأميركية ـ الصينية الباردة، فهل يستطيع؟ 

تصف مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أنغيلا ميركل بأنها ليست أوتو فون بسمارك ولا هلموت كول بمقياس البقاء في الحكم أو الإنجازات. بسمارك صنع إمبراطورية وسنّ أول نظام تقاعد وعناية صحية في أوروبا، بينما أشرف كول على إعادة توحيد ألمانيا ووافق على إستبدال المارك باليورو. أما إنجازات ميركل فكانت على مدى 16 عاماً أقل تواضعاً.

ومع ذلك، فإن أياً من المرشحين لخلافة ميركل، غير مؤهل لملء الفراغ الذي سينشأ بتقاعد المستشارة، لا مرشح الإتحاد الديموقراطي المسيحي أرمين لاشيت، ولا مرشح الحزب الديموقراطي الإشتراكي أولاف شولتس، ولا مرشحة حزب الخضر أنالينا بايربوك. فقد تمكنت ميركل في العام 2008 من إنتشال ألمانيا من أسوأ الأزمات الإقتصادية والمالية التي عرفها العالم في عقود، وأنقذت اليورو وإستطراداً المشروع الأوروبي برمته بعد الإنهيار اليوناني، واتخذت قرارات جريئة لإنتشال الإقتصاد الأوروبي بعد الضربة القوية التي تلقاها بسبب الإغلاقات التي فرضها وباء كورونا.

وبعد الخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي، حافظ الإتحاد على تماسكه، وحدّ من الأضرار الناجمة عن “بريكست”، بفضل المحور الألماني – الفرنسي. وبرزت ميركل كمدافعة أولى عن التكتل، وبقيت وفية لفكرة المستشار كونراد أديناور.

ومع ترجل ميركل عن صهوة الحياة السياسية، لن يفتقدها الألمان فقط، بل ستفتقدها أوروبا بالقدر نفسه، في وقت تعيش القارة لحظة إغتراب غير مسبوقة عن الولايات المتحدة، وتكثر الأسئلة عن مدى تماسك حلف شمال الأطلسي، بعد الإختلاف الكبير في الرؤى بين ضفتيه. وكان التباعد تعزز في عهد دونالد ترامب، ولم يتغير الإتجاه في عهد جو بايدن. وأفغانستان كانت مثلاً ساطعاً على التجاهل الأميركي المتصاعد لأوروبا. ووجد الأوروبيون أنفسهم أمام سؤال جدي: هل لا يزال في الإمكان الإعتماد على الولايات المتحدة لحمايتهم أم حان وقت بناء قوة أوروبية مستقلة؟

أزمة الغواصات والغضب الفرنسي الذي رافقها، لم تكن إلا أحد جوانب الإختلال في العلاقة. صفقة الغواصات كانت ثمرة تحالف أمني أسسته أميركا مع بريطانيا وأوستراليا لمواجهة الصين. ولم تستشر فرنسا تحديداً ولا الإتحاد الأوروبي عموماً بهذا التحالف. لكن باريس دفعت الثمن بإلغاء “عقد القرن” لبيع أوستراليا غواصات تقليدية بصفقة قد تصل إلى 90 مليار دولار. لكن بايدن رأى أن مستلزمات التصدي للصين، تتطلب تزويد أوستراليا بغواصات أميركية تعمل بالدفع النووي، لإحراز توازن عسكري أوفر مع الصين.

