معركة مأرب.. مصير اليمن بين أصابع بلقيس

بإنتظار ما سيؤول إليه مصير مدينة مأرب اليمنية، حرباً أو تهدئة أو تسوية، تنشَدُّ الأنظار إلى المآلات التي ستنتهي إليها المعارك الطاحنة حول أبواب المدينة، فمصير مأرب لن تنحصر نتائجه في الداخل اليمني فحسب، بل ستطال امتداداته موازين القوى في عموم المنطقة. 

بصورة عامة، عندما يؤتى على ذكر اليمن تاريخياً وحضارياً، فمأرب مختصره وموجزه، وإلى حدود لا غلو فيها ولا تطرف حين يقال إن تاريخ مأرب هو تاريخ اليمن، فعلى أرضها كان السد الشهير، ومنها كانت الملكة بلقيس، وفي قصورها عاش ملوك سبأ الذين يدخلون في صدارة القوائم  الملوكية التي عرفها العالم القديم، وفي ذلك يقول الرئيس السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف اليمنية يوسف محمد عبدالله في عدد مجلة “الإكليل“ الصنعانية الصادر في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 1985 “تاريخ سبأ في حقيقة الأمر هو تاريخ الحضارة اليمنية في فجرها وازدهارها وأفولها، وسد مأرب في أرض سبأ، هو رمز تلك الحضارة، نشأ معها وصاحب أوج نفوذها، بل إن صدى تاريخ تلك الحضارة، ظلّ يتردد على مسامع الزمن مرتبطاً بسد مأرب“.

وعلى ذلك، قد يكون الوزير وكبير الآثاريين والمؤرخين اليمنيين المعاصرين محمد عبد القادر بافقيه (1928 ـ 2002) في طليعة الذين عملوا على ربط المسار التاريخي والوحدوي لليمن بمدينة مأرب، ففي مقدمة كتاب بافقيه “توحيد اليمن القديم“ كتب المتخصص في الآثار اليمنية منير عربش “في أواخر العقد الأخير من القرن الثالث الميلادي، اتخذ شمر يهرعش اللقب الجديد، ملك سبأ وذي ريدن وحضرموت ويمنة، ويكون بذلك قد تحقق حلم توحيد اليمن ولأول مرة في تاريخها، الذي تبنته في البداية سبأ وحققته حمير في النهاية، وبإنهيار إمبراطورية حمير ـ أواسط القرن الميلادي السادس ـ لم يوحّد اليمن ثانية إلا بعد 1700 سنة، أي عام 1990”.

تلك القراءات المعاصرة لموقع مأرب في الوعي اليمني، هي شروحات علمية حديثة وعميقة، كانت سطورها الأولى قد تبلورت في كتابات المؤرخين اليمنيين الأوائل، وعلى رأسهم ما يعُرف بـ“لسان اليمن“ الحسن بن أحمد الهمداني (ت ـ 945 م) وخصوصاً في كتابيه “صفة جزيرة العرب“ و“الإكليل“ ففي كتابه الأول يجمع مرات عدة بين مأرب وسبأ  فيقول “مأرب سبأ“، وفي الثاني، يروي أنه رأى “بقايا سد مأرب ومقاسم الماء من مذاخر السد بين الضياع  فقائمة، وكأن صانعها فرغ من عملها بالأمس“، ويستذكر الهمداني عظمة مدينة مأرب ويُنشد شعرا:

وجنتا مأرب من بعد ذا مُثل/ والعرش فيها وسد وسط واديها 

ما بين طودين لا باد ولا كثب/ وجرية السد طول الدهر يسقيها.

في الذاكرة الجماعية لليمنيين وأهل التوحيد، قصة بلقيس وسليمان، وتلك لها معالجة تاريخية أخرى، وأما بلقيس الملكة، فيتحدث وهب بن منبه (ت ـ 740م) عن غزواتها في كتابه “التيجان في ملوك حمير“ والذي قدّم طبعته الثانية (1979) الشاعر وكبير المثقفين اليمنيين عبد العزيز المقالحي، فيقول “لما وليت بلقيس المُلك، جمعت الجيوش العظيمة، فسارت إلى مكة واعتمرت، وتوجهت إلى بابل وغلبت من كان بها من الناس، وبلغت أرض نهاوند أذربيجان، ثم قفلت إلى اليمن“، فيما ينظم نشوان بن سعيد (ت ـ  1178) ينظم شعراً لبلقيس المجيدة والمتدينة في “القصيدة الحميرية ـ ملوك حمير وأقيال اليمن“ التي تُعتبر أحد المصادر الأساسية للتاريخ اليمني، وفيها يقول:

أم أين بلقيس المعظم عرشها/ أو صرحها العالي على الأصراح 

زارت سليمان النبي بتدمر/ من مأرب دينا بلا استنكاح

جاءت لتُسلم حين جاء كتابه/ بدعائها مع هدهد صدّاح 

سجدت لخالقها العظيم وأسلمت/ طوعاً وكان سجودها لبراح.

