الحريري إن “خرج” من السعودية.. حسابات الربح والخسارة

يدرك اللبنانيون بالحدس واليقين والمعايشة أن نظامهم السياسي هو حاصل الطوائف وفي أساسه العائلات السياسية وورثتها. توريث شمل كل الطوائف، ماضياً وحاضراً، لكن ما شكّل علامة فارقة في الواقع اللبناني سيرة الحريرية، أباً وإبناً. الأول؛ أدخلته السعودية من باب اتفاق الطائف وسِلمه البارد. الثاني؛ نادت به وريثاً على طائفة وولياً للدم.. قبل ان تتركه في العراء! 

مع إنسحاب إسرائيل من بيروت ونزول جرافات “أوجيه لبنان” لإزالة آثار العدوان، في خريف العام 1982، إنتبه رفيق الحريري إلى أن الآليات ترفع صوره. إتصل، وقتذاك، بالفضل شلق وقال له “إنزعوا صوري وإرفعوا صور الملك فهد“، وهذا ما صار. دخول رفع رصيده في المملكة وأصبح من بعده زائراً دورياً لدمشق. فُتحت أمامه أبواب قصر المهاجرين. حمل خرائط القصر الرئاسي السوري الجديد. فلشها أرضاً وراح يشرح للأسد الواقف عن كل تفصيل وحجر ووظيفة. مع الوقت، تطور الدور. صار ينقل رسائل بين فهد والأسد. حاول لعب أدوارٍ تتجاوز المثلث السعودي ـ السوري ـ اللبناني. نجح في بعضها وأخفق في بعضها الآخر. كانت لحظة سعادته الغامرة يوم وضع حافظ الأسد يده بيد فهد بن عبد العزيز وخاضا معاً “حرب تحرير الكويت”. في تلك اللحظة، بدأ زمن رفيق الحريري الذي إحتاج سنتين من الإصرار والمثابرة إلى أن إنعقدت له رئاسة لبنان الثالثة في خريف العام 1992.

يروي نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام في مذكراته التي نشرتها مؤخراً صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية أن حافظ الأسد قرر أن “يمتحن” الحريري قبل تكليفه برئاسة الحكومة اللبنانية للمرة الأولى. يقول خدام الآتي:”سأله الرئيس (الأسد) إذا كنت رئيساً للحكومة اللبنانية وإختلفنا مع السعودية، كيف ستتصرف؟ أجابه الحريري: سيادة الرئيس، أنا لبناني أحب وطني، وأنا سعودي، ولحم أكتافي من المملكة، بالتالي، لا أستطيع أن أتخلى عن السعودية لأني لست من ناكري الجميل، وأنا قومي عربي وأعتبر سوريا حاضنة العرب، ولا أستطيع إلا أن أكون مع سوريا. إذا حصل خلاف سأعمل على إزالته وعلى عودة المياه إلى مجاريها، وإذا فشلت سأعتزل وأعيش في منزلي. أجابه الرئيس الأسد: لو قُلت غير هذا الكلام لما صدقتك وكنت ستفقد ثقتي. سأطلب من “أبو جمال” (خدّام) إبلاغ الرئيس اللبناني (إلياس الهراوي) بأننا نؤيد ترشيح رفيق الحريري (لرئاسة الحكومة)”.

سيرة جديدة.. 

من 1982 إلى 1992، عشر سنوات كانت كفيلة بصقل تجربة الرجل. إحتاج هذا “الكاتربيلر” العملاق الآتي إلى بلده، إلى “روداج” في زواريب السياسة والإعمار والإقتصاد. تحطمت أضواء وإنفجرت إطارات وتواضعت زوايا حديدية وتهدمت أبنية وجدران إسمنتية.. حتى صار “الشيخ” رجل سياسة يتقن الصفقات والتسويات ويقبل الربح والخسارات في آن معاً.. إلى أن سقط مُضرجاً بلهيب القرار 1559 و”ربيع” الغزو الأميركي للعراق وإنتهاء التفويض الدولي لسوريا بإدارة لبنان.

