تركيا في لبنان.. بدل ضائع سوري أم سعودي؟

يحطّ وزير خارجيّة تركيا مولود جاويش أوغلو اليوم (الإثنين)  ضيفًا على بيروت. لا يُمكن لكل مهتمٍ بالشأن التركي إلّا أن يُلاحظ أن أنقرة تنتهج سياسة خارجية لا يهدأ طنينها على إمتداد الكرة الأرضية، من مجاهل إفريقيا إلى أهم عواصم القرار في العالم.

ما يميّز السياسة الخارجية الأردوغانية، أنّها تُحدّد أهدافها وتسعى إلى تحقيقها. هذا الوضوح في التصوّر والإندفاع في التنفيذ، هو من نتائج تصالحها مع تاريخها وعمقها الجغرافي والسياسي والثقافي في عهد حزب العدالة والتنمية، وعليه، تُدرك كيفية مخاطبة كلّ جهة باللغة المغرية لها، فلنسمها الدبلوماسيّة البراغماتية أو البراغماتية الدبلوماسية، لا فرق، هناك من يُخاطَب بالمصالح والإقتصاد، وغيره “يُستدرج” بالدّين والقيم، والبعض يجذبه العِرْق والتاريخ، وآخر بتوليفةٍ منها جميعًا.

صحيحٌ أن الرئيس رجب طيب أردوغان يُحاول مؤخرًا تغطية مشاكله الداخلية المتصاعدة، ولا سيما الإقتصادية والمالية، بانشغالات خارجية، غير أنّ ذلك لا ينتقص من كونه يمتلك أهدافًا متدرّجة، وغالبًا ما ينجح في تحقيقها. لعلّ سوريا هي الثّغرة الأبرز المُعتدّ بها، لكن دخول القوات التركيّة واحتلالها أجزاء واسعة ومهمّة في الشمال السوري، جعل من أنقرة مفاوضًا إلزاميًّا في أيّ حلٍّ نهائي تشتهيه دمشق بشراكة الحليفين الروسي والإيراني.

ليبيا، تونس، قطر، العراق، سوريا، الصومال، قبرص التركية، ودرّة توسّعها أذربيجان (ناغورنو قرّه باخ) التي منحت مشروع أردوغان “منظمة الدول التركية” شريان الحياة، إضافة إلى موطىء قدمٍ جديد لها في أفغانستان، فالعسكر والحروب من أدوات السياسة ومكمّلاتها، كلّها تُدلّل على نهم الأتراك للتمدّد وعدم الإكتفاء بما قد تمّ تحصيله. الأرقام تساعد على توضيح الصورة أكثر، وهي مهمّةُ وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، إذ صرّح قبل عدّة أيّام بأنّ “عدد الممثليّات الدبلوماسيّة التركيّة حول العالم بلغ 253 ممثليّة”، مضيفًا أنّ لدى تركيا خامس أوسع تمثيل دبلوماسي حول العالم.

يقاتل الأتراك بكلّ شراسة وبشتى الوسائل وعلى كلّ الجبهات، من أجل تثبيت أقدامهم في عالم إنتاج وتصدير ونقل الغاز والنفط، فطموحات أردوغان وأحلامه الكبيرة يستحيل أن تتحقّق دون امتلاك نفوذٍ واقعيّ على مصادر الطاقة في شرق المتوسط

اختراع لبنان أيّام السلطنة

يختزل فيلم الرحابنة “سفر برلك” الذي تدور أحداثه عام 1914 (إنتاج سنة 1967)، مخزون الذاكرة الشعبية ولا سيما صورة الأتراك في أذهان ومخيّلات غالبيّة اللبنانيين: مصادرة القمح واشتداد الجوع وإجبار الرجال على العمل بالسّخرة وإبادة الثروة الحرشية وتفريق شمل الأحبة. في الواقع، لا يمكن الحكم على كلّ التاريخ العثماني من خلال سنوات ما قبل إنهيار الإمبراطورية العثمانية لأسباب عديدة، أهمّها أنّ السلطنة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في ظلّ الحرب العالمية الأولى، التي خسرتها وانتهت معها.

في كتابه القيّم “الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني” (أطروحة دكتوراه تعتمد على الوثائق الرسمية للسلطنة)، يعتبر المؤلف ستيفن وينتر أنّ التحالف بين أمراء الحرب الدّروز والفلاحين الموارنة، هو ما صار الأسطورة المؤسّسة للبنان الحديث، وهو ما سجّله وأحيا ذكراه المؤرّخون المسيحيّون، وعليه، يُصبح فهم خلفيّات هذا التّاريخ الّذي كُتب عن لبنان وجماعاته، ومقاربته للوجود العثماني في بلادنا واضحًا وجليًّا.