إن تلك المرحلة الذهبية لمأرب ومملكة سبأ، جعلتها أرض الأحلام، وفيها يقول الرحالة اليوناني ستربوان (ت ـ 25م) “ان منازل مأرب كانت مسقوفة بالذهب والعاج“، وفي “مروج الذهب“ للمؤرخ المسعودي “أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأكثرها جنانا وأفسحها مروجا مع بنيان حسن وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار وأزهار، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب لا تواجهه شمس ولا تعارضه لإستتار الأرض بالعمارة الشجرية“، وتتبلور هذه الصورة الذهبية عن غنى مملكة سبأ بشكل أوضح في الكتب السماوية، ففي التوراة “سارت ملكة سبأ إلى أورشليم بموكب عظيم جدا بجِمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا جدا وحجارة كريمة“. وفي القرآن الكريم “لقد كان لسبإ في مسكنهم آية  جنتان عن يمين وشمال”.

تلك الصورة الزاهية لمأرب، انقلبت ضربة قاضية بعد خراب سدها بفعل “السيل العرم“، وعلى ما يظهر في كتابات ومؤلفات المتأخرين، أن أفول نجمها استمر قروناً، بل حتى منتصف القرن العشرين، ولذلك يمر عليها المؤرخون العرب المعروفون مرور العجلة كما هي الحال في “فتوح البلدان“ للبلاذري (821 ـ 892)  و”تاريخ الأمم والملوك“ للطبري (849 ـ 927) و“مروج الذهب“ للمسعودي (896ـ  956) و“تحفة النظار“ الشهيرة برحلة إبن بطوطة (1304 ـ 1378) و“ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر“ المعروف بتاريخ إبن خلدون (1332 ـ1406)، وفي رحلة الشريف إبن عابد الفاسي (1557ـ 1683) المعروفة بعنوان “من المغرب إلى حضرموت“، وهذا الخراب الطويل، كان ياقوت الحموي (ت ـ 1228) قد عبّر عنه في “معجم البلدان” بالقول “حدثني شيخ سديد فقيه من أهل صنعاء قال: شاهدت مأرب وهي بين صنعاء وحضرموت وهي قرية ليس بها عامر إلا ثلاث قرى”.

في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، زار أحد قادة الثورة العربية الكبرى، السوري نزيه مؤيد العظم اليمن ومن ضمنه مدينة مأرب الحالية غير المقامة تماماً على أنقاض مأرب التاريخية، ووضع كتاباً بعنوان “رحلة إلى العربية السعيدة“ يقول فيه “يبلغ عدد سكان مأرب في الوقت الحاضر نحو سبعمائة، ومدينة مأرب أو قرية مأرب فهي كناية عن مائة منزل تقريباً“، وأما الضابط العراقي المقدم محمد حسن الذي كلّفته وزارة الدفاع العراقية عام 1940 بتدريب جنود المشاة في الجيش اليمني، فحين يُعدّد المدن اليمنية لا يأتي على ذكر مأرب برغم إحصائه 35 مدينة.

إقرأ على موقع 180  إيران وباكستان.. الأصابع ليست على الزناد 

وفي كتاب أحمد حسين شرف الدين “اليمن عبر التاريخ“ الصادر عام 1964، والذي كتب مقدمته وزير العدل اليمني آنذاك، عبد الرحمن الأرياني “أن مدينة مأرب اليوم مجرد مدينة صغيرة بها سور كثيف وعدة مباني وخرائب مبعثرة حولها“ وبحسب سلطان العرادة (صحيفة “لوموند” الفرنسية ـ 3 ـ 3 ـ 2018)، وهو محافظ مأرب المقرب من عبد ربه منصور هادي المتنازع على شرعيته الرئاسية، فإن عدد سكان مدينة مأرب “بلغ حوالي 40000 نسمة في عام 2014، بينما سكان محافظة مأرب قاربوا 306.000 في العام نفسه”، ويتعدى عددهم المليونين ومائتي ألف في هذه الفترة، بسبب النزوح الكثيف إلى المحافظة، مثلما ورد في تقرير لموقع قناة “فرانس24“ في الثاني والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

ما أهمية مأرب في الموقعة الحالية؟ هذه ثلاثة مستويات:

ـ سياسياً: تُعتبر مدينة مأرب العاصمة السياسية غير المعلنة لحكومة عبد ربه منصور هادي، فبعد انحسارها عن عدن، انتقلت غالبية هياكلها إلى مأرب بما فيها وزارة الدفاع، وبهذا المعنى، تحوّلت مأرب رمزاً سياسياً، لا تقتصر دلالته على الأطر المحلية المساندة لمنصورهادي، بل تتصل بحلفائه الإقليميين.

