هكذا كشف الجاسوس بولارد.. “أبو جهاد” إستخباراتياً (55)

في الحلقة السابقة من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية"، يروي المؤلف الكاتب رونين بيرغمان تفاصيل الخطة التي وضعها خليل الوزير (أبو جهاد)، الرجل الثاني في حركة فتح لإقتحام مقر قيادة الأركان الإسرائيلية في مجمع "كيريا" في تل أبيب وكيف تمكن "الإسرائيليون" من كشف سر العملية وصولاً إلى قتل عشرين فدائياً واسر ثمانية تم إقتيادهم الى معسكر تحقيق تابع لوحدة “فلوتيلا” يعرف باسم “مخيم 1391” شمال تل ابيب.

يقول الكاتب رونين بيرغمان انه بعد ان اعترفت مجموعة أبو جهاد بتفاصيل العملية التي كانت مكلفة بتنفيذها، أي احتلال مقر قيادة أركان “الجيش الإسرائيلي” في تل ابيب واخذ رئيس الأركان ووزير الدفاع رهائن، توصل قادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية في مجمع “كيريا” الى قناعة مفادها ان الاعتماد على الاستخبارات لمنع قيام هجمات فدائية لم يعد امراً كافياً. فأصدر وزير الدفاع حينها إسحاق رابين أمراً إلى قيادة الجيش بالتخطيط لعمليتين ضد قواعد أبو جهاد في تونس، خاصة وان إسحاق رابين كان احد ابرز اهداف عملية أبو جهاد التي أحبطت، فقدمت له قيادة الجيش خيارين:

الخيار الأول، عملية انزال بحري كبيرة بزوارق سريعة تنطلق من باخرة كبيرة باتجاه الشواطئ التونسية وتتألف هذه القوة من جنود تابعين لوحدات النخبة في وحدة “فلوتيلا 13″ و”سريات ميتكال” و”شالداغ” (نخبة الكوماندوس في سلاح الجو)، على أن تهاجم هذه القوة مقر قيادة أبو جهاد وقتله مع كل من في المقر، وتكون هذه القوة بقيادة العميد إسحاق موردخاي الذي عملت قيادة جهاز “الشين بيت” على تدمير سمعته إثر عملية “الباص 300”.

الخيار الثاني، قيام طائرات حربية “إسرائيلية” بقصف مقر القيادي الفلسطيني أبو جهاد في تونس، وبناء على هذين الاقتراحين بدأ موردخاي وسلاح الجو تدريباتهم بانتظار قرار الحكومة المصغرة حول إعتماد أي من الخيارين.

كلا الخيارين، حسب بيرغمان، كانت دونهما عوائق تكتيكية واستراتيجية، اذ ان تونس تبعد حوالي 1280 ميلاً (1640 كيلومتراً) عن “إسرائيل”، وهي مسافة ابعد بكثير عن اي عملية نفذها الجيش “الإسرائيلي” سابقاً، وذلك يعني مع حجم القوة المهاجمة الكبير انه ستكون هناك فرصة ضئيلة جدا لإجلاء القوة إذا حصل خطأ ما، كما أن دخول هذه القوة الى مدينة كبيرة يتضمن مخاطر سقوط عدد من الخسائر البشرية لا يستهان به.

وكانت “إسرائيل” قبل عامين، عندما انتقلت قيادة منظمة التحرير الى تونس قد طلبت من الولايات المتحدة معلومات تفصيلية عن منظومة الرادار والقواعد العسكرية عند الشواطئ التونسية والليبية لكنها لم تلق تجاوبا لخوف واشنطن من قيام “إسرائيل” بعمليات عسكرية بعيدا عن محيطها القريب. وبما انها لم تستطع الحصول على هذه المعلومات بصورة شرعية، لجأت إسرائيل ببساطة الى سرقة هذه المعلومات على يد جوناثان بولارد، وهو ضابط امريكي يهودي كان يحلم بان يكون جاسوسا يؤثر في مجرى التاريخ وحاول تحقيق حلمه عبر محاولته الانضمام إلى وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي أي ايه) لكنه رُفضَ بسبب “عدم استقراره عاطفياً”، بحسب تقييم الوكالة له. ولم تشارك الوكالة هذا التقييم مع فروع أخرى للاستخبارات الامريكية فقامت البحرية الامريكية بتجنيده بعد ان اعتبرته نابغة وموظفاً ممتازاً!

وزعم بولارد لاحقاً انه لاحظ “مواقف معادية لإسرائيل بين زملائه ودعماً استخبارياً امريكياً غير كاف لإسرائيل”. لذلك، سعى الى العمل بصفة جاسوس مع كل من “الموساد” و”لجنة الشؤون الامريكية الإسرائيلية العامة” ولكنه رُفض بشدة من الوكالتين أيضاً، قبل أن ينجح بالوصول إلى “لاكام” وهو جهاز تجسسي يتبع لوزارة الدفاع “الإسرائيلية” مباشرة واسم هذا الجهاز بالعبرية يعني “مكتب العلاقات العلمية” وهو جهاز سري للغاية وقلة من الناس تعرف بشأنه وكان يرأسه حينها رافائيل ايتان الذي كان لا يزال يشعر بمرارة عدم تعيينه رئيسا لجهاز “الموساد” وقال عن المعلومات التي زوّده بها بولارد، بعد تجنيده، إنها “جيدة كثيراً لدرجة انني لم استطع مقاومة اغراء طلب المزيد”. ويعترف ايتان ان رؤساء الوزراء المتعاقبين ووزراء دفاعهم كانوا على اطلاع بالأمر، ولكن أغمضوا اعينهم مقابل بحر المعلومات التي كان يجلبها بولارد (من الأجهزة الأمريكية).

