يُلامُ حزب الله كثيراً.. ولكن؟
سياسة مهرجان حزب الله في عيتا الشعب خلف الصورة موقع الراهب ( عباس سلمان )

قراءة الواقع، الفباء السياسة. الواقع مولود ومولَّد. هو ابن تاريخ متصل ووقائع متناسلة. وهو اساس في تكوين الحاضر بكل تشعباته، ومُولّد للمستقبل بكل احتمالاته. السياسي الذي يطلق الواقع، يرتكب حماقات قد تقوده، ومن معه، إلى محنة، ودم غالباً.

هل يعرف اللبنانيون لبنان؟ كيف يقرأ القادة لبنان؟ الجواب بديهي جداً. قادة لبنان تاريخياً، قادوا لبنان إلى التهلكة. ودفع اتباعهم ثمن جهلهم وثمن عماهم في تأمين مصالحهم، حروباً صغيرة مؤذية، وحروباً كبيرة مدمرة.

يحتاج اللبنانيون معرفة واقعهم اللبناني، وان يتقبلوه، وأن يقلّبوه. وأن يتدبروا شؤونهم فيه. يلزم ألا يغفلوا عنه ابداً، لأن السياسة ليست تحقيق الاماني والطموحات والعقائد، إلا نادراً جداً، وفي مجتمعات ذات بنية سليمة وركائز متينة، ووعي الشعب بمصالحه.

السياسة هي المعبر الموضوعي لفهم الحاضر. حاضر لبنان راهناً، مكتظ بالشعارات البعيدة جداً. جداً.. جداً، عن الواقع. “الاعلام” (بين مزدوجين) يحرّض الجمهور تحريضاً انتحارياً، إذا ما وجد إلى ذلك مناسبة او سبيلاً. كل فريق يقف خلف متراسه. يصوّب مواقفه واقواله وتهديداته، والنتيجة، كانت وما تزال، طحن لبنان بالأزمات، اغتيال للقمة الخبز، مسح للكرامة، مسخ لأي امل شاحب..

قادة لبنان راهناً، ليسوا ” لبنانيين” فقط. هم أمميون، اقليميون، وعلى كل الجبهات. يخوضون حروباً مع وقف التنفيذ. تأثيرها الداخلي أكبر بكثير، من مساهماتها في الساحات الملتهبة، عربياً، مذهبياً، اميركياً، اسرائيلياً، إلى آخر الجبهات. هذا خواء سياسي. أقصى ما بلغته لغة هؤلاء الكبار، هو تزخيم الاحقاد وتعميم الكراهية وبناء القلاع المقفلة كلياً، على ابناء الطوائف الأخرى. أي الانحياز، حتماً.

يتنطح اللبنانيون للعب ادوار تعود بالويل على لبنان. فيا أيها اللبنانيون، كونوا طائفيين ولكن تعقلوا.. تعلموا من تاريخكم قليلاً

ماذا يعني أن لبنان بلد طائفي. كينونته طائفية. نظامه طائفي. ادارته طائفية. قضاؤه طائفي. أجهزته الامنية والعسكرية، طائفية.. إلى آخر جغرافية لبنان، التربوية و”الاعلامية” و”التنموية” (يا حرام). والانكى من كل ذلك، يتنطح اللبنانيون للعب ادوار تعود بالويل على لبنان. فيا أيها اللبنانيون، كونوا طائفيين ولكن تعقلوا.. تعلموا من تاريخكم قليلاً.

نعم. لبنان للطوائف، وعليه، كيف تصاغ سياسات طائفية سلمية. نعم سلمية. قد يكون ذلك خرافة، ولكن، لا بد من المحاولة، حتى يكون التعايش الطائفي مرضياً للطوائف، أولاً، ولولائهم إلى الخارج ثانياً.

لا رغبة ابداً بالدفاع عن نظام طائفي، استبدادي، اسقاطي، متمادي، بل كارثي جداً. هذا النظام المتخلف جداً، والحقير جداً، يمكن أن يكون أكثر ملاءمة، إذا تواضعت الطائفية ولزمت حدود مصلحة اتباعها، من دون المساس بحقوق ومصالح اندادها الطائفيين. لبنان اللبناني، الذي استولدته فرنسا من رحم خرائط المنطقة بعد تقسيمها، فقد راهناً، كل مقومات وجوده. عورة لبنان فضيحة. عجب ممن امتدح لبنان، ورفعه إلى مرتبة الطوباوية السياسية. مسموح للشعراء أن يرسموا لبنان السمو، في الرفعة والمغامرة، والمجد والريادة، من فينيقيا حتى نهر الكلب. الورم الخبيث الذي تربى في العقول والسياسات والصفقات والرهانات على العدو حيناً، وعلى ما يشبه الصديق احياناً.