من 2005 إلى 2021 سيرة لبنانية جديدة. حلّت الحريرية محل رفيق الحريري، لكن ضمن شروط وظروف جديدة. لنبدأ من عند لحظة الإستشهاد؛ برغم التهديدات التي كان يستشعرها رفيق الحريري، إلا أن إغتياله شكّل صدمة كبيرة لعائلته وجمهوره وأصدقائه في لبنان والعالم. صدمة حتى لمن كانوا لا يتفقون معه، سواء بخياراته السياسية أم الإقتصادية. صدمة للحاضنة السعودية. للملك فهد صاحب الفضل الأول (كان في شبه حالة كوما) ولولي عهده (الملك لاحقاً) عبدالله. الإرتباك التاريخي الذي عاشته عائلة الرئيس الشهيد، حسمته كلمة واحدة قالها عبدالله: سعد هو الوريث السياسي. حسمٌ إستدرج حقداً وضغينةً ورغبةً بالثأر عند النجل الأكبر بهاء. تأجل الإنتقام 15 سنة. كانت لحظة 17 تشرين (أكتوبر) 2019 هي الشرارة التي جعلت بهاء ينتقم وما يزال “على طريقته” (هنا لا بد من إستدراك سريع و”مُوثّق”: عندما سُئل رفيق الحريري قبل شهر من وفاته، ألم يحن الأوان لبديل من صُلبك وأن تبتعد قليلاً في هذه المرحلة، كان جوابه “من بعدي ما في سياسة. سعد شغلتو يطعمي العيلة (إدارة سعودي أوجيه) وبهاء يهتم بأمورو وبس”)..

هذه البداية من عند الحريري الأب، تقودنا راهناً إلى محاكمة أمرين؛ أولهما، عائلة مفككة سياسياً وإجتماعياً، على غير الصورة التي كان يشتهيها لها رفيق الحريري، برغم إنحيازه المعروف في إدارة أعماله في السعودية، إلى نجله سعد، ورغبته الدائمة بإبعاد بهاء نتيجة عدم تكيفه مع الزوجة الجديدة (غير والدته) نازك الحريري. ردة فعل بهاء، غداة تطويب سعد، هي الإنسحاب المبكر (2005) من “سعودي أوجيه” ومن شراكات أخرى مع أشقائه، مقابل تعويض مادي كبير جداً، أنقذه فعلياً من مصير مالي شبيه بما أصاب معظم أفراد العائلة، مع تعثر ثم إفلاس “سعودي أوجيه” وباقي المشاريع في لبنان والخارج.

لماذا تعثرت “سعودي أوجيه”؟

في زمن فهد، كانت “سعودي أوجيه” تفوز بالمشاريع بلا مناقصات. ما كان يميّزها عن غيرها، أنها كانت موصوفة دولياً بسرعتها القياسية في تنفيذ المشاريع، من دون إغفال حقيقة إستنادها إلى قاعدة مصالح ضخمة تستمد نفوذها من الديوان الملكي السعودي في زمن فهد.

مع وصول عبدالله إلى العرش (صيف 2005)، تبدلت الأحوال الحريرية. لم تتمكن “سعودي أوجيه” من التكيف مع إلزامية المنافسة، من خلال ممر المناقصات الدولية، الأمر الذي أدخل شركات أخرى إلى الحلبة، بينما كانت “سعودي أوجيه” عاجزة عن التكيف هيكلياً مع “النموذج الجديد”، ما جعل مشاريعها تتعرض لنكسات متتالية.. وصولاً إلى خسارة عدد من العقود الحيوية. زدْ على ذلك، عدم كفاءة من تفرغ لإدارة الشركة من بعد إستشهاد الحريري الأب وتفرغ الحريري الإبن للعمل السياسي في لبنان.

وبرغم هذا الواقع الإنقلابي المستجد على صعيد الأعمال، تمكنت “سعودي أوجيه” من الفوز بالعديد من المناقصات، إلى أن حلّ موعد الخسارة الكبرى.

إنها خسارة سعد للسعودية. خسارة وقعت عملياً لحظة وفاة عبدالله وتولي سلمان العرش السعودي (2015). مع هذا التاريخ، إنتهت عملياً مرحلة “بن عبد العزيز” وبدأت مرحلة “بن سلمان”. إستحوذ محمد، نجل الملك، على العرش فعلياً بإستحواذه على ولاية العهد في حزيران/ يونيو 2017. كان لا بد من تدفيع سعد الحريري ما طاله من إتهامات بتهريب أموال لأسرتي فهد وعبدالله وغيرها الكثير، إلى أن وقعت الواقعة بإعتقال (إحتجاز، توقيف، أسر إلخ..) رئيس حكومة لبنان في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات (4 تشرين الثاني/نوفمبر 2017) وتوقيف العشرات من الأمراء بينهم عدد من أبناء الملوك السابقين.

“يوم أسود” أظهر الحريري مكشوفاً في بيته. خيانات لا تُعدُ ولا تُحصى. حتى الآن، لم يقل الرجل شيئاً عن تلك الخيانات و”أبطالها”. ولولا تدخل كثيرين في لبنان والعالم لما نجا سعد الحريري من الأسر. كان مُنتظراً قبول إستقالته لنزع الحصانة عنه. إنتبه ميشال عون ونبيه بري وحزب الله إلى القطبة المخفية، فأقفلوها سريعاً، على إيقاع محركات خلية الأزمة التي قادها نادر الحريري محلياً ودولياً، برغم الإشارات المتناقضة التي أتت من واشنطن (البيت الأبيض كان يريد أن يُسهّل مهمة بن سلمان بينما كانت وزارة الخارجية الأميركية أقرب إلى الموقف الفرنسي المتبني للحريري).