ومنذ اللحظة الأولى لتجنيده، قام بولارد بسحب كميات ضخمة من الوثائق الموجودة في مقر عمله واخذها الى مكان آمن في واشنطن حيث كان الجهاز “الإسرائيلي” يقوم بنسخها واعادتها اليه. هذه الوثائق المسروقة حملت اسما سريا هو “المادة الخضراء” حيث كان يتم نقلها الى تل ابيب وهناك يتم الاحتفاظ بها في خزائن كبيرة في قسم الأبحاث التابع لجهاز “امان” في مقر الاستخبارات الجوية.

وفي يونيو/حزيران 1985، طلب يوسي ياغور، المشغل الاستخباراتي لبولارد، من الجاسوس الأمريكي جمع كل ما أمكن من معلومات عن مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية خارج العاصمة التونسية وكل المعلومات عن أجهزة الدفاع الجوي في كل من تونس وليبيا، فذهب بولارد الى أرشيف البحرية الامريكية وجمع كل المعلومات المطلوبة واستعارها وصورها وارسلها الى إسرائيل في غضون أيام، فنقل ياغور الى بولارد الشكر “من أعلى المراجع في الحكومة الإسرائيلية” لدعمه الاستخباري الرائع الذي سيستخدم لاحقاً في الهجوم على تونس.

وعلى الرغم من توفر كل المعلومات الاستخبارية اللازمة، بقي كل من إسحاق شامير وشيمون بيريز ـ يتناوبان على رئاسة الحكومة ـ مترددين في إعطاء الضوء الاخضر للعملية وكذلك الامر مع وزير الدفاع حينها إسحاق رابين. وقد حاول إسحاق موردخاي اقناع رابين بالعملية البرية لأنه بحسب قوله “هناك فرق كبير بين الغارة الجوية والتأثير الذي يتولد عن نهوض شخص ما ليجد مسدس عدوه موجهاً الى راسه”، وكان رابين يخشى حصول خطأ ما خلال العملية، وهنا ينقل الكاتب رونين بيرغمان عن موردخاي قوله ردا على مخاوف رابين “لم أستطع ان أعده ان امراً مثل هذا يمكن الا يحدث”.

في المقابل، كانت الغارة الجوية عكس الهجوم البري، أي لا تحمل اية أخطار على الطيارين خاصة مع المعلومات ذات النوعية الجيدة التي وفرها بولارد ولكن واشنطن وتل ابيب تشاركتا المخاوف الاستراتيجية نفسها، فتونس ليس لديها حدود مع “إسرائيل” وليس لديها أي صراع معها ومن شأن القيام بغارة جوية او برية عليها خلق تداعيات دولية جدية.

إقرأ على موقع 180  قبرُنا العربي.. وثقافة الخنازير!

كان هناك عامل خارجي آخر أدى الى المزيد من التأخير في تنفيذ العملية وهو ان القتل المتعمد، خاصة عندما يستهدف شخصا رفيع المستوى مثل أبو جهاد، ليس عملا استخباريا او عسكريا فقط، بل هو أيضا وسيلة سياسية، وعلى سبيل المثال، عام 1981 عندما كانت استطلاعات الراي تعطي اغلبية ساحقة لحزب العمل اليساري في الانتخابات “الإسرائيلية” المرتقبة، امر مناحيم بيغن، رئيس حزب الليكود اليميني، بقصف المفاعل النووي العراقي قرب بغداد فكان من شأن هذه العملية قلب نتائج الانتخابات رأساً على عقب.

وفي موعد الغارة على تونس، كانت الأمور السياسية المحلية في “إسرائيل” مستقرة ولم يكن هناك اي حملات انتخابية ولا مطالبة بعمليات انتقامية، فكان خيار تأجيل العملية الى اجل غير مسمى هو الخيار الامثل نظرا لما يحمله خيار الغارة من أخطار تكتيكية وديبلوماسية. لكن الامر تغير خلال بضعة أشهر، يقول بيرغمان.