لبنان، في منحدره السريع اليوم، فقد كل مقومات وجوده، وبات ساحة صغيرة متروكة، تصطرع فيه قضايا محلية مزمنة، ومشكلات اقليمية صراعية وصدامية وحتمية، ومواقع راسخة لأعداء محورين اثنين، لم يلتقيا وقد لا يلتقيان، الا في ساحات المواجهة، المنتشرة من اليمن إلى العراق إلى فلسطين، إلى لبنان، إلى إيران، بمعية ارباب الحروب والحلول (طبعاً) برئاسة الولايات المتحدة وطغمة غرب ارتكب فينا منذ قرن، أفظع الجرائم على الاطلاق. اتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور.

لبنان هذا. إبن لسايكس بيكو هذا الخراب اليوم، هو إبن تلك الكارثة.

استطاع موسى الصدر أن يلم تحت عباءته، وفي غمار ثقافته، وفي سحر اطلالاته، ومودة كلامه، وصلابة مطالبه، حشوداً من النخب اللبنانية، فساروا معاً، ومعه، وضع الامام الصدر حداً للظلم الذي نال من الشيعة

البداية، كانت من خلال توزيع الجغرافيا، على طوائف وإثنيات ومذاهب وأرومات وعشائر و.. لم يكن هم الدول المنتدبة التمهيد لبناء دولة، ونظام ديموقراطي، وحريات وحقوق انسان.. لبنان كان جائزة للمسيحيين الموارنة. كما كان العراق للهاشميين إلى جانب الاردن. وكانت السياسة الفرنسية ماضية في تجزئة الكيان السوري إلى كيانات طائفية. دروز وعلويون وسنة الخ.

التحق السنة بالكيان، بعد ممانعة. قدموا اليه مكرهين. لوّحوا بالمطالب. للسنة حصتهم، فأخذوها. الدروز كانوا في اساس النظام الوراثي في الجبل. نالوا حصتهم الضئيلة واعتنوا بها. لم يستقروا في مقام او سياسة. اما الشيعة، فقد غُلبوا بالقوة والبطش والعنف. حلّت النعمة الفرنسية على الموارنة، وحلّت اللعنة على الشيعة، لأنهم رفضوا الالتحاق بلبنان، وانتموا إلى الثورة العربية، التي هزمت بالعنف. ظلّ الشيعة على الهامش البعيد. مضطهدون كانوا. أذلهم النظام.

المارونية السياسية، تمدح نفسها. يتحسَّر كثيرون على حقبة المارونية السياسية. يرون فيها نموذجاً يُحتذى. كذب فاقع هذا الكذب. السنية السياسية التي ماشت المارونية السياسية، ومألاتها احياناً، انتفضت مراراً على السلطة، وخرجت عليها. إلا أن السنية السياسية طمست حقوق الطائفة الشيعية. تمييز طائفي بامتياز. شيعة النظام من زمان. ما قبل اليقظة الشيعية الطائفية، كان مكانهم على الباب من الخارج. أي، برتبة بوَّابين. يقولون ما تقوله المارونية السياسية وشقيقتها السنية السياسية.

مسيرة الشيعة مختلفة عن مسيرة الموارنة المدعومين غربياً، وعن مسيرة السنة المدعومين والداعمين من جهتهم، لقضايا عربية. انما كان هذا، من ضمن الاطر النظامية للسلطة، حتى ولو خرجوا عليها. الشيعة منبوذون، مبعدون، مضطهدون، سكان ارياف. متخلفون. يصلحون عمالاً، و.. كل المهن الوضيعة من اختصاصهم.. لم يكن هناك أبشع من هذا النظام. ومع ذلك، فقد انخرط شبانهم المتعلمون، في احزاب عقائدية، يسارية، قومية، بعثية، ناصرية وفلسطينية. كانوا طليعة المناضلين، فكراً ومعرفة وميداناً. طاردهم النظام الطائفي واقصاهم ولاحقهم وأصدر بحقهم احكاماً جائرة، شكلت جائزة لهم.

مهما طال الليل، فانه آفل لا محالة. ظل الاضطهاد والظلم والاهمال سائداً، حتى ستينيات القرن الفائت. استطاع الامام السيد موسى الصدر أن يلم تحت عباءته، وفي غمار ثقافته، وفي سحر اطلالاته، ومودة كلامه، وصلابة مطالبه، حشوداً من النخب اللبنانية، فساروا معاً، ومعه، وضع الامام الصدر حداً للظلم الذي نال من الشيعة.

