العلاقات الثنائية بين السعودية وسوريا لم تكن يوماً موضع خلاف بينهما، لكن منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 اختلف البلدان في الموقف من هذه الثورة، حيث غرّدت دمشق عنوة خارج السرب العربي، ودعمت الثورة الإيرانية، فيما ركبت السعودية موجة العداء للنظام الوليد ودعمت العراق في حربه عليه. وعوضاً من أن يدب العداء بين الرياض ودمشق، استحالت الأخيرة إلى وسيط موثوق بين طهران والرياض. كيف ذلك؟ ولماذا؟ يجيب نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدّام في كتابه “التحالف السوري الإيراني والمنطقة”، الصادر عن “دار الشروق” عام 2010.
لم أتطرق في مقالتي هذه إلى ماهية العلاقة بين سوريا وإيران، كونها كانت موضوع مقالتنا السابقة، بالاستناد إلى رواية خدام المشار إليها أعلاه. سأحصر الحديث عن العلاقة السورية السعودية التي لم تنقطع يوماً إلا في مرحلة الأزمة السورية منذ العام 2011.
امتعضت السعودية من الموقف السوري المؤيد لإيران الثورة، لكن كادت الأمور أن تسير بسلاسة، حتى أن المملكة حاولت أن تستوعب صدمة قيام نظام إسلامي تتقاسم معه مياه الخليج، وصولاً إلى التعايش معه، لو لم يشنّ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين حرباً على إيران. وهذا الأمر زاد من حراجة موقف سوريا لناحية وقوفها مع دولة “غريبة” ضد دولة عربية شقيقة ومجاورة لها.
حنكة القيادة السورية والمصداقية والوضوح في تعاطيها بملف الحرب العراقية الإيرانية، وحصر خلافها مع النظام العراقي، خفّف من حراجة موقف سوريا التي لعبت دوراً ريادياً في حصر الحرب بين إيران والعراق وعدم امتدادها إلى الخليج العربي.
“كانت الحكمة تقتضي العمل على وقف الحرب قبل تطورها، وهذا ما حاوله الرئيس حافظ الأسد في الأيام الأولى من خلال اتصالات أجراها مع كل من السعودية والكويت والجزائر، ولكن هذه المحاولة فشلت بسبب تعنت الحكم في العراق من جهة، وتوقع الأشقاء في الخليج النصر السريع للعراق في حربه ضد إيران من جهة ثانية”، يقول خدام في كتابه.
ظُلِمَت سوريا كثيراً، و”سمعت كلاماً قاسياً أحياناً وكأن بعضهم (زعماء العرب) حامل راية القومية العربية، وكأن سوريا تراجعت عن مبادئها وقيمها الوطنية والقومية”، لا سيما مع رفع شعار “العراق يدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية”.
لم تدم هذه المقاربة العربية طويلاً، حتى بدأ يتكشف لدى القيادة السعودية وسائر الدول الخليجية، أن العراق لا يقل خطراً عن إيران في مكان ما. ويعود الفضل في ذلك إلى سوريا التي استماتت في شرح موقفها من العراق وتشريح شخصية الرئيس صدام حسين الجامحة والطامعة بالهيمنة والسيطرة ليس على سوريا وحسب، إنما على العالم العربي برمته.
عملت القيادة السورية على خطين متوازيين؛ الأول، احتواء الاختلاف مع دول الخليج من خلال الحوار وتقديم التطمينات والتعهدات، والتي يتلخص جلّها بأن سوريا ستكون معها في أي صراع تخوضه إيران أو غيرها. وطالما ردّد المسؤولون السوريون هذا الموقف على مسمع القيادة السعودية، وعلى رأسها الملك فهد بن عبد العزيز الذي كان مطمئناً وواثقاً من جدية وصدقية موقف سوريا. وقال ذات مرة لوزير الإعلام السوري أحمد إسكندر عندما التقاه في الرياض في شباط/فبراير عام 1983، “نحن نثق بسوريا وثقتنا بسوريا لا حدّ لها، ولا نسمح لأي شيء أن يشوب أو يُعكّر هذه الثقة، نحن نتشاور معكم وثقتنا مطلقة بالأخ حافظ وسوريا تحت قيادته”.
أما الخط الثاني، فيتمثل بالتركيز مع القيادة الإيرانية على وجوب العمل على تطمين دول الخليج وعدم القيام بأي عمل يثير مخاوفها.
والجدير ذكره، أن موضوع وقوف سوريا إلى جانب أي دولة عربية غير العراق في حال دخلت بحرب مع إيران، قد أبلغته دمشق إلى طهران مراراً وتكراراً. ولطالما تفهمت الأخيرة هذا الموقف انطلاقاً من مبدأ أن وقوف سوريا ضد العراق استثناء، لأسباب تتعلق بنظامه ورئيسه المعادي لسوريا والذي يتربص فيها الدوائر، وإلا سوف تكون سوريا، بطبيعة الحال، إلى جانب إخوانها العرب، وهي التي تعتبر إحدى الركائز الداعمة للوحدة والقومية العربية.
