فرنجية.. شهية مفتوحة على “لقمة الرئاسة”!

قبل سنوات، تلقى سليمان فرنجية نصيحة من بعض أصدقائه في العاصمة بأنه آن أوان الإنتقال إلى بيروت (أو إحدى الضواحي القريبة كالرابية) حتى يكون قريباً من الحركة السياسية. لبّى الرجل الدعوة، لكنه لم يصمد طويلاً، فلا شيء يوازي لحظة في زغرتا وبنشعي، عائلة وعشيرة وزعامة وسكينة!

إفتقاد جبران باسيل للكاريزما يجعله عرضة للذبح السياسي، كما الإعلامي يومياً. لسليمان فرنجية قصة مختلفة. كاريزما وفريق وإقامة في جزيرة لبنانية بعيدة إسمها زغرتا، لا انتفاضة فيها ولا ضرائب ولا أزمة إقتصادية أو مالية ولا شعب كفر بحكامه. هناك، يُسلمون بزعامة سليمان بيك، إبن العائلة التقليدية وسليل تجربة بيت سياسي عريق في السياسة اللبنانية. لا ينفي ذلك وجود حراك تقوده ثلة من الشباب الزغرتاوي، لكن هؤلاء يجدون أنفسهم كمن يحفر في الصخر فعلاً لا قولاً.

في 2019 حين تناقلت الهواتف الذكية مشاهد تظاهرة لأهالي بلدة بشنين في زغرتا اعتراضاً على وضع نفايات المنطقة في قريتهم، لم يصل ذلك المقطع إلى نشرات الأخبار، ولا تحوّلت تلك السيدة التي تقول لسليمان فرنجية “لن أنتخبك” إلى “حديث الساعة”، ولا شاهدنا الناشطين والناشطات يتكلّمون عن “قمصان سود” فرضت بالقوة حلاً للنفايات!

للأمانة، صافحت سليمان فرنجية ورأيت وجهه عن قرب لمرة واحدة، حين كنت من بين آلاف المعزّين يوم تُوفي عمّه روبير. المعضلة هنا، أنك حتى لو كنت إبن بيت عانى ما عاناه من حرب المردة ـ القوميين في الكورة التي كان روبير عمادها، ثمة رابط معنوي معيّن بين أبناء الشمال وسليمان فرنجية. رابط رفيع يجعلك تقود سيارتك من بيروت إلى الشمال لمدة ساعتين ويكون مطلوباً منك أن تركنها وتمشي كيلومتراً، لتدخل قصر آل فرنجية في إهدن وتقدّم واجب العزاء لسليمان طوني فرنجية بعمّه روبير. أي في الدارة نفسها التي قتلوا أمه وأبيه وأخته فيها. بيننا وبين سليمان فرنجية علاقة عاطفية نحن أبناء الشمال. من لا يعرفه أو يعرفه منا، حتماً يعرفه.

هذه العلاقة العاطفية، مع مارونيته الطبيعية ووطنيته غير القابلة للطعن وسوريته التي يفاخر بها وعروبته التي يعتبرها في صلب التكوين السياسي، هذه كلها تبقيه على ما هو عليه بلا زيادة ولا نقصان. فإذا أردنا القول إن سليمان فرنجية ورث زعامة الدم، لنبحث عن ورثة كثيرين من الزعماء.. ولنعاين الفرق بين الجيلين القديم والجديد. عند سليمان فرنجية ذكاء فطري؛ كرَمٌ استثنائي وطيبة قروية. صفات تقرّبه من الناس. لا أعرف شخصاً تعرّف إليه ولم يُحبه. بلا مبالغة. حتى من يختلف معه، يثني على صراحته وشجاعته وأخلاقه.

لا أعرفه أكثر من تلك المصافحة اليتيمة لكن لي تجربة مع الوريث الشاب طوني من جامعة البلمند إلى شوارع إهدن، وندر أن نجد ثلاثينياً من أبناء الكورة وزغرتا لا يعرف طوني سليمان فرنجية. جمعنا لقاء قبل أن يدخل معترك العمل السياسي عام 2013، وشاهدته على الأرض في ذروة العمل الحزبي في صيف 2019. أجد عشرات الهفوات في حركة النائب طوني فرنجية ولا أجد نفسي متصالحة مع فكرة التوريث أصلاً. توريث الأب ثم توريث الإبن وهلمجراً. أعتقد أن عصرنا يتبدّل ومعطياته تتغير، وبالتالي منبت تصرفات الوريث طوني وزلّات لسانه تأتي من مطرح واحد: إنها عقلية الإقطاع. شخصيته ليست كشخصية والده ـ محور مقالتي اليوم، ولا سيما بعد ورود إسم زعيم المردة في خطابين سياسيين أساسيين في الآونة الأخيرة.

فقد توجّه جبران باسيل إلى سليمان فرنجية من على منبر ذكرى 13 تشرين الأول/أكتوبر قائلاً: “شو يعني زعيم زغرتا”؟. سؤال هدفه التقليل من شأن الزعيم الزغرتاوي. لم تمض ساعات حتى أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤكداً على موقعية فرنجية ودوره اليوم كما في الإستحقاق الرئاسي الذي أوصل الجنرال ميشال عون إلى الرئاسة في العام 2016.

أربك كلام نصرالله الكثيرين. بدا كأنه يوجه رسالة قاسية إلى باسيل (وربما إلى عون). المضمون هو أكثر من تحية إلى سليمان فرنجية. عنصر التنافس بين باسيل وفرنجية من سيكون أقدر على الفوز بقلب وعقل حزب الله وأمينه العام. حكاية عمرها من عمر تفاهم مار مخايل. صار هناك من ينافس الزعيم الزغرتاوي في قلب الضاحية الجنوبية. فعلها ميشال عون، لكن هل يفعلها باسيل من بعده، فيفوز بعقل “السيد”.. ومن ثم تتكرر عبارة “هذا عين وهذا عين”.. وماذا سيكون نفع الغزل وخطاب العيون إذا لم يترجم رئاسياً؟

لن يكون بمقدور فرنجية أن يحصد في العام 2022 أكثر مما حصّل في العام 2018، بموجب القانون النسبي. ولنفترض أنه حصد أكثر، وحتى لو شفعت له علاقته التاريخية مع سوريا، وحلفه التاريخي مع نبيه بري، وحتى لو كان هو في التراتبية قبل جبران باسيل عند حزب الله وأمينه العام، عمرياً وسياسياً، فهل هذا كله يضمن وصوله إلى قصر بعبدا؟

منذ 2016، بتنا نشاهد سليمان فرنجية مختلفاً. ابتعد الرجل. هرب نحو الصيد. البيت. أوغل في الصمت. إنها لقمة الرئاسة التي شعر أنها وصلت إلى فمه وكاد أن يذوق طعمتها.. ولكن الحق على كثيرين، أبرزهم سمير جعجع!

مرّ طبق الرئاسة أمامه للمرة الأولى عام 1998، ففي اللائحة المعدّة للرئيس الأسد الأب وقتذاك، كان من بين أسماء رُشحت لأجل شطب إميل لحود رئاسياً. ثلاثة من موارنة الأطراف (الشمال تحديداً) وهم قبلان عيسى الخوري وجان عبيد وسليمان فرنجية. حينذاك، قال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي: قبلان كبير شوي بالعمر، وسليمان صغير شوي. شو رأيكم بجان عبيد؟ لكن سرعان ما جاءت “كلمة السر” السورية، فصار الفرزلي أقرب من غيره للحود وراح يقنع عبيد “شو بتقدم وبتأخر الرئاسة لواحد متلك يا جان”؟

إقرأ على موقع 180  جوليان أسانج: نهاية رجل شجاع

مرّ طبق الرئاسة يومها من أمام ناظري سليمان فرنجية وكان لا بد وأن ينتظر، فالعمر معه وله.. وغيره يقف بالصف منذ سنوات وربما عقود من الزمن!

معادلة “اللقمة بالتم” (في الفم) عاشها كما لم يكن يتوقع في العام 2016 يوم تبنى ترشيحه سعد الحريري بمباركة أميركية سعودية، لكن السيد نصرالله قرر أن يفي بوعده لـ”الجنرال”. لاحقاً، سقط ترشيح فرنجية بفضل أهل بيته أولاً وتبنى الجميع خيار ميشال عون، حتى أن فرنجية صوّت بالورقة البيضاء للجنرال.. مخالفاً إرادة حليفه نبيه بري. من وقتها، يتحسس سليمان فرنجية من كل ما يهدد أو يعترض ابتلاع هذه اللقمة مجدداً في العام 2022!