يُقدّم وينتر قراءة لتبلور الكيان اللبناني، إذ لم يكُن هناك أبدًا أيّ تعريفٍ دقيقٍ للأراضي الّتي تُشكله تاريخيًّا، ففي الإنجيل والنّصوص القديمة الأخرى، يُستعمل التعبير للإشارة إلى عدد من الجبال والقمم الواقعة بين شمال فلسطين وجنوب سوريا بشكل عام، وقد أهملت التسمية بعد الفتح الإسلامي، ولم تعد تُصادف لا في تواريخ العرب الوسيطة ولا في الوثائق العثمانيّة حتّى ما قبل القرن التاسع عشر. هو يَعتبر أنّ لبنان ككيانٍ سياسي ليس أقدم من 1842، عندما ألزم الإتفاق الأوروبي العثمانيّين بتأسيس منطقةٍ إداريّة لحماية مصالح السّكان المسيحيّين الموارنة في الشّرق، وهذا النظام، بحسب قراءة وينتر، هو الذي كوّن أساس مقاطعة جبل لبنان المنفصلة سنة 1861، ثمّ كوّن دولة الإنتداب الفرنسي “لبنان الكبير” سنة 1920.

الطريق لبيروت بات أيسر

قبل حوالي عامٍ ونصف، كتبتُ مقالًا تحت عنوان “أنقرة ترث الرّياض في بيروت“، خلاصته أنّ الحضور التركي في لبنان يتوقف على عدّة عناصر متداخلة، أهمّها حجم الفراغ السياسي والشّعبي والإقتصادي الذي يُحدثه الإنكفاء المتمادي للرّياض منذ إنهيار التسوية الرئاسيّة عام 2019. ربّما كان عنوانًا مبالغًا فيه حينها، فتجاهل الرياض و”ازدراؤها” للبنان وسياسيّيه وشعورها بالغبن والخديعة مقابل استثماراتها لم يكن قد بلغ ذروته بعد. أمّا اليوم، فمن يعرف السعوديّين ويتواصل معهم، يعلم أنّهم قد أخرَجوا لبنان من دائرة اهتماماتهم، لا ضير أن يتساقط أو ينهار، فالرياض ـ في نظر خصومها ـ “لا يعنيها أيّ شيء سوى أمرٍ واحد، هو اشتعال لبنان إن كان ذلك سيؤدي لاحتراق عدوّها اللّدود”، أي حزب الله.

يريد الأتراك أن يملأوا شيئًا من الفراغ أو الإنكماش، لكن ليس على قاعدة جعل لبنان بدل عن “ضائع سوري”.. وحتمًا لن يتجاهل الأتراك حقيقة أن سوريا تفتح صفحة جديدة مع محيطها الإقليمي، وبالتالي لن تتساهل مع من يحاول المس بأمنها القومي من البوابة اللبنانية

في المقابل، بدا الأتراك، في السنتين الأخيرتين كمن يتقمّص شخصيّة أسطورتهم التاريخيّة “الذئب الأغبر” (البوزكورت)، ذات الرمزية والدلالة والإحترام لديهم، لكن مع تحوّل في اشتهاء رائحة الغاز والنفط بدل الدّم. يقاتل الأتراك بكلّ شراسة وبشتى الوسائل وعلى كلّ الجبهات، من أجل تثبيت أقدامهم في عالم إنتاج وتصدير ونقل الغاز والنفط، فطموحات أردوغان وأحلامه الكبيرة يستحيل أن تتحقّق دون امتلاك نفوذٍ واقعيّ على مصادر الطاقة في شرق المتوسط.

إقرأ على موقع 180  السعودية وأمريكا.. من "زواج كاثوليكي" إلى "زواج إسلامي"!

يأتي الإهتمام التّركي المتصاعد بالوضع في لبنان (لو حقّقت أنقرة مرادها السوري، لكان لبنان بمثابة تحصيل حاصل كما يقال) من زاويا عدة؛ أولها، محاولة تلمس آثار الفراغ الذي ولّده الإنكفاء الخليجي، ولا سيما السعودي، وهو فراغ يجعل لبنان في حسابات الإقليم جزءاً من خارطة النفوذ الإيراني. لا يريد الأتراك منافسة مصر أو أي لاعب عربي يتنطح لمحاولة ملء الفراغ، لكنهم حتماً يعتبرون أمن لبنان جزءاً من أمنهم القومي، طالما أن قواتهم ترابط في حزام يمتد أفقيا على طول الحدود السورية الشمالية. ثانيها، إنخراط تركيا في الصراع العالمي المُستعر ليس على بلوكات الطاقة فقط، بل على ممرّات امداداتها نحو القارة الأوروبيّة، فما يُستخرج من غازٍ لا قيمة له قبل وصوله إلى أوروبا، والسِباق هو في من يصل أوّلًا.

