الصورة، النقصان والزمن.. الهارب

هل يدلنا البحث في الدافع الفني على أنواع مهملة من فنون الصورة؟ هل يحررنا من محاولاتنا لامتلاك معنى متسق نقدم أنفسنا فيه كسلطة على المتلقي، بينما نفقد المبرر لسرديتننا كلما ثبّتناها؟

عندما كتب ألفرد آدلر عن النقصان كدافع للفن، بدا وكأنه يتحدث عن نوعين، الأول، وجودي، نقصان الإنسان بمحدودية عمره أو محدودية أعمار من يحبهم، أو نقصانه الجسدي، بالعلة أو القصور. لكن نقصانا آخر، ربما يكون مبنياً عليهما، قد يكون أكثر إيلاماً، هو نقصان الزمن بزيادته. نقصان الذاكرة التي يبدأ محوها بمجرد أن تصنعها لحظة ما، الذاكرة التي تثبت أننا كنا موجودين، أو أن وجودنا الآن يتجاوز كتلة من اللحم والدماء والعظام. الحقيقة أنه خارج دائرتنا الصغيرة، وجودنا من عدمه لا يهم أحداً. لهذا كان علينا أن نخلق نوعاً ما من التماهي في عملنا الفني كي يستقبله الآخرون وكأنه يقول شيئاً عنهم أو يوثق شيئاً منهم. كان تبرير التماهي في الكثير من الأحيان حبٌ للإنسانية التي نتواصل معها أو حبٌ للخير العام، والحقيقة أن الخير الذي لا يعود علينا بشيء، على الأقل بتثبيت وجودنا فيه، هو أمر تجريدي غير مهم.

استفاد الفنانون من حقيقة أن الألم والفقد والحاجة مشتركات إنسانية، لكنهم في كل مرة تحدثوا عنها إنما كانوا يتحدثون عن أنفسهم بأنانية فردية أحياناً وجماعية أخرى، حيث يجد الفرد المحدود امتداده في دين أو قومية أو عشيرة أو جنس أو خيار جنسي أو صفة مهنية.

هنا يصبح توثيق ذاكرة الفنان (أو المدوّن) حاجة لتثبيت وجود الجماعة، هو يعرف ذلك بخبث. المعضلة في الذاكرة أنها كلما كانت أكثر غنى أصبحت أكثر صعوبة على التذكر، ومن ثم على الجمع والتدوين. هنا لا أتحدث عن الجمع بمعنى السرد، وإنما عن إمساك الإنسان بعناصر ذاكرته ولحظاتها ككل متسق في وعيه. في الحقيقة، إن شدة حساسية أي كان تضعه في حالة اتصال مع جملة من المتناقضات التي تضيع الأنا الباحثة عن تحديد، وتتركها دائماً في طور الحاجة، وهو طور أكثر تعقيداً من النقصان. لهذا ظل السرد محاولة بائسة للإمساك بوجودنا كقصة، برغم وميض لحظات الوعي بالذات أو بوجودها ضمن المركب الزمني المكاني الصراعي.

مشكلة السرد أنه في سعيه لبناء خط القصة يضطر لتأطير المتناقضات واللحظات غير المهمة في خط القصة بما يعطيها مشروعية منطقية لوجودها، أي بما يعطي الراوي سلطة الرواية. تماماً كما يعطي تتابع الصور المنطقي للمخرج سلطته التي يسميها رؤية في محاولة لأن يكون أكثر استبطاناً للوجود المتخفي خلف قصته. ومهما تشظى تتابع التجسيد (الصورة) لخط قصة ما، فإن البحث عن معنى متسق هو المقتل الأول للوجود الأكثر حضوراً خلفه، ذلك الذي لا يحتاج لتبرير وجوده.

التجربة الجمالية تصبح جمالية فقط إذا تفاعل الجسد معها، أي إذا نفذت إلى مراكز طاقية بالجسد عبر الخيال الذي يعبر عليه المرئي والمسموع

هنا يصبح التناقض بين ما سمي فنوناً زمنية تبدأ وتنتهي مثل الفيلم والأغنية والمسرح، وبين فنون مكانية حاضرة في المكان مثل اللوحة والمنحوتة والمباني، تناقضاً شكلياً لا يختلف عن بعضه في فهمه للزمن، إن اختلف في تلقيه. ففي الحالتين هناك محاولة للامساك بزمن مكتمل الوجود، هنا من خلال السردية وهنا من خلال اللحظة الثابتة في الزمن.

                           (الصورة للمصورة نيكول ايفلين)

لم أعرف بداية ما كان يشدني إلى تقنية قديمة لم ترقَ لأن تكون فناً مُشعبناً، وهي تقنية الصور المتتابعة التي ابتدأت كتجارب فوتوغرافية مهّدت لفن الفيلم في القرن التاسع عشر على يد ادوارد مايبردج في أميركا وإتيان جول ماري في فرنسا. الصورُ الإثنتا عشرة في المشروعين كانت مقدمة للتسلسل المنساب زمنياً في الفيلم.

هنا، أتحدث عن التقنية كونها نهاية بحد ذاتها، وبالتالي لا أتحدث أيضاً عن اللقطات المتتابعة في إطار صورة واحدة. صورتان أو أكثر للحظة واحدة بتتابع تفاصيلها لا تدعي أنها تروي قصة أو حدثاً ولا تدعي أنها ممسكة بزمن لا يمكن أن يكون جامداً، لكنها في الوقت ذاته تُثير حنيناً غريباً لتثبيتها أن الزمن هاربٌ، ولا يمكن أن يكون ثابتاً، ولا يستطيع أن يمسك بما بعده أو قبله.