إقرأ على موقع 180  يادلين: وقف نار إسرائيلي من جانب واحد وإلا تكرار 2006

سعد وبن سلمان.. إلى المكاسرة 

نجا الحريري وعاد إلى لبنان. نجح طوال سنتين في ترميم شيء بسيط من علاقته المكسورة مع ولي العهد السعودي، إلى أن تكررت الأزمة في خريف العام 2019. شجّعته المملكة على الإستقالة، خلافاً لوعود قطعها لكل من عون وبري وحزب الله. كان بديله لرئاسة الحكومة من النوع الذي لا يشتهيه أبداً: إنه نواف سلام.

أخضع الحريري التوصية السعودية للفحص المُتعمد داخلياً، فأدرك أن الإسم عنوانٌ لتفجير أزمة وطنية، ناهيك عن عدم قناعته به، لا بل إستشعاره أن الرجل رأس حربة مشروع يستهدفه شخصياً في بيئته مُستقبلاً. عارض الحريري التوصية. من بعد هذا التاريخ، يُمكن لمن يريد التوصيف أن يختار العبارة التي يجدها مناسبة لكيفية تعامل الملك الفعلي لدولة كالسعودية مع من قرر كسر كلمته في لبنان، على مسافة غير بعيدة عن كسر قرار التوقيف بأدوات دولية!

بالنسبة إلى محمد بن سلمان، إنتهى سعد الحريري في تلك اللحظة. لم يعد يرغب بأن يسمع بإسمه. قرر أن يشطب لبنان برمته. رفض أن يفتح الباب أمام محاولات عربية ودولية عديدة (آخرها بعد قمة بغداد). في المحصلة؛ خسارة حاضنة سعودية أعطت مشروعية للحريرية منذ ربيع الحريري الأب في 1992، وحتى خريف الحريري الإبن في 2019.

هذه المقارنة الظالمة للإثنين، تفضي إلى خسارة مثلثة الأضلاع للإبن: العائلة، التركة، الحاضنة، أي النواة الصلبة للحريرية، فهل يصح إتهام سعد بتبديد قياسي لثروة والده، كما لمليارات الدولارات من المال السياسي التي إستثمرها السعوديون طيلة عقد ونصف من الزمن في لبنان؟

يُحيلنا السؤال إلى الطائفة قبل الإستعجال في الخلاصات. لم تخمد النار كلياً حتى يومنا هذا، لا في مسرح الجريمة ولا في نفوس المسلمين السنة المفجوعين بمقتلة زعيمهم. إعتبروا لحظة شهادة رفيق الحريري لحظة إستقلالهم عن عروبتهم الشامية التي غادروها بصعوبة في زمن “لبنان الكبير”. رفعوا في العام 2005 شعار “لبنان أولاً”. أخرجوا سوريا من عاصمتهم. فائض قوة طائفية ووطنية جعل سعد الحريري لا يتسيّد طائفته وحسب بل “جمهوراً إستقلالياً” عريضاً من النهر الكبير إلى أقاصي العرقوب. كانت جريمة أكبر من لبنان. فتحت العواصم العالمية والعربية ذراعيها للوريث.. كان لا بد من إلتقاط اللحظة التاريخية. أن يُشكل الحدث رافعة لوطنية لبنانية مطلوبة ومُفتقدة. حصل العكس. صار البلد مُشرعاً بالسياسة والأمن والقضاء.. وكل شيء أمام “الدول”. صارت كلمة السفراء والقناصل هي الفيصل. مسار متدحرج لا يتحمل الرجل وحده مسؤوليته. يجب ألا ننسى الزلازل اللبنانية والعربية. زلزال حرب تموز/يوليو 2006 حفر عميقاً في النخاع الشوكي لحزب وازن وطائفة شيعية حشرتها ديكتاتورية الجغرافيا في واجهة الصراع العربي الإسرائيلي. موارنة لبنان الذين لا يريدون الإتعاظ من دروس الماضي والحاضر.. حتى آخر مسيحي لبناني.