إن نجاح أو فشل القوات المؤتمرة بقرارات منصور هادي، بالتعامل مع حركة “أنصار الله“ الحوثية وحلفائها، من شأنه أن يفتح الطريق أو يغلقها أمام الحركة المذكورة، فلو نجحت في اختراق مدينة مأرب، فعلى الأرجح أن مناطق أخرى سيسهل عليها اختراقها، ولو فشلت فإن حالة من اللاحرب واللاسلم  قد تسيطر على ميادين مأرب

ـ إقتصادياً: في مأرب احد اهم معامل الكهرباء اليمنية، فمعمل “صافر” يغذي مناطق شمالية واسعة بما فيها العاصمة صنعاء، وقبل الحرب، كان الإنتاج النفطي في مأرب يتجاوز ثمانين ألف برميل يومياً، وبحسب قناة “العربية“ بتاريخ 18 ـ 2ـ  2014 “يُقدر إحتياطي الغاز الطبيعي المؤكد في القطاع 18 بمأرب والجوف بنحو 10.3 تريليون قدم مكعبة بيع منه 9.1 تريليون لكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وفقاً لإتفاق مدته 20 عاماً”.

ـ عسكرياً: إن نجاح أو فشل القوات المؤتمرة بقرارات منصور هادي، بالتعامل مع حركة “أنصار الله“ الحوثية وحلفائها، من شأنه أن يفتح الطريق أو يغلقها أمام الحركة المذكورة، فلو نجحت في اختراق مدينة مأرب، فعلى الأرجح أن مناطق أخرى سيسهل عليها اختراقها، ولو فشلت فإن حالة من اللاحرب واللاسلم  قد تسيطر على ميادين مأرب بإنتظار إنتاج تسوية ما، لا تبدو عواملها ناضجة حتى الآن.

ولكن ما يمكن التمعن به ملياً في موقعة مأرب، أنها تشكل “خط الدفاع الأول” عن محافظتي شبوة وحضرموت الغنيتين بالطاقة والمحاذيتين للبحر، مما يعني أن مصير المحافظتين مرتبط بما ستحدده لغة النار المشتعلة على أبواب المدينة، ويشير تقرير نشرته صحيفة “الغارديان“ البريطانية في الثالث من هذا الشهر، إلى أن القتال حول مأرب “تحول لأكثر المعارك دموية وأهمها في الحرب الأهلية اليمنية المستمرة منذ سبع سنوات، وإذا نجح المتمردون في السيطرة على مأرب، فسيكونون قد هزموا الحكومة اليمنية“، والخلاصة نفسها يصل إليها الدبلوماسي الأميركي السابق ديفيد شنكر في مقالة خصها لمجلة “فورين بوليسي“ الأميركية  في الرابع من الشهر الجاري وأعاد نشرها “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، حيث قال “إذا هزم الحوثيون الجيش الوطني اليمني المدعوم من السعودية في أحد معاقله الرئيسية الأخيرة في الشمال، وسيطروا على مركز الطاقة في اليمن، يكونون بذلك قد انتصروا فعلياً في الحرب، وهذا أسوأ سيناريو يمكن أن يحصل بالنسبة للرياض وواشنطن”.

في الثامن  والعشرين من أيلول/سبتمبر الفائت، استطلعت وكالة “فرانس برس“ خبراء ومختصين بالشؤون اليمنية، فقال الباحث الأول في “مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية“ عبد الغني الإرياني إن معركة مأرب “ستحدد مستقبل  اليمن“، وتوقع الباحث أحمد ناجي من “مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط“ أنه “في حال سيطر الحوثيون على مأرب، سيستخدمونها للتقدم نحو المحافظات الجنوبية المتاخمة لها“، ورأت إليزابيث كيندال الباحثة في شؤون اليمن في “جامعة أكسفورد البريطانية” أنّ “خسارة مأرب لصالح الحوثيين سيُغيّر مسار الحرب”.

من يطرق صفارة النهاية في مأرب: الطارقون على الأبواب أم الواقفون خلف الأبواب؟

قبل الختام؛ طرقة لغوية:

قيل ما معنى “العرم“ والمقصود “السيل العرم“ الذي أغرق مأرب وسدها، فأجاب اللغويون: العرم ـ بكسر الراء ـ  ومعناه السد والحاجز، وهو المعنى الذي يستخدمه أهل مأرب ومحيطها حتى اليوم، ولا يعني العرم “السيل الذي لا يطاق“ كما يتصوّر البعض ويتخيل.

في الختام؛ بين صنعاء ومأرب:

تجادل صنعاني ومأربي، فقال الأول للثاني: ما قيل بكم إلا أمثال من نوع، وتفرقت أيدي سبأ، وجنت على نفسها براقش، وقيل في صنعاء أحسن الأمثال ومنها: لا بد من صنعاء ولو طال السفر، ولو ترمدت صنعاء عُمي اليمن، فأجابه المأربي بسؤال: هل عندكم بلقيس؟.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  التنافس الجيوسياسي القطري الإماراتي.. إلى أين؟