في ما بعد، حظيت الشيعية السياسية بالاعتراف. صارت أحد اضلاع المربع السياسي: الموارنة، السنة، الدروز، والشيعة.

اقتربت اليقظة الشيعية بلحظة انبعاث الكفاح الفلسطيني المسلح، لم يكن لبنان موحداً حول وجهة التعامل مع هذه القضية.. تفاقم الوضع الاقليمي كثيراً. كل طائفة عسكرت مع حليف لها. إنفجر لبنان. رفعت المتاريس، وفتحت ابواب الجحيم.

قد يُلام حزب الله سياسياً على تحالفات، وقد يُلام لأن عباءته واسعة يتفيأ فيها فاسدون ومرتكبون، ولكنه لا يُلام لأنه مقاوم، وعلى حدودنا الجنوبية، عدو، لطَّخ ايديه بدماء ابرياء وطامع بأرضنا وحدودنا ومياهنا

كيف نقرأ الواقع، علينا أن نكون موضوعيين. الطائفية اساس في الكيان وفي الاجتماع وفي السياسة. فطبيعي أن يقف الموارنة ضد الفلسطيني الذي تمدد سلاحه بعد خروجه من الاردن، وبات معلماً حاسماً في خريطة الصراع. طبيعي كذلك، بحكم الانتماء الطائفي، أن يكون السنة مع الفلسطيني. السني رأى في المقاومة الفلسطينية، جيشه الحاسم، في مواجهة مارونية يميل الجيش اللبناني، لأن يكون حاميها. الدرزي ترأس جبهة المعارضة إلى جانب احزاب قومية ويسارية. الانفجار اللبناني، تردد صداه في عواصم الاقليم، وفي الغرب ايضاً.

إقرأ على موقع 180  لبنانكم "خلص".. وبديله "طوائمقاميات"!

خريطة لبنان السياسي الرسمي، لم تعد ذات وزن ودولة. الخنادق والجبهات ازدانت بالدماء والجثث. خريطة يسكنها الاجرام والحرائق وعمليات التطهير الطائفي.. كان لبنان يموت كل يوم ويُصلب كل يوم بلا رجاء ولا قيامة.

طبيعي وواقعي، أن يقال للماروني انعزالي. وان يقول الماروني للسني انه يطعن الميثاق، وان يقول للدرزي، عادت حرب الستين في القرن التاسع عشر.. في هذه الاثناء، وفي عز احتدام المعارك، اختفى الامام الصدر، ومصيره بات مجهولاً. وفي ما بعد، وتحديداً في عز المعارك والكر والفر والجرائم والحرائق والاجتياحات في لبنان، استطاعت الشيعية التاريخية أن تحقق اول دولة اسلامية في التاريخ، ولم تكن في دنيا العرب، بل في إيران الشيعية. كان هذا زلزالاً غيّر الخريطة برمتها. القدس صارت عاصمة ثانية لإيران. ومن هم على مذهبها في لبنان، انتظموا ايماناً وتقليداً، وانشقوا سلاحاً. ووجهة التصويب: فلسطين.

هل لبنان بحاجة إلى “حزب الله” اليوم؟

جواب المارونية السياسية راهناً هو كلا. هو سبب الاعتلال السياسي. يكيلون التهم من العيار الخياني. يصوِّبون عليه يومياً، ولكنهم لا يصيبونه. لماذا؟

قليل من التعقل. “حزب الله” لبناني جداً، وايراني جداً. وهذا الامر معمم جداً على الطوائف الاخرى. افهموا بعضكم بعضاً. لبنان يأتي اخيراً، في مندرجات الواقع.

في الذاكرة ما يلي: احتدم الصراع في اواخر السبعينيات واوائل الثمانينيات الماضية. امسك بشير الجميل بالأرض والقرار المسيحي. كانت الكتائب من قبل، قد استنجدت بسوريا. حضرت سوريا عسكرياً، خاضت معارك تحجيم المقاومة. بعد ما انهت سوريا خدمتها في المناطق الشرقية، طردت منها بقوة السلاح.. من يستطيع بعد سوريا أن يقوم بمهمة استعادة المارونية السياسية لموقعها الأول والدائم. “اسرائيل” لبّت الطلب، اجتاحت الجنوب وحاصرت بيروت وقصفت ودمرت وقتلت وطاردت وارتكبت. سلاحها، بري، بحري وجوي. حُوصرت بيروت، أُخرجت المقاومة الفلسطينية، كانت طريقها في البحر، وبحر فلسطين محتل.