مغادرة التردد

في العام 2005، جاء لبنان والعديد من الأصدقاء الدوليين والعرب إلى قريطم. حضر الأمين العام لحزب الله إلى القصر مُعزياً ومتضامناً. إرتسمت ملامح تحويل العاطفة اللبنانية الإستثنائية إلى مشروع شراكة وطنية لا مشروع عزل وإقصاء، كما حصل مع “التحالف الرباعي” (برفقة سمير جعجع) بوجه ميشال عون. تحالف إنفك بسرعة البرق وأفسح أمام تفاهمات أقلوية بعناوين وطنية.. ومن دون إمتداد وجداني عميق في القواعد هنا وهناك. تفريط تلو تفريط إلى أن إنعقدت التسوية الرئاسية في العام 2016 ولم يدم مفعولها أكثر من ثلاث سنوات.

فجأة وجد سعد الحريري نفسه في العراء. طائفته غير موحدة حوله. كل الحلفاء صاروا خصومه. صارت المملكة أقرب إليهم من “بيت الوسط”. يبحث الرجل عن أنياب سياسية عند “حلفاء” تعينه على إنتخابات مقبلة، فلا يجد أحداً منهم. المفارقة المفجعة أن نبيه بري وحسن نصرالله هما الأقرب إلى الحريري في هذه اللحظة. عام 2005 نُودي به صوتاً وزعيماً لبنانياً صافياً، أما في العام 2021 فقد أصبح تعبيراً عن “الأزمة” ولا سيما بفعل علاقته المأزومة مع المملكة، وبما يفوق بكثير حيثيته اللبنانية عموماً والسُنيّة خصوصاً.

في العام 2005 وبعض الاعوام التي تلت، عبّر الحريري عن حيثية تمثلت بفريق عمل أدى أدواراً في السياسة، أما في العام 2021 فقد أصبح أسير أسماء تُعبّر عن تنوع شكلي يؤدي وظائف لا أدوار. بالأمس، كان الرجل لصيقاً بالقواعد في التيار والطائفة. كان بيته مفتوحاً. الآن لا هذه ولا تلك. يستجدي “العونة الإماراتية” الشخصية بشرط ألا يستثمر قرشاً منها في السياسة إلى أن يبت أهل الديوان الملكي.. أمره.

أيضاً خسارة على مستوى الطائفة والتيار. بين العامين 2005 و2021 بدا سعد الحريري مُربكاً بين الخوف منه.. وعليه. الخوف منه كان بسبب عدم إتعاظه من هشاشة التشكيلات السياسية والطائفية. أما الخوف عليه فكانت مبرراته الهشة في التقلب بين تسوية وأخرى، وبين افتعال نزاع ثم الانتقال الى ربط نزاع ومن دون احتساب الأكلاف في بلد يمتهن سياسيوه المغامرة بوطنهم وربما بطوائفهم.

لسعد الحريري أن يحسم خياراته. المسألة تتجاوز أن يشارك في إنتخابات نيابية أو لا يشارك. حساباته سعودية وشخصية ومالية. الأرجح أنه يناور بطريقة مكشوفة، وعسى أن يكون مثل هذا الإنطباع ظالماً، عندها إقتضى الأمر إعتذاراً بمفعول هذه المقالة.

لسعد الحريري أن يحسم خياراته، ولو أنه تأخر أربع سنوات في إتخاذ قرار لا بد منه: أخرج من سعودية رفيق الحريري بقرار طوعي واعٍ. إستثمر في بلدك وجمهورك الوفي لك ولدم رفيق الحريري. لا تهدرْ المزيد من الوقت في الرهان على أبواب لن تفتح أمامك. ليس بمقدور بن سلمان أن يصفح عنك قبل أن يفك الأغلال من أقدام أمراء بعضهم من أبناء الملوك، وحتماً لن يفعل ذلك.

إجعل حيثيتك اللبنانية جواز مشروعيتك الوطنية أولاً والعربية ثانياً. يقتضي الأمر شجاعة إستثنائية. ليس مطلوباً منك أن تعادي أحداً لا في الداخل اللبناني ولا في المحيط العربي والإسلامي. مع الوقت، ستجد كل من تآمروا عليك أو أقفلوا أبوابهم بوجهك.. يعيدون النظر في حساباتهم.. وستجد هؤلاء أنفسهم يتوسلون إليك أن تشكل رافعة لهم.. لكن هذه المرة بشروطك وليس بشروطهم.

إذا قررت أن تستمر بالتردد، من حقك أن تعتكف عن خوض الإنتخابات، لكن حتماً ستخسر ليس العائلة والمال والمملكة والطائفة والتيار بل فرصة لن تتكرر.. للبحث صلة.

(*) مناسبة هذا المقال مرور أربع سنوات على واقعة الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تاريخ توقيف سعد الحريري في مطار الرياض.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الحريري المستحيل صار سلسبيلاً.. "شو عدا ما بدا"؟