يوضح الكاتب انه خلال تلك الفترة كانت “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية ناشطتين في قبرص وفي البحر بين قبرص ولبنان وكان أبو جهاد يستخدم قبرص كخط رئيسي لنقل المقاتلين والسلاح والعتاد الى لبنان معتمدا إياه قاعدة لوجستية لكل عملياته في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتحولت قبرص الى خلية نحل لكل النشاطات الإرهابية والتهريب والتجسس وبطبيعة الحال لعمليات القتل المتعمد. هنا استفاد “الموساد” من حركة التمرد التي حصلت داخل حركة فتح ضد قيادة ياسر عرفات بدعم من سوريا (ظاهرة إنتفاضة أبو موسى) وبدأ بتنفيذ عمليات اقتناص ذكية تعتمد على قيام احد عملائه متنكرا بصفة متمرد داخل فتح ويريد الانتقام من عرفات فيقدم المعلومات لمحطة الاستخبارات السورية في مدينة لارنكا القبرصية عن المقاتلين العائدين الى لبنان، وينقل الكاتب عن احد ضباط جهاز “امان” في ذلك الحين يوني كورين قوله إنه بعد استلام تلك المعلومات “كان السوريون الممسكون بالمعابر الجوية والبحرية المؤدية إلى لبنان ينتظرون المقاتلين الفلسطينيين العائدين ويعتقلوهم فور ان تطأ اقدامهم الأراضي اللبنانية وكانوا يختفون من دون ان تظهر لهم اي اثار لاحقا، لقد كانت عملية ناجحة بشكل كبير وكان السوريون يدفعون لنا مقابل راس كل فلسطيني نسلمه إليهم وهكذا تمكنا من التخلص من حوالي 150 عنصراً من منظمة التحرير الفلسطينية”.

ويتابع الكاتب ان بعض السفن التي كانت تبحر من قبرص الى لبنان كان يتم اعتراضها في البحر من قبل “الإسرائيليين” انفسهم، وفي 9 سبتمبر/أيلول عام 1985 وصلت معلومات استخبارية تفيد ان مجموعة من المسؤولين الرفيعي المستوى ستبحر من ميناء ليماسول القبرصي باتجاه الأراضي اللبنانية في اليوم التالي على متن سفينة تحمل اسم “اوبورتشونيتي” (الفرصة)، وكان على متن هذه السفينة قيادي فلسطيني مطلوب لدى الأجهزة الاستخبارية “الإسرائيلية” منذ زمن بعيد وهو نائب قائد القوة 17 في حركة فتح فيصل أبو شراح الذي كانت له صلة قوية بعدد من الهجمات “الإرهابية”. وهكذا اعترضت قوة من وحدة “فلوتيلا 13” الباخرة قبالة الشواطئ اللبنانية وصعدت على متنها حيث اعتقلت أبو شراح وثلاثة من كبار القوة 17 واقتادتهم الى معسكر تابع للوحدة 504 والمعروف بمعسكر “1391” قرب تل أبيب حيث تعرضوا لكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.

وينقل الكاتب عن فيصل أبو شراح قوله “لقد اوقفوني ويدي الاثنتين فوق راسي لفترة طويلة وشدوا شعري وضربوا راسي بالحائط بقوة وعروني كليا من ملابسي وطلبوا مني ان احبو على الأرض وان الحس الأرض بلساني وكانوا يرمون علي وانا عاريا الماء البارد حينا والماء الساخن حينا اخر وكانوا يضربوني على خصيتي ثم يجلدون خصيتي بكرباج مطاطي”. وتبعا لتقرير طبي قدمه أبو شراح، فان خصيتيه قد انفجرتا بسبب الضرب المبرح.

أراد عرفات الانتقام لاعتقال أبو شراح ورفاقه، فرد بطريقة نوعية، اذ بعد أسبوعين، أي في 25 سبتمبر/أيلول عام 1985، قامت مجموعة من القوة 17 بالإغارة على يخت إسرائيلي على مقربة من مارينا لارنكا في قبرص واختطفت ثلاثة مدنيين وطالبت بإطلاق سراح أبو شراح وصحبه، ولكن بدل إنتظار الرد على مطالبهم ولسبب غير معروف، قاموا بقتل الرهائن الثلاثة وسلموا أنفسهم للسلطات القبرصية.

وينقل الكاتب عن وزير سابق في الحكومة “الإسرائيلية” المصغرة قوله “أولاد…. لقد قتلوا ثلاثة إسرائيليين بدم بارد بعد ان أطلقوا النار على رقابهم من الخلف، وبطبيعة الحال فان الراي العام الإسرائيلي لن يتحمل ان نجلس مكتوفي الايدي من دون القيام باي رد على هذا العمل”. وبالفعل، عقدت الحكومة المصغرة اجتماعاً بطلب من وزير الدفاع إسحاق رابين واقرت فيه إطلاق عملية “القدم الخشبية” لقتل أبو جهاد وقائد القوة 17 أبو الطيب والاغارة الجوية على مقرات وحدة القطاع الغربي الفلسطينية ومقر قيادة القوة 17. وكان الهدف من ذلك بحسب ما قال رابين هو “أن نظهر للعالم ان لا حصانة لاي عنصر في منظمة التحرير في العالم، فذراع الجيش الإسرائيلي ستكون قادرة على الوصول اليه ومعاقبته وان إسرائيل هي التي تقرر قواعد ومكان الاشتباك بصورة انفرادية ووفقا لاعتباراتها وحدها”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  كتاب"أيام مع الخميني": رصاصة تنطلق في القرن الـ14 وتصيب القرن الـ20