يطمح ماكرون من دون أدنى شك إلى وراثة ميركل أوروبياً، هذا إذا ما قُيّض له الفوز بولاية رئاسية ثانية في نيسان/أبريل المقبل، من دون أن يعني هذا أنه قادر على الإضطلاع بمثل هذا الدور

لا شك أن ماكرون استغل أيضاً أزمة الغواصات ليوظفها في رصيده السياسي، قبل أشهر من الإستحقاق الرئاسي في فرنسا، فحاول أن يخلق “لحظة ديغولية” تستعيد أيام إنسحاب شارل ديغول من الدائرة العسكرية لحلف شمال الأطلسي مدفوعاً بإستقلالية عن أميركا كان يجاهر بها عند منعطفات مصيرية. لكن هل يمكن ماكرون أن يرتقي إلى مستوى ديغول؟

ماكرون في المواجهة التي يخوضها مع أميركا، يختزل شعوراً بالمرارة من تزايد التجاهل الأميركي لفرنسا ولأوروبا، مع الإستدارة الإستراتيجية للولايات المتحدة نحو الصين، وتراجع إهتماماتها بالشأن الأوروبي وفي أماكن أخرى من العالم وبينها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وليست أزمة الغواصات وحدها السبب في التوتر الفرنسي – الأميركي. فـ”السيناريو الأفغاني” يقضُ مضاجع فرنسا في دول الساحل الأفريقي، مع تشجع الحركات الجهادية هناك بتجربة حركة طالبان. ويجد ماكرون نفسه مُرغماً على الإنسحاب أو التورط أكثر في حرب لا يمكن كسبها.

ومع تقاعد ميركل، يطمح ماكرون من دون أدنى شك إلى وراثتها أوروبياً، هذا إذا ما قُيّض له الفوز بولاية رئاسية ثانية في نيسان/أبريل المقبل، من دون أن يعني هذا أنه قادر على الإضطلاع بمثل هذا الدور. وسيكون بناء علاقة مع المستشار الألماني المقبل أولوية بالنسبة إلى ماكرون وفق ما ترى صحيفة “النيويورك تايمز”. لكن المديرة التنفيذية لمؤسسات أوروبا وأوراسيا للمجتمعات المفتوحة دانيالا شفارزر ترى أن على ماكرون أن يتحلى بالحذر في طموحاته حتى لا يخيف الألمان.

سيكون بناء علاقة مع المستشار الألماني المقبل أولوية بالنسبة إلى ماكرون وفق ما ترى صحيفة “النيويورك تايمز”

وبعد صدمة إلغاء عقد الغواصات الفرنسية، فإن الكثيرين من القادة الأوروبيين سيجدون ميلاً للأخذ برأي ماكرون لجهة أن أوروبا يجب أن تكون أقل إعتماداً على واشنطن وأن تنفق المزيد من موازناتها على الأمور الدفاعية الخاصة بها. وقد لا يغير رأي رئيسة الوزراء الدانماركية ميته فريدريكسن المعاكس، من هذا الإحتمال.

وتريد فرنسا أن تضطلع أوروبا بدور أكبر في تأكيد نفسها على الساحة الدولية في ظل تصاعد المنافسة الأميركية – الصينية. وأي مستشار ألماني جديد سيكون في حاجة إلى وقت لتأليف حكومة جديدة، والإنتقال بعدها للبحث في الشأن الأوروبي. وفي الوقت نفسه، لن يكون في إمكان ماكرون لعب دور قيادي على مستوى القارة قبل الإنتخابات الرئاسية في فرنسا.

إقرأ على موقع 180  الإتفاق النووي.. مسار متعرج من فيينا إلى الناقورة!

وحتى بعد أن تنتهي ألمانيا وفرنسا من فترتهما الإنتقالية، تبقى حقيقة أن الإتحاد الأوروبي يواجه مرحلة من عدم اليقين فرضها الخروج البريطاني من الإتحاد من جهة والتركيز الأميركي على المحيطين الهندي والهادىء من جهة ثانية.

وفي مطلق الأحوال، من السابق لأوانه الجزم في مسألة هل في استطاعة خلف ميركل أو ماكرون لعب الدور القيادي والمؤثر الذي كانت تلعبه المستشارة الألمانية السابقة في مواجهة الأزمات والتغيرات التي عصفت بأوروبا والعالم؟

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تركيا المُتعبة إقتصادياً.. هل تُعاقب إردوغان اليوم؟