ثمة حرص سوري دائم على أمن واستقرار الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، وذلك لأسباب قومية من جهة، وأهمها الروابط الأخوية ووحدة الانتماء، ومن جهة ثانية تتلخص بإدراك سوريا حساسية منطقة الخليج، بحيث أن الخلل فيها سيؤدي إلى تدخل أجنبي بكل ما لهذا التدخل من انعكاسات خطيرة على واقع الأمة ومستقبلها.
تمظهر الدور السوري الوسيط والاطفائي بشكل جلي عام 1983، أي بعد مضي قرابة ثلاث سنوات على الحرب، وفشل العراق في تحقيق النصر الموعود، إذ ظهر آنذاك في وضع لا يحسد عليه، في ظل مواجهة إيرانية شرسة، والتي انتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، حيث استعادت طهران كل المناطق التي احتلتها القوات العراقية في بداية الحرب، وسيطرت على شط العرب بكامله.
وحتى يخرج صدّام حسين من مأزقه هذا، وفي محاولة منه لتوريط الدول الخليجية في الحرب، لجأ إلى ضرب المنشآت الاقتصادية الإيرانية، ولا سيما النفطية، فقصف مصب خرج الإيراني، واستهدفت المقاتلات العراقية من صنع فرنسي، والمزودة بصواريخ دقيقة، الناقلات المتوجهة إلى المصبات النفطية الإيرانية.
وكان لهذا الاستهداف أثر سلبي على إمكانات إيران وطاقتها التصديرية والمالية، وهي التي تواجه أصلاً مصاعب الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب، بالإضافة إلى أعباء حربها الضروس مع العراق. فلجأت إلى التعرض للبواخر القادمة إلى المرافئ السعودية والكويتية.
وعليه، انتقلت الحرب إلى مياه الخليج، وصار خطر زج صدام حسين دول الخليج في حربه مع إيران قاب قوسين أو أدنى.
اتهمت طهران الرياض بأنها هي من زودت المقاتلات العراقية بالوقود، أو أقلعت تلك المقاتلات من مطاراتها العسكرية، ودعت المملكة إلى العدول عن سياسة دعم العراق، وإغلاق الانبوب النفطي الذي أنشئ بينهما.
تولت سوريا المفاوضات، وبذلت قيادتها جهوداً مضنية لثني المملكة عن الرد وعدم اتساع رقعة الحرب التي يطمح إليها صدام. وكانت السعودية حريصة على تسوية الأمور سلمياً، برغم تأكيدها للجانب السوري بأنها قادرة على مجابهة الطيران الإيراني، وأن بحوزتها أسلحة متطورة تجيد التعامل مع المقاتلات الحربية.
قام نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ووزير الخارجية السورية فاروق الشرع بزيارات مكوكية بين طهران والرياض لمعالجة وتسوية الخلافات بينهما، إضافة إلى استقبال دمشق لموفدي الملك فهد للغاية نفسها. وكان البارز من بين هؤلاء الموفدين رجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري بصفته مواطناً سعودياً، الذي التقى القيادة السورية عدة مرّات، وفي تلك الفترة، كانت ربما أولى بدايات عمله السياسي. والذي أصبح بعد عقد من الزمن رئيساً للحكومة اللبنانية.
استطاعت سوريا آنذاك تجنيب منطقة الخليج حرباً لا تُبقي ولا تذر، وقطعت الطريق على صدام حسين المستفيد الأول من تلك الحرب، إضافة إلى إسرائيل المستفيدة دائماً من أية اضطرابات في المنطقة، فكيف إذا كانت حرباً!
هكذا كانت سوريا إبان حرب الخليج الأولى، وهكذا كانت علاقتها بالمملكة، واستمرت في التعاون مع الأخيرة أيضاً في حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت) وما بعدها، برغم عدم رضا الرياض طبعاً على تطور العلاقة بين دمشق وطهران، لا سيما بعد أن فتحت الأولى أمام الثانية الباب اللبناني على مصراعيه.
إلا أن العلاقات السعودية السورية أصيبت بالفتور بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003) واختلاف سياسات البلدين في المنطقة، ثم تدهورت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005؛ وواصلت انحدارها مع ما أعقب الاغتيال من تداعيات، بما في ذلك حرب تموز/يوليو 2006 ثم حرب غزة (2008).
لم ترق للقيادة السعودية تصرفات النظام السوري، خصوصاً بعد اشتداد صراعها مع طهران على المكانة والنفوذ، ولمن الغلبة في العراق ولبنان وغيرهما؟ ولم تنسَ كلام بشار الأسد عام 2006، الذي تعرّض فيه لزعماء العرب ووصفهم بـ”أنصاف الرجال”.
اكتمل الخلاف بين دمشق والرياض عام 2011 إثر اندلاع الأزمة السورية، حيث وجدت الرياض فيها فرصة للتخلص من نظام بشار الأسد الذي انخرط في المشروع الإيراني في المنطقة، بصورة متقدمة جداً عن والده الذي كان أكثر اتزاناً وموازنة بين علاقته بطهران وسائر الدول العربية وعلى رأسها الرياض إذ ما نحينا اختلاف الظروف جانباً، وفق رواية نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام.