الأوضاع السياسية الحالية لم يعد ممكنا أن تستمر، فقد تآكلت صلاحيتها إلى حدود يصعب إصلاحها.
فى اللحظة التى قصفت فيها طائرات مسيرة انطلقت من داخل الأراضى العراقية منزل رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمى” سقطت أية شرعية مدعاة، وأية هيبة للحكم، وفكرة الدولة نفسها.
فى بلد إرثه ماثل بالذاكرة العامة فإن استهداف «الكاظمى» ينبئ عن صراعات سلطة محتدمة ومستقبل غامض يلوح فى الأفق المأزوم.
كان استهداف حياة الرئيس العراقى الأسبق «عبد الكريم قاسم» فى (1959)، بطلقات رصاص أطلقتها مجموعة اغتيال من كوادر حزب «البعث»، ضمت رجلا صعد إلى نفس الموقع فيما بعد «صدام حسين»، تعبيرا عن صراعات سياسية وصلت ذروتها دون قدرة على حلحلتها.
فى ذلك اليوم الدموى أفلت «قاسم» من الموت، لكن نظامه أخذ يترنح برغم الاعتقالات والمداهمات وأحكام الإعدام التى صدرت دون أن تنفذ حتى جرى النيل منه هو نفسه بعد انقلاب عسكرى أطاحه فى (1963).
فى محاولتى الاغتيال كل شىء يختلف، العصر والرجال والتوجهات والوسائل، لكن ما يجمع بينهما قوة الرسالة إلى المستقبل، أن ما هو قائم لا يمكن أن يستمر.
بالتوقيت فإن محاولة اغتيال «الكاظمى» رافقت اصطدامات شوارع بين القوى الأمنية وجماعات من المحتجين ينتمون إلى فصائل مسلحة على خلفية نتائج الانتخابات التشريعية.
لم تثبت تهمة التزوير، أو التلاعب فى النتائج، ولا توافر دليل على تورط «الكاظمى» فى أية خروقات تؤثر على سلامتها، حسب السلطات القضائية حتى الآن.
استدعت الأجواء المشحونة عنفا غير مسبوق فى أية محاولات اغتيال سابقة، هذه المرة استخدمت طائرات مسيرة للنيل من حياة رئيس الوزراء، الطموح إلى تجديد ولايته، كأننا فى وقائع حرب لا سجال سياسى وقانونى حول النتائج الانتخابية.
لم يعد ممكنا تجاهل التناقض الفادح ما بين الاحتكام إلى صناديق الاقتراع واللجوء إلى الطائرات المسيرة فى تصفية حسابات السياسة وترهيب المنافسين لتغيير نتائج الانتخابات، أو منع تشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج المحاصصات الطائفية.
لا توجد قوة دولية أو إقليمية متداخلة فى الملف العراقى لها مصلحة الآن فى تفجير الوضع الداخلى، لكن لا أحد يضمن ما قد يحدث غدا إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها بحماقات السلاح
بعد فشل محاولة اغتياله مباشرة أعلن رئيس الوزراء أنه يعرف الجهة التى ارتكبتها، لكنه لم يقدم على أى تصرف أو إجراء يثبت جديته فيما صرح به، فالعواقب غير مأمونة إذا ما اندفع إلى مواجهات غير محسوبة مع الفصائل المسلحة.
هو رجل استخبارات، قبل أن يكون رجل سياسة، يدرك أن الإقدام على أية مواجهات عسكرية تستدعى تحالفات سياسية أكثر رسوخا وإحكاما يصعب تصورها قبل تشكيل حكومة جديدة وفق نتائج الانتخابات التشريعية.
إذا ما أقدم على المواجهة الآن بلا سند سياسى يخسر مقدما حظوظه فى تجديد ولايته.
بقاء التوازنات السياسية الحالية مشروع فوضى مؤجلة والاندفاع إلى المواجهات مشروع فوضى عاجلة.
نحن نتحدث عن (67) فصيلا مسلحا، يشكلون هيئة «الحشد الشعبى»، تختلف بنية تسليحها ومستويات قوتها ودرجة تشددها أو انفتاحها على المكونات السياسية، بالإضافة إلى ميليشيات أخرى لها حضورها العسكرى بامتداد الخريطة العراقية بتنوعها المذهبى والعرقى.
بالتعريف القانونى فإن «الحشد الشعبى» قوات نظامية عراقية، جزء من القوات المسلحة، تأتمر بأوامر القائد الأعلى، الذى هو رئيس الوزراء، على ما ينص تشريع أصدره مجلس النواب بالأغلبية فى نوفمبر/تشرين الثاني (2016).
المفارقة ـ هنا ـ أن رئيس الوزراء لا يقدر عمليا أن يجهر باسم الفصيل المسلح الذى تورط فى محاولة اغتياله، ويقول إنه يعرفه، فضلا عن أن يحاسبه قانونيا.
هذه أوضاع مرشحة للانفجار، الآن أو فى المستقبل المنظور، إذا لم تضبط العلاقات وفق قواعد قانونية وسياسية لها قوة الإلزام والاحترام.
«الحشد الشعبى» نشأ بفتوى «الجهاد الكفائى»، التى أصدرها آية الله «على السيستانى» المرجعية الدينية الأعلى فى النجف الأشرف عام (2014) لمواجهة قوات «داعش» التى وصلت فى ذلك الوقت إلى تخوم العاصمة بغداد.
باليقين فإن قوات «الحشد الشعبى» لعبت دورا جوهريا فى الحرب مع «داعش»، وارتكبت بالوقت نفسه أخطاء وخطايا فادحة فى مناطق السنة والأكراد.
هذه حقيقة مؤكدة على وجهيها الإيجابى والسلبى.
مبررات ودواعى «الجهاد الكفائى» انتفت تماما منذ دحر «داعش» وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية بصورة احترافية، غير أن «الحشد» بقى لاعبا سياسيا مسلحا له حساباته ومصالحه وارتباطاته الإقليمية.
إذا لم تكن إيران متورطة بالتحريض على اغتيال «الكاظمى» فالمعنى أن هناك تفلتات سلاح قد تتكرر تاليا، إذا لم تحاسب الجهة التى أقدمت على استهدافه
نتائج الانتخابات أثبتت تراجع شعبيته بفداحة، فالأسباب التى استدعته لم تعد موجودة.
هناك شىء عميق فى بنية المجتمع العراقى يتغير، عبرت عنه انتفاضة الشباب التى جرت عام (2019)، ضد الفساد والبطالة وتردى الأوضاع الخدمية والصحية.
كانت تلك رسالة غضب أتت بـ«الكاظمى» رئيسا للحكومة فى العام التالى، لكن المهمة أثقل من أن يتحملها وحده، هو أو غيره، إذا لم تتوافر بنية توافقات عامة تمهد الطريق لتشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج المحاصصات الطائفية، برئاسة «الكاظمى» أو غيره، على ما يدعو «مقتدى الصدر»، الذى حاز مرشحوه على الأكثرية فى المجلس النيابى الجديد.
لا شىء سوف يمضى يسيرا فى العراق، الحسابات معقدة ومتداخلة، القوى الدولية والإقليمية تعيد حساباتها خشية انزلاقات غير محسوبة تضر بمصالحها الاستراتيجية.
كان مستلفتا ما كشفته الولايات المتحدة من دعم سياسى لرئيس الوزراء العراقى الحالى وإبداء الاستعداد للمساعدة فى أى تحقيقات تتقصى حقائق محاولة الاغتيال.
كان ذلك استطرادا فى سياساتها الاستراتيجية الجديدة بالقرب من انسحاب قواتها العسكرية المتوقع من العراق.
وكان مستلفتا بصورة أكبر ما سعت إليه إيران من زيارة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى «اسماعيل قاآنى» إلى العاصمة بغداد، لمد الجسور مع «الكاظمى»، وتأكيد إدانتها لمحاولة اغتياله فضلا، وهذا هو الأهم، دعوة أنصارها فى الفصائل المسلحة إلى التهدئة وتقبل نتائج الانتخابات.
كانت تلك حسابات مصالح استراتيجية حاولت أن تتخفف من أى شكوك قبل الدخول إلى جولة جديدة فى مباحثات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووى.
إذا لم تكن إيران متورطة بالتحريض على اغتيال «الكاظمى» فالمعنى أن هناك تفلتات سلاح قد تتكرر تاليا، إذا لم تحاسب الجهة التى أقدمت على استهدافه.
لا توجد قوة دولية أو إقليمية متداخلة فى الملف العراقى لها مصلحة الآن فى تفجير الوضع الداخلى، لكن لا أحد يضمن ما قد يحدث غدا إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها بحماقات السلاح.
(*) بالتزامن مع “الشروق“