وفيما أشار المصور الأميركي مينور وايت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي إلى أن الصور المتتابعة تتحدى استمرارية الزمن في الفيلم، مما يتيح للمتلقي التمعن في اللحظة بما يشبه الذاكرة التي تعلق في لحظة ما، إلا أنه عاد ليتحدث في وصفه لصور متلاحقة لصخور على الشاطئ عن انسيابية سلسلة الصور وكأن هناك زمناً يسري بينها، لكن موضوع الصورة – في هذه الحالة الصخور الغارقة في مكانها في استعارة عن ميوله المثلية المكبوتة – يبقى حاضراً على عكس زمن الفيلم الذي يسير بنا إلى زمن آخر. وقد سمى وايت هذا المفهوم “سينما الصور الثابتة”.

إقرأ على موقع 180  لماذا لا "نخرُجُ" من هذه الدّنيا.. ونرتاح؟ (١)

المشكلة في هذا التنظير من وجهة نظر التجربة الجمالية العاطفية، هي أنه يسعى أيضاً لتأطير اللحظة ضمن سردية محددة، وكأنه يملك وعيه بذاته الخارج من زمن متماسك، أو من وعي متماسك للزمن أي ذاكرة الأزمنة التي فينا.

هذا التأطير يحرم هذا الفن من حريته في أن يكون حاملاً لوعي عاطفي بالغياب برغم الحضور الوافر. الوافر لأنه لا يختفي من أمام عينيك آخذاً إياك قسراً للحظة أخرى كما في السينما، ولأنه لا يحبسك في ومضة واحدة لا ينساب الهواء بين لحظاتها المنقطعة عن بعض، كما في الصورة الواحدة.

لم أعرف بداية ما كان يشدني إلى تقنية قديمة لم ترقَ لأن تكون فناً مُشعبناً، وهي تقنية الصور المتتابعة التي ابتدأت كتجارب فوتوغرافية مهّدت لفن الفيلم في القرن التاسع عشر على يد ادوارد مايبردج في أميركا وإتيان جول ماري في فرنسا

نعود هنا لمشكلة التأطير ضمن سردية. التأطير مهمٌ جداً لمن أراد أن يفهم سرديته بدءاً بجمعها، فهو يكتب روايته كي يرث أرض الكلام كما يقول محمود درويش ويملك المعنى تماماً. لكن امتلاك المعنى من خلال الفن أو الأدب لا يُجسّر الهوة مع التجربة الحياتية، التي يشكل الجسد جزءاً مهماً، إن لم يكن الأهم، من وعينا بها. فنحن لا نعي الجسد من خلال صور الجسد، ولا من خلال الكلام عنه، وإنما وعي الجسد بالجسد فقط. فالتجربة الجمالية تصبح جمالية فقط إذا تفاعل الجسد معها، أي إذا نفذت إلى مراكز طاقية بالجسد عبر الخيال الذي يعبر عليه المرئي والمسموع. لكن هذا المرئي والمسموع يتدحرج كمياه على زجاج أمام تجربتنا الجسدية في التواصل مع حضور إنسان آخر، سواء كانت حسية مكانية أو جنسية. حتى المرئي والمسموع يصبح شيئاً آخر دون وسيط (ميديا) يسجل الزمن الموجود أو المؤلف (بفتح اللام).

من هنا وضع إيريك فروم الفن ضمن مجموعة من أساليب تخطي الوعي بالموت والنقصان والانفصال، وكان معظمها جسدياً، كالمخدرات والجنس والهتاف ضمن مجموعة فقدت عقلها في مظاهرة أو مباراة لكرة القدم، أو الانتشاء بتصفيق جمهور غفير. أي أن تخطي الموت والنقصان يحصل فقط بتخطي وعينا لحدود الجسد، ولهذا فهو لا يدوم. ما يدوم فقط لدى فروم هو الحب اليومي المستقر بطقوسه المكانية والجسدية، وبالعناية والمراقبة لكائن آخر دائم التحول نتصل به جسدياً خلال مراحل تحوله. ما بحث عنه آخرون في شريك للحياة يكون شاهداً على ما نسيناه منها. ربما لم يكتب فروم ما كتب وفي باله عالم متقطع الزمن بالحروب والهزات الاقتصادية المستمرة، وربما يُشهِد الفن عالماً كاملاً على حياتنا، لكن انقطاع وعينا الجسدي بهذه الشهادة يجعلها خارج زمننا، حتى لو وعيناها ذهنياً.

هنا تصبح التجربة الجمالية في اكتشاف جديد في القديم المتكرر، الذي يفتح كل يوم خلية جديدة في الجسد، ونحن نراقب قطرات الماء المتكثف من غطاء ركوة القهوة تنساب في الفنجان تماماً كما توقعناها ونشم رائحة شخص آخر نسميه خاصتنا، ونشعر بسحر في الهواء الذي لا تشمه العدسات ولا يلتقطه الصوت. هذا التكرار الهادئ للحركة هو ما يمكن أن تلتقطه الصور المتتابعة المقتصدة، مقتصدة لأن ما تؤرخه ضد الموت ليس سردية، وإنما لحظة. ليس وجوداً جامداً، وإنما زمناً. تقنية لا تحاول نفي ألم الزمن، وإن كانت تتحداه بانسحابها منه وهي تقول: أعرف أنك هنا. هي تعطينا مسافة للابتعاد عن ضجيج الوسائط (الميديا) المتسارع، لكنها تبقى أيضاً، صوراً عبر وسيط.

Print Friendly, PDF & Email
ربى عطية

كاتبة، أستاذة جامعية، مخرجة وصانعة أفلام سينمائية

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بلير توسل الكويت "ثمناً" لـ"تحريرها