دعنا من بروباغندا المساندة والدعم وكراتين الإعاشات. ثمة فراغ في الشارع السني. مرفأ بيروت المدمّر وإعادة بنائه؛ بلوكات الغاز في المنطقة الإقتصادية اللبنانية؛ تطوير مرفأ طرابلس في شمال لبنان؛ هذه هي الأصول. فرنسا “الأمّ الحنون” تتحرّك بالخلفيّة ذاتها، ولذلك يشتدّ الخلاف التركي-الفرنسي ويستعر، من قبرص إلى ليبيا إلى سوريا ولبنان. نهار الجمعة الفائت، أي بعد عدّة أيّام من عرض التلفزيون التركي للفيلم الوثائقي “المصنع” الذي يكشف كيف موّلت المخابرات الفرنسيّة تنظيم “داعش”، إلتقى نائب وزير الخارجية التركي سادات أونال مع المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي إيمانويل بون، حيث تناول اللقاء العلاقات الفرنسية – التركية، وفي مقدّمتها ليبيا وسوريا وطبعًا لبنان. لو تمّ التفاهم، سنشاهد وثائقيًا جديدًا يتحدث عن العلاقات المميزة التي جمعت السلطان سليمان القانوني بالملك الفرنسي فرانسوا الأول.

ماذا يُريد لبنان؟

الحديث هنا عن فهم سياسة دولةٍ (لبنانية) تجاه ثرواتها الموعودة وموقعها على خريطة هذا الصراع العالمي الكبير ومستقبل الطاقة، في حين أنّ المواطن اللبناني يجهل ماهية سياسة بلده من أجل توفير حليب الأطفال ومنعه من الإنقطاع من الأسواق والصيدليات!

غير أنّ قطار “البزنس” لا ينتظر أحدًا. ما يعانيه لبنان اليوم يجعله فاقدًا للتوازن، ما يعني عدم القدرة على اتخاذ قرارات سليمة وصائبة. ثرواتنا المستقبليّة التي يهتمّ بها الجميع أكثر من لبنان نفسه، هي محطّ أطماع كثيرين وعلى رأسهم الكيان المحتل لفلسطين، وذلك يتطلّب موقفًا وفهمًا لموقع لبنان اليوم وغدًا. ما يجب أن يُحدّد العلاقة الإقتصاديّة والسياسية المتوخاة مع تركيا وغيرها قبل أيّ شيءٍ آخر، هو موقفها من العلاقة مع إسرائيل. الحديث هنا لا يتصل بخطاب شعبوي تُرفع القبعة لقدرات الرئيس أردوغان على إتقانه وصياغته، بل يتصل بالأرقام والمعطيات والتحالفات والإصطفاف الحقيقيّ والنهائي في لحظة التباينات المصيريّة، سؤالٌ هل تملك أنقرة جرأة الإجابة عليه؟

وما يسري على أردوغان يسري على القيمين على السياسة الخارجية اللبنانية. ربما يخطر على بال هؤلاء أن إستقبال مولود جاويش أوغلو، في هذا التوقيت، يُشكل مناسبة لتوجيه “رسالة ناعمة” إلى السعودية. سلوك تكتيكي قد يرتد على لبنان، ذلك أن التركي ليس بوارد منافسة الرياض. الأخيرة علاقتها بالدوحة في هذه الأيام أفضل من علاقتها بالإمارات، ولا يمكن أن تتم زيارة أوغلو إلا بالتنسيق مع قطر وإسرئيل، من دون إغفال رمزية زيارة ولي عهد الإمارات محمد بن زايد إلى تركيا قبيل وصول جاويش أوغلو إلى بيروت.

في الخلاصة، فَتَحَ الإنسحاب الأميركي من أفغانستان الباب أمام إعادة تموضع اللاعبين الإقليميين وإعادة صياغة منظومات ثنائية وإقليمية. يريد الأتراك أن يملأوا شيئًا من الفراغ أو الإنكماش، لكن ليس على قاعدة جعل لبنان بدل عن “ضائع سوري”.. وحتمًا لن يتجاهل الأتراك حقيقة أن سوريا تفتح صفحة جديدة مع محيطها الإقليمي (زيارة عبدالله بن زايد، الكهرباء الأردنية، الغاز المصري)، وبالتالي لن تتساهل مع من يحاول المس بأمنها القومي من البوابة اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بايدن يقود الديموقراطيين إلى هزيمة.. كارثية!