الشيعة في هذه الاثناء، كان عليهم أن يقاوموا المحتل. وبدأت ملحمة تطهير لبنان من الاحتلال. كانت المقاومة اللبنانية متنوعة المشارب والعقائد، وشاركت ببسالة ضد الاحتلال الاسرائيلي، في بيروت والجبل و.. كل ما جرى في ما بعد بات معروفاً، إلا أن ما يجب الالتفات اليه، انه فيما كان سياسيو لبنان بعد إتفاق الطائف، يحكمون تحت عباءة سورية وأوامر امنية صارمة، كان حزب الله منصرفاً كلياً، لمقاومة الاحتلال.. لم يحد عن الهدف قيد انملة. خلفه نظام في إيران، يمده بكل ما يلزم لطرد العدو، وهذا ما كان.

غريب، كيف لا تؤخذ هذه الامور بعين الاعتبار. غريب ايضاً هذا التساهل الاعلامي مع “اسرائيل”، وكأنها شقيقة وجارة ابدية. غريب هذا القِران مع عواصم التطبيع مع “اسرائيل”. غريب كيف تحوَّلت ازمة النظام المفلس والمخرب والمجرم بحق لقمة شعبه، إلى حرب كلامية ضد “حزب الله”. قد يُلام الحزب سياسياً على تحالفات، وقد يُلام لأن عباءته واسعة يتفيأ فيها فاسدون ومرتكبون، ولكنه لا يُلام لأنه مقاوم، وعلى حدودنا الجنوبية، عدو، لطَّخ ايديه بدماء ابرياء وطامع بأرضنا وحدودنا ومياهنا.

لبنان الطائفي اساساً وكياناً، بحاجة إلى “حزب الله” الشيعي، ومستحيل تجاهله، ومناوأته قاصرة حتماً، ولبنان بحاجة الماروني، صاحب الامتياز التأسيسي، وبحاجة إلى السني، ذي البعد العربي المتبدِّل، وبحاجة إلى الدرزي

اجتياح عدونا الإسرائيلي للبنان، وغاراته التدميرية، كلما عنَّ على باله أن يؤدبنا ويخضعنا، توقفت بعد حرب تموز.

لبنان، بحاجة إلى المقاومة. والمقاومة ليست سبب خراب لبنان. وإذا كان الحزب متساهلاً في محاسبة اقرانه واصدقائه وحلفائه، فليكن النقد على نهجه السياسي وعلى سلوكه في الحكومة والبرلمان والادارات..

إذاً ماذا؟

الصيغة الطائفية اللعينة، هي المتاح الوحيد امام حل لبناني طائفي. هذا الحل الطائفي، ممكن، بشرط أن يأخذ كل طرف خصوصيات وتاريخ هذه الطوائف سياسياً، بعين الاعتبار.. الكيان يتداعى. الطوائف المتصادمة تدمّر لبنان، وتسحق اللبنانيين. اقبلوا بعضكم بعضاً، واقبلوا معكم حلفاءكم. إذا، لم تفعلوا ذلك، فجهنم بانتظاركم.

بلى. الصيغة الطائفية الجديدة لا تحتاج إلى زعماء، بل إلى حكماء.. ابحثوا عنهم.

أما العلمانيون، فسيتاح لهم الميدان، في السلم الطائفي، الممكن، أن يخوضوا نضالهم العلماني، الديموقراطي، الانساني، من دون خوف. السلم الطائفي، فرصة للعلمانيين كي ينشطوا ويتوحدوا ويتحولوا إلى قوة، تناهض الطائفية، وتتمرد على حصونها.

في الخلاصة، وبكل اسف وطني، لبنان الطائفي اساساً وكياناً، بحاجة إلى “حزب الله” الشيعي، ومستحيل تجاهله، ومناوأته قاصرة حتماً، ولبنان بحاجة الماروني، صاحب الامتياز التأسيسي، وبحاجة إلى السني، ذي البعد العربي المتبدِّل، وبحاجة إلى الدرزي..

اقول بكل اسف، بشرط أن يتنازل الجميع، وينزلوا عن احصنتهم الجامحة. لبنان هذا، ليس لنا، بل لهم وحدهم، وعليه، فإن من واجبهم أن يحافظوا عليه، برغم ما ارتكبوه من فساد وإفساد ونهب.

ربَّ قائل يقول: أنُسلِّم البلد للمرتكبين؟

طبعاً. لا بديل حتى الآن عنهم. “الكحل أحلى من العمى”.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  دساتير مُشوهة لتصريف الأعمال.. عربياً!