كل ما يفعله أو لا يفعله. كل ما يقوله أو لا يقوله أساسه معادلة الرئاسة. لكن أين هو زعيم المردة من السباق الرئاسي فعلاً، بل قبل ذلك، أين هو من السباق البرلماني؟

ثمة سليمان فرنجية سوري خدماتي قد مضى. زعيم ماروني تقليدي شمالي  يكتسح المقاعد في الشمال من عكار إلى البترون مروراً بطرابلس والكورة وصولاً إلى المقاعد الثلاثة في زغرتا. بالطبع، ذلك المجد الغابر كان له ظرفه وكان له آل الأسد. أما سليمان فرنجية اليوم، بمعايير القانون النسبي، فلا يستطيع أن يضمن ثلاثة مقاعد بزغرتا كانت تأتيه على طبق القانون الستيني. صار لا بد من معركة للحصول على المقعد الثاني في زغرتا ولا ضمانة للمقعد الأرثوذكسي في الكورة حتى مع أصوات الشيعة التي أوصلت فايز غصن في 2018 إلى البرلمان.. وطالما أن نموذج الماروني سايد عقل غير قابل للتكرار أو الإختراع من جديد في البترون.

لن يكون بمقدور فرنجية أن يحصد في العام 2022 أكثر مما حصّل في العام 2018، بموجب القانون النسبي (الأرثوذكسي ضمناً). ولنفترض أنه حصد أكثر، وحتى لو شفعت له علاقته التاريخية مع سوريا، وحلفه التاريخي مع الرئيس نبيه بري، وحتى لو كان هو في التراتبية قبل جبران باسيل عند حزب الله وأمينه العام، عمرياً وسياسياً، فهل هذا كله يضمن وصوله إلى قصر بعبدا؟

في تجربة رئاسة الجمهورية في لبنان، الثابت الوحيد أن كل شيء ممكن وقابل للتحقق في الأيام والساعات الأخيرة. الأكيد أن سمير جعجع لن يكون منافساً لفرنجية. احترقت ورقة “الحكيم” الرئاسية البعيدة المنال أصلاً، فكيف بعد أحداث الطيونة؟

رياض سلامة صار مشطوباً رئاسياً، لكن ماذا عن قائد الجيش جوزف عون؟

على الأرجح، صارت تجربة الرئيس الماروني القوي أو العسكري مستبعدة، حسب معظم العارفين والمتابعين. الأخطر أن نشهد من بعد ميشال عون فراغاً مديداً يجعل أحد عتاة الموارنة يردد القول إن رئاسة ميشال عون قد تكون الأخيرة للبنان بموجب صيغته الراهنة.

ومن اليوم، إلى أن نصل – إذا وصلنا – إلى الإنتخابات،

إلى أن نعبر – إذا عبرنا – إلى الإنتخابات،

إلى استحقاق الرئاسة اللبنانية، إذا بقيت، وبقي لبنان بصيغته الراهنة،

هناك عبرة يُرددها “صديق مخضرم في السياسة”، في حضرة مقالة سليمان فرنجية: العديد من الزعماء في لبنان يلجأون إلى سياسة “الضو” و”النوّاصة”. يفردون أعضاء فريقهم كلٌّ إلى ملفه، وبحسب الظرف يجري تقديم أو تأخير “الضو” أو “النوّاصة”. لنأخذ نموذج وليد جنبلاط.. غازي (العريضي) يحاكي حزب الله ومروان (حماده) يحاكي فرنسا وأميركا. حين يريد أن يقترب من سوريا، يضع غازي العريضي “في الضو” ويسحب مروان حماده “إلى النوّاصة”. لسليمان فرنجية، كما يوسف في الشرق الأدنى والإقليم، يوسف آخر في الشرق الأعلى وروسيا، وروني يبقي الباب مفتوحاً نحو الغرب، وطوني يصادق الثورة والناشطين والسيدة فيرا تخوض الإستحقاقات الإعلامية من دمشق إلى الضاحية. لكأن سليمان فرنجية نفسه يوزّع فريقه وفق المعيار نفسه (المتغيّرات)، بين “الضو” حيناً و”النوّاصة” حيناً آخر.

ما بين “الضو” و”النواصة”، يرابط سليمان فرنجية في بنشعي صيفاً وشتاءً. يقيم بعيداً عند تلك التلة. يوماً بعد يوم، يصبح أكثر “جنبلاطية”. يكاد يطفىء كل محركاته.. يترك سيارته مقيمة عند التقاطع الكبير. ينتظر إشارات السياسة، في الداخل كما في الخارج، حتى يُقرر كيف يتحرك. كيف يصوّب نيران بارودته. المهم تحقيق الهدف في نهاية الشوط: أن تصل لقمة الرئاسة إلى “تم البيك” بعد إنتظار دام ربع قرن من الزمن!

Print Friendly, PDF & Email
غدي فرنسيس

صحافية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  لبنان وذكرى الإستقلال.. يا للرجال ـ الرجال!